06 نوفمبر 2024
بحب السيما
كانت أمي الشابة الحسناء، في ستينيات القرن الماضي، مولعةً بالذهاب إلى السينما، وحضور الأفلام المصرية في عرضها الأول في مصر، وفي عروضٍ متكرّرةٍ في دور السينما في غزة. وكان ولعها بالسينما يحمل ذكرياتٍ كثيرة، حين تقدّم بها العمر، وصرنا نتابع معها في الأمسيات بعض الأفلام المصرية التي أصبحت قديمةً، وتعرض تحت مسمى" كلاسيكيات السينما المصرية"، فتحدثنا بصوت مفعم بالبهجة، وكأن ما كان بالأمس البعيد قد حدث في الأمس القريب، فهي لم تنس معاكسات الشباب لها، وهي تخرج من السينما مع صديقاتها، وتحتضن حقيبةً صغيرةً على صدرها الناهد، فيعلق أحدهم في تنهد: ليتني الشنطة.
كلما تحدثت أمي عن السينما، كنت أسرح بخيالي عن الشعور الذي لم أخبره حين تنطفئ الأضواء، ويسود الصمت في المكان، وتشع شاشة فضية أمام العيون فتشخص، ولكن خيالي كان يذهب بعيداً، ويصل إلى فارس أحلامٍ، سأرتطم به وسط هذا الظلام المهيب.
في ثمانينيات القرن الماضي، كنت مراهقة، وكانت أمي تتحدث عن سينما لم يعهدها جيلي، بسبب إغلاق دور السينما في غزة مع مطلع انتفاضة الحجارة، فتحت أسباب متعدّدة، أغلقت هذه الدور التي كانت تشهد، قبل ذلك، إقبالاً من الجمهور الغزّي. وعندما صرح وزير الثقافة الفلسطينية الشاب، إيهاب بسيسو، وهو غزّي بالمناسبة، إن من أولويات اهتمامات وزارة الثقافة في المرحلة المقبلة، بعد المصالحة الوطنية، إعادة السينما إلى غزة، لاقى هذا التصريح المهم تعليقاتٍ ساخرة ومسيئة من صغار العقول، والذين لا يتجاوز مفهوم السينما لديهم بأنها مكانٌ للتحرّش تحت الظلام، وكذلك شاشة لعرض الأفلام المخلة بالأدب والأخلاق. وهم لا يعرفون أن غزّة عرفت السينما منذ زمن بعيد، فأول دار، وهي "سينما السامر"، أنشئت في 1944، وكان لها اسمها وصيتها. وكان لاتصال غزة بمصر في فترة الحكم المصري لغزة دوره في نقل طقوس ارتياد السينما من مصر. وغزة وقتها لم تكن تعاني من تياراتٍ متشدّدة ولا ظلامية، ولكن أهلها كانوا على درجةٍ من البساطة، بحيث يصطحب الشاب خطيبته إلى دار السينما، ويصالح الزوج زوجته بتذكرتي سينما مسائية، بعد خلافٍ بسيط بينهما لم يتجاوز سقف بيتهما.
السينما وارتيادها ثقافة ليس سهلا أن يستوعبها الجميع. وليست دعوة إحياء دور السينما في مجتمع غزة غريبة ومستهجنة، فمثلما تحتاج البطون إلى الطعام بعد حصار استمر أحد عشر عاماً، أنهك المواطن الغزي جسدياً ونفسياً واجتماعياً، فهو بحاجة لعلاج الروح وتطهيرها، وبحاجة للمسةٍ إنسانيةٍ تتعدّى الحقوق، فالطعام والماء غير الملوث وتوفير الدواء ليست سوى حقوق يحصل عليها كل مواطن في العالم. ولكن ما قصده وزير الثقافة يشمل دور السينما من حيث ترميمها وتجهزيها للعرض، وإعادة فتحها بتذاكر دخول ميسرة السعر، من منطلق أنه يرى أن الحركة السينمائية الفلسطينية، بما فيها دور السينما، إحدى وسائل مقاومة الاحتلال، وأنه يجب أن يكون لها حضورها في المشهد النضالي الفلسطيني، وتعزيز حضور الرواية الفلسطينية عربيا ودوليا.
ويلاحظ على وسائل المقاومة الفلسطينية، عبر التاريخ النضالي الطويل، أن المتن السردي والشعري استحوذا على الصورة النضالية، وعلى حساب الحركة السينمائية التي كانت تخطو خطواتٍ وئيدة تحت مسمى "وحدة أفلام فتح".
يجب أن نشعر بالأسف والخجل مما ذهبت إليه سخرية بعضهم من أن الوزير الغزّي الذي زار غزة غير مرة، بعد اتفاق المصالحة، يصب اهتمامه على دور السينما القائمة وسط أحياء نهشها الفقر، فهو يريد أن يذهب، بخططه المقبلة، لكي تصبح الحركة السينمائية سجلاً مرئياً للإنسان الفلسطيني، وأن تصبح العدسة المناضلة في غزة الأصدق رصداً في تسجيل حياة الفلسطينيين، والغزّيين خصوصاً، خلف الجدران المتآكلة، وخلف القضبان أيضاً، ما بين صمود وشموخ ونضال، وإن لم يجتز بمخططه دار السينما التي ألهبت خيالي.
كلما تحدثت أمي عن السينما، كنت أسرح بخيالي عن الشعور الذي لم أخبره حين تنطفئ الأضواء، ويسود الصمت في المكان، وتشع شاشة فضية أمام العيون فتشخص، ولكن خيالي كان يذهب بعيداً، ويصل إلى فارس أحلامٍ، سأرتطم به وسط هذا الظلام المهيب.
في ثمانينيات القرن الماضي، كنت مراهقة، وكانت أمي تتحدث عن سينما لم يعهدها جيلي، بسبب إغلاق دور السينما في غزة مع مطلع انتفاضة الحجارة، فتحت أسباب متعدّدة، أغلقت هذه الدور التي كانت تشهد، قبل ذلك، إقبالاً من الجمهور الغزّي. وعندما صرح وزير الثقافة الفلسطينية الشاب، إيهاب بسيسو، وهو غزّي بالمناسبة، إن من أولويات اهتمامات وزارة الثقافة في المرحلة المقبلة، بعد المصالحة الوطنية، إعادة السينما إلى غزة، لاقى هذا التصريح المهم تعليقاتٍ ساخرة ومسيئة من صغار العقول، والذين لا يتجاوز مفهوم السينما لديهم بأنها مكانٌ للتحرّش تحت الظلام، وكذلك شاشة لعرض الأفلام المخلة بالأدب والأخلاق. وهم لا يعرفون أن غزّة عرفت السينما منذ زمن بعيد، فأول دار، وهي "سينما السامر"، أنشئت في 1944، وكان لها اسمها وصيتها. وكان لاتصال غزة بمصر في فترة الحكم المصري لغزة دوره في نقل طقوس ارتياد السينما من مصر. وغزة وقتها لم تكن تعاني من تياراتٍ متشدّدة ولا ظلامية، ولكن أهلها كانوا على درجةٍ من البساطة، بحيث يصطحب الشاب خطيبته إلى دار السينما، ويصالح الزوج زوجته بتذكرتي سينما مسائية، بعد خلافٍ بسيط بينهما لم يتجاوز سقف بيتهما.
السينما وارتيادها ثقافة ليس سهلا أن يستوعبها الجميع. وليست دعوة إحياء دور السينما في مجتمع غزة غريبة ومستهجنة، فمثلما تحتاج البطون إلى الطعام بعد حصار استمر أحد عشر عاماً، أنهك المواطن الغزي جسدياً ونفسياً واجتماعياً، فهو بحاجة لعلاج الروح وتطهيرها، وبحاجة للمسةٍ إنسانيةٍ تتعدّى الحقوق، فالطعام والماء غير الملوث وتوفير الدواء ليست سوى حقوق يحصل عليها كل مواطن في العالم. ولكن ما قصده وزير الثقافة يشمل دور السينما من حيث ترميمها وتجهزيها للعرض، وإعادة فتحها بتذاكر دخول ميسرة السعر، من منطلق أنه يرى أن الحركة السينمائية الفلسطينية، بما فيها دور السينما، إحدى وسائل مقاومة الاحتلال، وأنه يجب أن يكون لها حضورها في المشهد النضالي الفلسطيني، وتعزيز حضور الرواية الفلسطينية عربيا ودوليا.
ويلاحظ على وسائل المقاومة الفلسطينية، عبر التاريخ النضالي الطويل، أن المتن السردي والشعري استحوذا على الصورة النضالية، وعلى حساب الحركة السينمائية التي كانت تخطو خطواتٍ وئيدة تحت مسمى "وحدة أفلام فتح".
يجب أن نشعر بالأسف والخجل مما ذهبت إليه سخرية بعضهم من أن الوزير الغزّي الذي زار غزة غير مرة، بعد اتفاق المصالحة، يصب اهتمامه على دور السينما القائمة وسط أحياء نهشها الفقر، فهو يريد أن يذهب، بخططه المقبلة، لكي تصبح الحركة السينمائية سجلاً مرئياً للإنسان الفلسطيني، وأن تصبح العدسة المناضلة في غزة الأصدق رصداً في تسجيل حياة الفلسطينيين، والغزّيين خصوصاً، خلف الجدران المتآكلة، وخلف القضبان أيضاً، ما بين صمود وشموخ ونضال، وإن لم يجتز بمخططه دار السينما التي ألهبت خيالي.