01 نوفمبر 2024
تعقيم الإبداع وأنظمة الاستبداد
يموت عليش، بطل فيلم "طريد الفردوس" (أنتج عام 1965 أخرجه فطين عبد الوهاب، بطولة فريد شوقي وسميرة أحمد ونجوى فؤاد). وحين تصعد روحه إلى السماء، يتم إخباره هناك بأن حسناته وسيئاته متساوية، وعليه أن يعود إلى الحياة، لترجح كفة واحدة على الأخرى، كي يوضع في المكان المناسب، الفردوس أو الجحيم. يعود عليش إلى الحياة، وتبدأ مرحلة ثانية من الفيلم. ربما من المفيد جدا معرفة أن الفيلم مأخوذ عن قصة لتوفيق الحكيم، تحمل العنوان نفسه، ونشرت في خمسينيات القرن الماضي، ضمن مجموعة قصصية، تضم قصة أخرى بعنوان "انتصار إبليس".
لم يكن "طريد الفردوس" فيلما فريدا من حيث الفكرة المطروحة في السينما المصرية ذلك الوقت، فثمّة أفلام عديدة، كوميدية ودرامية، طرحت مواضيع مشابهة، تحكي عن العلاقة بين السماء والأرض عبر أشباح الموتى، وما تنقله هذه الأشباح عن الحياة في السماء، وعن الروح والجسد، وعن تنقل الأرواح بسهولة بين البشر، وعن رفض من في السماء بعض الأرواح، وإعادتها إلى الأرض، وعن الملائكة التي ترسلها السماء لتخبر البشر عن بعض الأسرار، وعن الجنة والجحيم، وعن الشيطان وانتصاره على البشر وعلى إرادة الخالق، وعن العفاريت وعلاقاتها العاطفية بالبشر. تحدثت السينما المصرية، قبل ما يقارب القرن، عن مواضيع عديدة، لا تتجرأ السينما اليوم على الخوض فيها أو حتى مقاربتها، فثمّة رقابة دينية جاهزة للقصاص، ورقابة لا تقتصر فقط على المؤسسات الدينية الرسمية، بل على أفراد من المجتمع، يجدون من حقهم مقاضاة أي فيلم أو كتاب أو مقال أو أي عمل إبداعي بتهمة المسّ بالدين وبالذات الإلهية، وبالتحريض على قيم المجتمع.
لم يكن واردا أيضا، لدى صناع السينما القديمة (والحديث دائما عن السينما المصرية لأنها التجربة السينمائية العربية الأقدم والأكثر غنى، كمّاً ونوعاً وتنوعاً)، الخوف من اعتراض محتمعي على مشهد قبلةٍ يتبادلها عاشقان في فيلم، ولا مشهد زوجين أو عاشقين في السرير. لم يكن مصطلح "السينما النظيفة" قد ظهر بعد. كانت السينما مفتوحة على الحياة، تنقل ما يحدث فيها، ما يفعله البشر وما يقولونه سرّا وعلنا. لم تكن معقمة وخالية مما يعتبرونها شوائب تعكّر صفو المجتمع العربي، وكأن هذا المجتمع يعيش في نعيم مطلق، ولا يعكر صفوه ويثير حفيظته سوى مشهد جنس في فيلم، أو شتيمة في رواية.
والمدهش، حقا، هو تزامن تكريس أنظمة الاستبداد حكمها في الدول العربية مع محاولات تعقيم الإبداع، اجتماعيا وسياسيا ودينيا. يُحكى في سورية، قبل سنوات من الثورة، أن زوجة مدير المطبوعات في وزارة الثقافة أتلفت مخطوطا شعريا لشاعر سوري، لأن في المخطوط ألفاظ لم تعجبها! ويحكى أن وزير الثقافة أمر بعدم عرض لوحات نساء عاريات في معرض جماعي لفنانين سوريين، خشية على أخلاق المجتمع! تدخلت ذات يوم دار الإفتاء لمنع شاعر سوري من الكتابة في الصحافة، بسبب قصيدة نشرت له في ملحق ثقافي، قيل إنها تحض على الرذيلة.
وتبدو الممنوعات، في مصر، أكثر وضوحا، بسبب ما تنتجه مصر من كم كبير في عالم الإبداع. والقضية المرفوعة أخيرا ضد فيلم "الشيخ جاكسون" مثل صغير على ما يحدث. ولعل تدمير جزائري تمثال امرأة عارية في مدينة سطيف، واستهداف الأثداء والعضو التناسلي، مثالٌ على حالة التراجع والتخلف الاجتماعي التي أخضع لها العرب في ظل أنظمة الاستبداد العربية، المتحالفة مع المؤسسات الدينية.
لم تصبح الشعوب العربية متخلفةً فجأة. بذلت أنظمة الاستبداد العربي وحلفاؤها جهودا طويلة الأمد، وصرفت أموالا طائلة في سبيل إبقاء هذه الشعوب تعيش في ظل الجهل والتخلف والتغييب. وأباحت للإعلام والقضاء محاكمة الإبداع، بتهم الهرطقة والزندقة والمس بأخلاق المجتمع، حتى أصبح من حقّ أي موتورٍ، أو متخلف وجاهل، محاكمة أهم مبدع من دون أي وازع، فهو يعرف مسبقا أنه محميٌّ، مادام ما يفعله يصب في خانة النظام الحاكم في بلده. ثم يسألون: لماذا انحرفت الثورات نحو التطرّف؟ ومن أين جاء الفكر الداعشي؟
لم يكن "طريد الفردوس" فيلما فريدا من حيث الفكرة المطروحة في السينما المصرية ذلك الوقت، فثمّة أفلام عديدة، كوميدية ودرامية، طرحت مواضيع مشابهة، تحكي عن العلاقة بين السماء والأرض عبر أشباح الموتى، وما تنقله هذه الأشباح عن الحياة في السماء، وعن الروح والجسد، وعن تنقل الأرواح بسهولة بين البشر، وعن رفض من في السماء بعض الأرواح، وإعادتها إلى الأرض، وعن الملائكة التي ترسلها السماء لتخبر البشر عن بعض الأسرار، وعن الجنة والجحيم، وعن الشيطان وانتصاره على البشر وعلى إرادة الخالق، وعن العفاريت وعلاقاتها العاطفية بالبشر. تحدثت السينما المصرية، قبل ما يقارب القرن، عن مواضيع عديدة، لا تتجرأ السينما اليوم على الخوض فيها أو حتى مقاربتها، فثمّة رقابة دينية جاهزة للقصاص، ورقابة لا تقتصر فقط على المؤسسات الدينية الرسمية، بل على أفراد من المجتمع، يجدون من حقهم مقاضاة أي فيلم أو كتاب أو مقال أو أي عمل إبداعي بتهمة المسّ بالدين وبالذات الإلهية، وبالتحريض على قيم المجتمع.
لم يكن واردا أيضا، لدى صناع السينما القديمة (والحديث دائما عن السينما المصرية لأنها التجربة السينمائية العربية الأقدم والأكثر غنى، كمّاً ونوعاً وتنوعاً)، الخوف من اعتراض محتمعي على مشهد قبلةٍ يتبادلها عاشقان في فيلم، ولا مشهد زوجين أو عاشقين في السرير. لم يكن مصطلح "السينما النظيفة" قد ظهر بعد. كانت السينما مفتوحة على الحياة، تنقل ما يحدث فيها، ما يفعله البشر وما يقولونه سرّا وعلنا. لم تكن معقمة وخالية مما يعتبرونها شوائب تعكّر صفو المجتمع العربي، وكأن هذا المجتمع يعيش في نعيم مطلق، ولا يعكر صفوه ويثير حفيظته سوى مشهد جنس في فيلم، أو شتيمة في رواية.
والمدهش، حقا، هو تزامن تكريس أنظمة الاستبداد حكمها في الدول العربية مع محاولات تعقيم الإبداع، اجتماعيا وسياسيا ودينيا. يُحكى في سورية، قبل سنوات من الثورة، أن زوجة مدير المطبوعات في وزارة الثقافة أتلفت مخطوطا شعريا لشاعر سوري، لأن في المخطوط ألفاظ لم تعجبها! ويحكى أن وزير الثقافة أمر بعدم عرض لوحات نساء عاريات في معرض جماعي لفنانين سوريين، خشية على أخلاق المجتمع! تدخلت ذات يوم دار الإفتاء لمنع شاعر سوري من الكتابة في الصحافة، بسبب قصيدة نشرت له في ملحق ثقافي، قيل إنها تحض على الرذيلة.
وتبدو الممنوعات، في مصر، أكثر وضوحا، بسبب ما تنتجه مصر من كم كبير في عالم الإبداع. والقضية المرفوعة أخيرا ضد فيلم "الشيخ جاكسون" مثل صغير على ما يحدث. ولعل تدمير جزائري تمثال امرأة عارية في مدينة سطيف، واستهداف الأثداء والعضو التناسلي، مثالٌ على حالة التراجع والتخلف الاجتماعي التي أخضع لها العرب في ظل أنظمة الاستبداد العربية، المتحالفة مع المؤسسات الدينية.
لم تصبح الشعوب العربية متخلفةً فجأة. بذلت أنظمة الاستبداد العربي وحلفاؤها جهودا طويلة الأمد، وصرفت أموالا طائلة في سبيل إبقاء هذه الشعوب تعيش في ظل الجهل والتخلف والتغييب. وأباحت للإعلام والقضاء محاكمة الإبداع، بتهم الهرطقة والزندقة والمس بأخلاق المجتمع، حتى أصبح من حقّ أي موتورٍ، أو متخلف وجاهل، محاكمة أهم مبدع من دون أي وازع، فهو يعرف مسبقا أنه محميٌّ، مادام ما يفعله يصب في خانة النظام الحاكم في بلده. ثم يسألون: لماذا انحرفت الثورات نحو التطرّف؟ ومن أين جاء الفكر الداعشي؟