06 نوفمبر 2024
مطلوب عروسة
قضيت سنوات عمري الماضية، وأنا أحفظ كل ما يرويه أبي، ومن قبله جدي، عن قريتنا الصغيرة التي هاجر منها جدّي إبّان نكبة فلسطين في العام 1948، ولا زلت أرى أني أنهل من نبع لا ينضب من ذكرياتٍ ومعالم وأحداث وعوالم متخيلة، وقد رسمت في هذه العوالم صورة مثالية لأبي أيضاً، لأنه الابن البار الذي رفض العمل في دول الخليج بعد نكسة 1967 ونزوح شبابٍ كثيرين، بحثا عن الاستقرار والرزق، وآثر أن يبقى في غزة، لكي يرعى والديه المسنّين. وكنت أرى أبي زوجاً قليلا ما يتكرّر، بسبب وفائه لأمي، فهو تعرّف إليها بعد أن استقر بهم الحال في غزة، وكانت عائلة أمي قد نزحت من مدينة يافا عروس فلسطين، فيما كان أبي وعائلته يصنفان فلاحين. ولذلك واجه زواجهما الاعتراض من العائلتين، حتى انتصر اختيارهما في النهاية، وعاشا معاً أربعين عاماً في تفاهم واحترام، أما الحب فكانت تكشفه دفاتر الأيام صفحة بعد صفحة.
قبل أيام قليلة، ومع اقتراب حلول ذكرى نكبة فلسطين، أنصتّ بكل حواسي لأبي، وهو يتحدّث عن أيام النكبة والنزوح إلى غزة، وتطرّق لأول مرة للحديث عن عمله معلماً في مدارس "أونروا" (وكالة الغوث لتشغيل اللاجئين الفلسطينيين). وهنا ابتسم، وهو يعيد رأسه إلى الوراء، ويروي قصة أسمعها للمرة الأولى في حياتي، ومفادها بأن كل عائلة لاجئة في غزة كانت تحصل على بطاقةٍ تفيد بذلك، وتعرف بـاسمها "كرت المؤن"، وهي سر الحياة في ذلك الوقت، لأنه بموجبها يحصل رب العائلة على كل الامتيازات المقدمة من "أونروا" كمنظمة إغاثية لهؤلاء البؤساء الذين فقدوا أراضيهم وبيوتهم، وتركوا أموالهم وممتلكاتهم خلفهم. وقد كان من أحد شروط "أونروا" وقتها، والحديث عن مطلع ستينات القرن الماضي، أن الأب الذي يعمل موظفاً لدى جهةٍ ما، مثل أن يكون موظفا لدى الإدارة المصرية التي كانت تمسك الحكم في غزة، يفقد "كرت المؤن"، ولا يحصل على معونات عينية من "أونروا"، كونه يمتلك راتباً شهرياً. وعلى ذلك، كانت عائلة جدي من العائلات المحرومة، لأن جدّي كان موظفاً لدى الانتداب البريطاني، ثم أصبح موظفاً في هيئة السكة الحديد التابعة للإدارة المصرية. وهكذا كان من المستحيل أن يلتحق أبي بالعمل مدرساً في مدارس "أونروا"، لأنه غير مصنف لاجئا مستفيدا من خدماتها. ولم يكن هناك من حل أمامه، ومثله شبابٌ كثيرون، سوى أن يتزوج لكي ينفصل عن عائلة والده. ولذلك، انتشرت حينها ظاهرة الزواج الصوري، فتم عقد قران أبي على مسنةٍ لاجئة سبعينية، لا يذكر سوى اسمها، وحصل على الوظيفة. وظل أبي، بموجب الاتفاق مع زوجته العجوز، يرسل إليها راتباً شهرياً قدره جنيهان مصريان، حتى مرّ على هذا الحال عامان أو أكثر، وقد تنبهت "أونروا" لهذه العقود المبرمة بين موظفين شباب ومسنات، فقرّرت أن تحسم من راتب كل موظف في هذه الهيئة، بأثرٍ رجعي، ما حصل عليه من مخصصات إعانة للزوجة، ما لم يتم فسخ هذه العقود الوهمية، وقام أبي بتطليق زوجته وهي تبكي وتنتحب، لأنها خسرت الراتب الذي كان وقتها يساوي ثروة.
المضحك المبكي أن جدّي كان قد سار على هذا الطريق قبل أبي، فقد كان أرباب العوائل الذين تحصل بناتهم على وظائف في "أونروا"، ولكي لا ينقطع "كرت المؤن" عن العائلة، يزوجونهن لرجال مسنين زواجاً صورياً، لإثبات أنهن منفصلات عن العائلة، ويُعِلن أسراً مستقلة، والنتيجة أن جدّي تزوج بثلاث فتيات عشرينيات، وهو في الخمسين من عمره، وتحت سمع جدتي وبصرها، ولكن كخدمة وأملا في الأجر والثواب من رب العباد، لم يتقاض جنيهاً واحداً، فقد كان جدي رجلا شهما. والأمر بالنسبة له لن يكلفه سوى الوصول إلى المحكمة، ولم يفكر جدّي ولا أبي بالضوابط الشرعية، ولست أحسب أن إثماً قد ارتكبه هؤلاء، لأن جريمتهم الكبرى هي أنهم لاجئون فلسطينيون.