08 نوفمبر 2024
التاريخ يعيد نفسه
من أفلام السيرة الجميلة، تمثيلاً وكتابة سيناريو وإخراجاً، "playing for time"، الذي تم إنتاجه عام 1980. يحكي عن المدة التي عاشتها عازفة البيانو والمغنية الفرنسية، فانيا فينيلون، في معسكر أوشفيتز النازي للاعتقال والإبادة الذي بنته ألمانيا النازية في بولندا إثر احتلالها لها في الحرب العالمية الثانية، وهو أحد أكبر معسكرات الاعتقال النازية، وفيه أنشئت أكبر غرف الإعدام بالغاز لليهود المرحّلين إليه من كل أوروبا عبر القطارات التي كانت تنقل الضحايا بلا توقف.
تُساق فانيا اليهودية الفرنسية إلى المعسكر، (لعبت دورها في الفيلم العظيمة فانيسا ردغريف)، لتصبح المغنية الأولى في فرقة السيمفوني النسائية التي تم تشكيلها من النساء اليهوديات والبولنديات الموسيقيات والمغنيات. مهمة هذه الفرقة هي الترفيه عن قادة المعسكر، وتحديداً عن الطبيب جوزيف مينغليه ومساعديه، (الطبيب مينغليه لُقب بملاك الموت، بسبب تجاربه غير الإنسانية في المعسكر ضد المعتقلين)، وأيضاً لاستخدام الفرقة في العزف في المعتقلات التي يُراد إرسال نزلائها إلى المحرقة صباح اليوم التالي؛ نوعاً من "الترفيه الإنساني" الأخير للضحايا.
تتمحور أحداث الفيلم حول فكرة أساسية، يدل عليها اسم الفيلم المأخوذ أصلاً عن كتاب صدر عام 1976 بتوقيع فانيا فينيلون عن تجربتها في معسكر الموت الشهير، الفكرة هي كيف يمكن للبشري أن يتلاعب بالزمن ليكسب مزيداً من الوقت، مبعداً عنه موتاً مؤكداً.. كانت الموسيقى بالنسبة لنساء الفرقة الطريقة الوحيدة لتجنب الموت، إذ أتيحت لهن هذه الفرصة النادرة للبقاء على قيد الحياة. كان عليهن استغلالها حتى النهاية، كان الهدف الأول بقاؤهن على قيد الحياة، بأية طريقةٍ كانت. الجوع الذي فُرض عليهن دفع إحداهن إلى تقديم جسدها للحراس، وللجلاد شخصياً، كي تحظى بما يسد رمقها، رافضة الإصغاء إلى النصائح الأخلاقية، وإلى احتقار رفيقاتها لها، كونها تخرج عن الخط الأخلاقي الذي ينبغي أن تكون عليه اليهوديات، وهو ما عبّرت عن بطلة الفيلم في مشهد مدهش، حين قالت: أنا لست يهودية، لست ضمن هذا القطيع، أنا أنتمي للبشر ولإنسانيتي فقط. في ردّها على إعلان كثيرات من الفرقة إصرارهن على البقاء على قيد الحياة، من أجل هدف واحد: رؤية أرض الميعاد ذات يوم.
في المحور المقابل لمحور النساء الموسيقيات، هناك الضباط والحرّاس النازيون، رجالاً ونساء، بكل ما كانوا يمارسونه من إجرام بحق سجنائهم، بينما يظهر الوجه الآخر لهم في تفاصيل حياتهم الأخرى، علاقتهم بالموسيقى وتعلقهم بها وبالفنون، قدرتهم على تمييز الجمال والتمتع به. ثمة اثنان في كل منهم، الجلاد والإنسان. الأول يمارس القتل والتعذيب كما لو كان عملاً عادياً، مثل أية مهنة أخرى، ويحتاج للموسيقى كي يؤدي عمله بإتقان أكبر، فالموسيقى علاج للمقصّرين في عملهم: (غناؤك وعزفك يساعداني في عملي)، يقول الطبيب مينغليه لفانيا في أحد مشاهد الفيلم.
ما الذي يجعل إنساناً مثقفاً وطبيباً معروفاً، مثل مينغليه، يمارس القتل والتعذيب، ويجري تجارب على البشر، كما لو أنهم فئران، من دون أن تهتز فيه شعرة واحدة؟! ما الذي يجعل شخصاً كهذا، والتاريخ القديم والحديث مليء بأمثلةٍ من هذا النوع، يرى في قتل الآخرين المختلفين أمراً عادياً، وليس جريمة بحق إنسانيته، فيقتل وهو يستمع إلى أرقى أنواع الموسيقى، أو يقتل ثم يحضن أولاده ليلاً، ويمارس الحب مع حبيبته بكل رومانسية؟! هل الإيديولوجيا تلغي جانباً إنسانياً مهمّاً في النفس البشرية، بحيث يحصل مثل هذا الفصام؟! هل يكمل من يفعلون ذلك حياتهم بشكل طبيعي، بعد انتهاء الحروب؟! كيف يعيش جلادو المعتقلات وكأن ما يفعلونه خدمة نبيلة للإنسانية؟ كيف استطاع اليهود الذين مورست بحقهم أكبر مجازر التاريخ أن يتحولوا محتلين وقتلة ضد شعب مسالم؟! كلها أسئلة ترافقت عندي مع السؤال السوري الكبير: كيف يفعل السوريون ما فعلوه بأبناء بلدهم؟ لدى الألمان النازيين واليهود أعداء خارجيون، ربما هذا يبرر قليلاً، لكن كيف سيحتمل طيار، ألقى براميل الموت أو قنابل حارقة ومدمرة على أهل بلده، وزر ما اقترفه؟
"ما يؤلمني أنني أرى الإنسانية وهي تسير في طريقها النهائي نحو الدمار".. تقول فانيا فينيليون في مشهدٍ من الفيلم. لكن يبدو أن الطريق نحو دمار الإنسانية يلزمه دائماً مزيد من الضحايا.
تُساق فانيا اليهودية الفرنسية إلى المعسكر، (لعبت دورها في الفيلم العظيمة فانيسا ردغريف)، لتصبح المغنية الأولى في فرقة السيمفوني النسائية التي تم تشكيلها من النساء اليهوديات والبولنديات الموسيقيات والمغنيات. مهمة هذه الفرقة هي الترفيه عن قادة المعسكر، وتحديداً عن الطبيب جوزيف مينغليه ومساعديه، (الطبيب مينغليه لُقب بملاك الموت، بسبب تجاربه غير الإنسانية في المعسكر ضد المعتقلين)، وأيضاً لاستخدام الفرقة في العزف في المعتقلات التي يُراد إرسال نزلائها إلى المحرقة صباح اليوم التالي؛ نوعاً من "الترفيه الإنساني" الأخير للضحايا.
تتمحور أحداث الفيلم حول فكرة أساسية، يدل عليها اسم الفيلم المأخوذ أصلاً عن كتاب صدر عام 1976 بتوقيع فانيا فينيلون عن تجربتها في معسكر الموت الشهير، الفكرة هي كيف يمكن للبشري أن يتلاعب بالزمن ليكسب مزيداً من الوقت، مبعداً عنه موتاً مؤكداً.. كانت الموسيقى بالنسبة لنساء الفرقة الطريقة الوحيدة لتجنب الموت، إذ أتيحت لهن هذه الفرصة النادرة للبقاء على قيد الحياة. كان عليهن استغلالها حتى النهاية، كان الهدف الأول بقاؤهن على قيد الحياة، بأية طريقةٍ كانت. الجوع الذي فُرض عليهن دفع إحداهن إلى تقديم جسدها للحراس، وللجلاد شخصياً، كي تحظى بما يسد رمقها، رافضة الإصغاء إلى النصائح الأخلاقية، وإلى احتقار رفيقاتها لها، كونها تخرج عن الخط الأخلاقي الذي ينبغي أن تكون عليه اليهوديات، وهو ما عبّرت عن بطلة الفيلم في مشهد مدهش، حين قالت: أنا لست يهودية، لست ضمن هذا القطيع، أنا أنتمي للبشر ولإنسانيتي فقط. في ردّها على إعلان كثيرات من الفرقة إصرارهن على البقاء على قيد الحياة، من أجل هدف واحد: رؤية أرض الميعاد ذات يوم.
في المحور المقابل لمحور النساء الموسيقيات، هناك الضباط والحرّاس النازيون، رجالاً ونساء، بكل ما كانوا يمارسونه من إجرام بحق سجنائهم، بينما يظهر الوجه الآخر لهم في تفاصيل حياتهم الأخرى، علاقتهم بالموسيقى وتعلقهم بها وبالفنون، قدرتهم على تمييز الجمال والتمتع به. ثمة اثنان في كل منهم، الجلاد والإنسان. الأول يمارس القتل والتعذيب كما لو كان عملاً عادياً، مثل أية مهنة أخرى، ويحتاج للموسيقى كي يؤدي عمله بإتقان أكبر، فالموسيقى علاج للمقصّرين في عملهم: (غناؤك وعزفك يساعداني في عملي)، يقول الطبيب مينغليه لفانيا في أحد مشاهد الفيلم.
ما الذي يجعل إنساناً مثقفاً وطبيباً معروفاً، مثل مينغليه، يمارس القتل والتعذيب، ويجري تجارب على البشر، كما لو أنهم فئران، من دون أن تهتز فيه شعرة واحدة؟! ما الذي يجعل شخصاً كهذا، والتاريخ القديم والحديث مليء بأمثلةٍ من هذا النوع، يرى في قتل الآخرين المختلفين أمراً عادياً، وليس جريمة بحق إنسانيته، فيقتل وهو يستمع إلى أرقى أنواع الموسيقى، أو يقتل ثم يحضن أولاده ليلاً، ويمارس الحب مع حبيبته بكل رومانسية؟! هل الإيديولوجيا تلغي جانباً إنسانياً مهمّاً في النفس البشرية، بحيث يحصل مثل هذا الفصام؟! هل يكمل من يفعلون ذلك حياتهم بشكل طبيعي، بعد انتهاء الحروب؟! كيف يعيش جلادو المعتقلات وكأن ما يفعلونه خدمة نبيلة للإنسانية؟ كيف استطاع اليهود الذين مورست بحقهم أكبر مجازر التاريخ أن يتحولوا محتلين وقتلة ضد شعب مسالم؟! كلها أسئلة ترافقت عندي مع السؤال السوري الكبير: كيف يفعل السوريون ما فعلوه بأبناء بلدهم؟ لدى الألمان النازيين واليهود أعداء خارجيون، ربما هذا يبرر قليلاً، لكن كيف سيحتمل طيار، ألقى براميل الموت أو قنابل حارقة ومدمرة على أهل بلده، وزر ما اقترفه؟
"ما يؤلمني أنني أرى الإنسانية وهي تسير في طريقها النهائي نحو الدمار".. تقول فانيا فينيليون في مشهدٍ من الفيلم. لكن يبدو أن الطريق نحو دمار الإنسانية يلزمه دائماً مزيد من الضحايا.