31 أكتوبر 2024
الاستثمار في حقوق الإنسان
يخلّد العالم الذكرى الحادية والسبعين لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ومثّل صدوره (10 ديسمبر/ كانون الأول 1948) لحظةً تاريخيةً وتأسيسيةً في تطور المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، فقد كان بمثابة صحوة ضمير كونية، في ظل ما خلفته الحربان العالميتان، الأولى والثانية، من مآسٍ وويلات، وفي الوقت نفسه، جسّد تطلع الإنسانية إلى أفقٍ جديدٍ، يُصان فيه السلم والأمن الدوليان، انسجاما مع ميثاق الأمم المتحدة، حديث العهد آنذاك.
وعلى الرغم من أن صدور هذا الإعلان كان محكوما بتوافق القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وهو ما يدل عليه التوازنُ البادي بين الحقوق المدنية والسياسية ذات المنشأ الرأسمالي الليبرالي، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ذات المنشأ الاشتراكي، إلا أنه ساهم في إرساء منظومةٍ حقوقيةٍ متكاملة، ما فتئت تغتني بمواثيق واتفاقيات وبروتوكولات تواتر صدورُها، ما ساعد على شيوع ثقافة حقوق الإنسان وانتشارها.
وفي وقتٍ كان يُتوقع أن تُنتج هذه الوثيقة امتداداتها الأخلاقية والقانونية والسياسية على صعيد الممارسة، ظلت الفجوة تتسع بين مقتضياتها، كأفق يسعى إلى الانعتاق من مختلف أشكال القمع والتسلط، وواقع الحقوق والحريات كما يتبدّى في سلوك الدول والجماعات والأفراد، فلم تكن الانتهاكات التي شهدها العالم، خلال العقود الماضية، أقل فظاعةً من التي شهدتها الحربان العالميتان، فقد قُتل وشُرّد وهُجّر ملايين الأبرياء على خلفية حروب ونزاعات مختلفة، نسبةٌ كبيرةٌ منها كانت ضمن تقاطبات القوة والنفوذ بين القوى الدولية الكبرى.
وشكلت حقوق الإنسان موردَ سلطةٍ استثمرته هذه القوى في سياساتها الخارجية، فخلال الحرب الباردة لم تتوان الولايات المتحدة، مثلا، عن توظيف هذه الحقوق في علاقتها بالاتحاد السوفييتي البائد وحلفائه، بينما كانت تغضّ الطرف عن الانتهاكات في البلدان الحليفة لها. ولكن نهاية هذه الحرب جعلتها تعيد جدولـة أولياتها بتغيير سياستها تجاه هذه البلدان من خلال الضغط عليها، بغاية إدخال بعض اللبرلة على أدائها السياسي. وساهم ذلك في حدوث انفراجاتٍ سياسيةٍ في عدة بلدان تمثلت، بالأساس، في العفو عن المعتقلين السياسيين، ووضع دساتير جديدة، وتوسيع هامش المشاركة السياسية.
غير أن الأمر، في الواقع، لم يكن أكثر من أوهامٍ باعتها أنظمةٌ مستبدةٌ لشعوبها التي سرعان ما استفاقت على الحقيقة المُرّة، حين أدركت أن تبنّي هذه الأنظمة حقوق الإنسان كان مجرّد انحناء للعاصفة الفكرية والسياسية التي جسّدها صعود خطاب الديمقراطية وحقوق الإنسان مع نهاية الثمانينيات. وما إن تبدلت الأوليات، ولا سيما عقب أحداث "11 سبتمبر" في العام 2001، حتى عادت القوى الكبرى والمؤسسات المانحة إلى الاستثمار في هذه الحقوق والمساومة بها، من خلال ازدواجية المعايير الدولية والكيل بمكيالين في تنزيل مقتضيات القانون الدولي الإنساني. هذا من دون إغفال الدور الذي لعبه الرأسمال الدولي العابر للحدود، ولا يزال، في بناء علاقات اقتصادية تساعد على نهب ثروات البلدان المستضعفة تحت غطاء اتفاقات التبادل الحر في ضربٍ سافرٍ لحقها في التنمية.
وكشفت الثورات العربية نفاق الغرب في تعاطيه مع تطلع شعوب المنطقة نحو الحرية والكرامة والديمقراطية، فآثر الصمت على الانقلاب الذي أطاح الشرعية في مصر، وساند الثورة المضادة في مساعيها لإجهاض التحوّل الديمقراطي في ليبيا ولبنان والعراق، ولم يقدّم الدعم الاقتصادي الكافي لتونس لتأمين تجربتها الديمقراطية، ولم يُبد كثير اكتراث بالمقتلتين السورية واليمنية وتداعياتهما الإنسانية.
لا تعني انتهاكات حقوق الإنسان الكثير، بالنسبة للغرب، إذا كان ضحاياها مسلمين في ميانمار، أو نساء وأطفال أبرياء في غزة، لكنها تعني له الكثير إذا كان الضحايا مواطنين غربيين قضوا في هذا الهجوم الإرهابي أو ذاك، فالحرص على حماية هذه الحقوق لا يكتسي دلالته وفق المنظور الغربي، غير المعلن طبعا، إلا داخل المجتمعات الغربية التي دفعت، على امتداد قرنين، تكاليفَ باهظةً لحيازة هذه الحقوق، وتحويلها مكاسبَ وجودية وثقافية، يستحيل التفريط فيها.
وبهذا لا تكون حقوق الإنسان كونيةً ومقدسة إلا في السياق الغربي، بينما في السياقات الأخرى هي مجرّد مورد سياسي للاستثمار والمساومة، بما لا يتعارض مع مصالح القوى الدولية الكبرى.
وفي وقتٍ كان يُتوقع أن تُنتج هذه الوثيقة امتداداتها الأخلاقية والقانونية والسياسية على صعيد الممارسة، ظلت الفجوة تتسع بين مقتضياتها، كأفق يسعى إلى الانعتاق من مختلف أشكال القمع والتسلط، وواقع الحقوق والحريات كما يتبدّى في سلوك الدول والجماعات والأفراد، فلم تكن الانتهاكات التي شهدها العالم، خلال العقود الماضية، أقل فظاعةً من التي شهدتها الحربان العالميتان، فقد قُتل وشُرّد وهُجّر ملايين الأبرياء على خلفية حروب ونزاعات مختلفة، نسبةٌ كبيرةٌ منها كانت ضمن تقاطبات القوة والنفوذ بين القوى الدولية الكبرى.
وشكلت حقوق الإنسان موردَ سلطةٍ استثمرته هذه القوى في سياساتها الخارجية، فخلال الحرب الباردة لم تتوان الولايات المتحدة، مثلا، عن توظيف هذه الحقوق في علاقتها بالاتحاد السوفييتي البائد وحلفائه، بينما كانت تغضّ الطرف عن الانتهاكات في البلدان الحليفة لها. ولكن نهاية هذه الحرب جعلتها تعيد جدولـة أولياتها بتغيير سياستها تجاه هذه البلدان من خلال الضغط عليها، بغاية إدخال بعض اللبرلة على أدائها السياسي. وساهم ذلك في حدوث انفراجاتٍ سياسيةٍ في عدة بلدان تمثلت، بالأساس، في العفو عن المعتقلين السياسيين، ووضع دساتير جديدة، وتوسيع هامش المشاركة السياسية.
غير أن الأمر، في الواقع، لم يكن أكثر من أوهامٍ باعتها أنظمةٌ مستبدةٌ لشعوبها التي سرعان ما استفاقت على الحقيقة المُرّة، حين أدركت أن تبنّي هذه الأنظمة حقوق الإنسان كان مجرّد انحناء للعاصفة الفكرية والسياسية التي جسّدها صعود خطاب الديمقراطية وحقوق الإنسان مع نهاية الثمانينيات. وما إن تبدلت الأوليات، ولا سيما عقب أحداث "11 سبتمبر" في العام 2001، حتى عادت القوى الكبرى والمؤسسات المانحة إلى الاستثمار في هذه الحقوق والمساومة بها، من خلال ازدواجية المعايير الدولية والكيل بمكيالين في تنزيل مقتضيات القانون الدولي الإنساني. هذا من دون إغفال الدور الذي لعبه الرأسمال الدولي العابر للحدود، ولا يزال، في بناء علاقات اقتصادية تساعد على نهب ثروات البلدان المستضعفة تحت غطاء اتفاقات التبادل الحر في ضربٍ سافرٍ لحقها في التنمية.
وكشفت الثورات العربية نفاق الغرب في تعاطيه مع تطلع شعوب المنطقة نحو الحرية والكرامة والديمقراطية، فآثر الصمت على الانقلاب الذي أطاح الشرعية في مصر، وساند الثورة المضادة في مساعيها لإجهاض التحوّل الديمقراطي في ليبيا ولبنان والعراق، ولم يقدّم الدعم الاقتصادي الكافي لتونس لتأمين تجربتها الديمقراطية، ولم يُبد كثير اكتراث بالمقتلتين السورية واليمنية وتداعياتهما الإنسانية.
لا تعني انتهاكات حقوق الإنسان الكثير، بالنسبة للغرب، إذا كان ضحاياها مسلمين في ميانمار، أو نساء وأطفال أبرياء في غزة، لكنها تعني له الكثير إذا كان الضحايا مواطنين غربيين قضوا في هذا الهجوم الإرهابي أو ذاك، فالحرص على حماية هذه الحقوق لا يكتسي دلالته وفق المنظور الغربي، غير المعلن طبعا، إلا داخل المجتمعات الغربية التي دفعت، على امتداد قرنين، تكاليفَ باهظةً لحيازة هذه الحقوق، وتحويلها مكاسبَ وجودية وثقافية، يستحيل التفريط فيها.
وبهذا لا تكون حقوق الإنسان كونيةً ومقدسة إلا في السياق الغربي، بينما في السياقات الأخرى هي مجرّد مورد سياسي للاستثمار والمساومة، بما لا يتعارض مع مصالح القوى الدولية الكبرى.