31 ديسمبر 2020
الجزائر من بوتفليقة إلى القايد صالح
آخر ما يطمح له الجزائريون الذين يناضلون من أجل انتقالٍ سلسٍ وفعليّ نحو الديمقراطية هو صناعة "سيسي" جديد في الجزائر؛ أو إعادة تكرار ما أصبح يصطلح عليها بـ"متلازمة الجزائر"، أي ثورة، رئيس منتخب (قد يكون إسلاميا)، ومن ثم انقلاب عسكري يبتلع الثورة ومخرجاتها، ويكرّس انقلابه باعتباره ثورةً، والمنقلب الأساسي باعتباره منقذًا. ومن حقّ الجزائريين، نخباً وشعباً، أن يقلقوا على ثورتهم وديمقراطيتهم، وأن يخافوا عليها من رجلٍ عطّل الانتقال الديمقراطي، ودار حوله مائة دروة، من دون أنّ يلامس جوهره، وأن يخوض في تحقيق خطوات عملية بشأنه.
أسقطت ثورة الجزائريين الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وأجهضت مشروع الولاية الخامسَة التّي هندسها محيط الرئيس وشركائه؛ من دون أن يُنسى أنّ رئيس أركان الجيش، أحمد القايد صالح، كان داعماً شرساً لآل بوتفليقة، وكان له دور ريادي في إضعاف خصوم النظام، وترجيح الكفّة لصالح الجماعة الحاكمَة التي أصبحت فجأة "عصابة". وعقب استقالة بوتفليقة، وجدت الجزائر نفسها أمام خيارين رئيسيين: تطبيق الدستور الذي كان بوتفليقة سيعدّله، لو سمح له الشعب بتمرير مشروع تمديد ولايته سنة أخرى. إطلاق حوار وطني يؤسس لنظام سياسي ديمقراطي تتم التوطئة له بدستور ديمقراطي وضمانات انتخابية، وغير ذلك ممّا تقتضيه الديمقراطية، بوصفها نظاما سيّاسيا، شكّل قلب شعارات الاحتجاجات. سمّي المسار الأوّل دستورياً، فيما سميّ الثاني سياسياً.
وقد كان القايد صالح من رواد المسار الدستورِي والمدافعين عنه، بحجّة أنّ غير ذلك سيودي
بالجزائر إلى فراغٍ دستوري ومؤسسّاتي؛ لكنّ قراره أنتج نقيضه، إذ تسير الجزائر، بسبب القايد صالح، بخطىَ ثابتة نحو الفراغ، بعدما تمّ استنفاد الحلول الدستورية الإجرائية الواضحة. ومن المبرّرات الأخرى التي دفع بها رئيس هيئة الأركان، أو ترك المهمة لجماعته، أنّ الإصلاحات التّي تطالب بها الاحتجاجات تحتاج هامشا من الاستقرار، يتوفر بوجود رئيس منتخب، في الوقت الذي لم تحتج عملية ضمّ المخابرات عنوةً إلى وزارة الدفاع، ومعه إقالة رئيسها، سوى إلى القايد صالح، في وقتٍ يحتكر رئيس الجمهورية باعتباره وزيراً للدفاع سلطة إعادة هندسة المؤسسات الأمنية وترتيبها.
ليس هناك تفسير واضح لسلوك القايد صالح، باعتباره لعب دوراً تحت ضغط الاحتجاجات في إسقاط بوتفليقة، ومن بعدها التحكّم في مجريات الأمور، سوى اعتبار كلّ ما حصل تدخّلا لإعادة رسم حدود النظام وشكله ونخبه؛ أي أنّ ما فعله هو إنقاذ النظام من السقوط عبر استبدال أشخاصٍ كانوا أقرب من آل بوتفليقة بأشخاصٍ يُراد لهم أن يكونوا تحت إمرة صالح. إذ من الصعب تصوّر انتخابات تلبي التطلّعات الثورية بأدوات النظام السابق، وقواعده، وشخوصه الذين تدربوا عقدين على الكذب السياسي والتزوير.
وقد أتاحت طبيعة النظام الحاكم في الجزائر وبنيته للقايد صالح أن يلعب دوراً سياسيا استثنائيا، ربّما لم يكن "يحلم" أن يلعبه، بدءاً من تعويل بوتفليقة عليه على حساب إضعاف المخابرات في صفقةٍ تاريخية تجعله الرجّل الأوّل في المؤسسة العسكرية، من دون منافسٍ يوازيه شكلاً ونفوذاً، وصولاً إلى ضعف المعارضة وانقسام الأحزاب الكبرى، ليس بين دعم المطالب الشعبية من عدمه، بل بين القايد صالح والسعيد بوتفليقة الذي أضحى ملاحَقاً بعد أنّ كان رجل القصر الأوّل.
نقطة الخلاف الرئيسية بين القايد صالح والقوى الثورية التي أضحت عرضةً للهجوم والتخوين وحتّى الملاحقة في استنساخ واضح للطريقة السيساوية (ولكن في نسخةٍ قد تكون ألطف)؛ هي قراءة الاحتجاجات، وموقعها ضمن تاريخ المطلب الديمقراطي في الجزائر. يرى القايد صالح الاحتجاجات حدثا سيّاسيا عارضا يجب التحكّم فيه، والقفز عليه بمنطق "الديسيبلين" العسكري، وإغراقه بشرعياتٍ ثورية قديمة، كان بوتفليقة ينافسه عليها، ويمنع نفاذها بهذا الحجم إلى وسائل الإعلام الرسمية التي تبدو، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، ناطقة باسمه. بينمَا، ننظر إلى احتجاجات فبراير وما بعدها نظرة تفرّد، وأملٍ، وفرصةً للتأسيس لنظامٍ سياسيّ ديمقراطي يُتيح للجزائر فرصة الولوج إلى النادي الديمقراطي، وكسب مقوماته من دستورٍ ديمقراطي وقيم ثقافية ديمقراطية، وتعدّدية سياسية، وإعلام حرّ وغير ذلك. وإلى حدّ الآن، لا يكاد المتابع لما يحدث في الجزائر يرى أيّ مؤشرٍ بالدفع نحو الهدف الأسمى المتمثّل في الديمقراطية؛ بل على العكس يستيقظ المرء ويده على قلبه خوفاً من رؤية "سيسي" جزائري على شاشات التلفزيون. يتحدّث بطريقته، وترافقه جوقة من السياسيين والإعلاميين الذين يكثّفون إنتاج الكذب السياسي والتخوين وإلصاق الملصقات والنعوت التي لا يعرفون معناها حتّى.
وبسبب سياسات بوتفليقة، طوال أعوام حكمه الطويلة التي كان له فيها الفريق قايد صالح خير
"رفيق" وأوفى "صديق"، تجد المعارضة السياسية نفسها في موقع "الغريب" الذي يسكن بين عشيرتين، كل من خلافهما أو توافقهما يُبقيه غريباً. فمن جهة، ما نعتقد أنّها معارضة بقيت إلى الآن غريبة عن الاحتجاجات، لم تؤثر فيها، ولم تتأثر بمطالبها المحدّدة؛ من وجهة أخرى تبقى المعارضة غريبة عن "جماعة القايد صالح"، على الرغم من أنّها كانت تنادي بتدخّل الجيش، ووجوب لعبه دوراً تحكيمياً بينها وبين بوتفليقة المقال. لكنّ القايد صالح حين تدخل، تدخّل لإنتاج واقعٍ يكون فيه الأقوى، وصاحب القرار الأوّل، وليس لتحقيق "أحلام" المعارضين الذين يعتبرون الجلوس مع القايد صالح (أو الجنرال توفيق في فترة) دليل "فحولة" وقوّةٍ ونفوذ.
في الوقت الراهن، ليس هناك أقوى من جماعة القايد صالح، سوى الحراك؛ وأي تعويلٍ على غير هذا الحراك مضيعة للوقت، وسيرٌ بخطىً ثابتة نحو فراغٍ سيّاسي، تزداد فيه القوى الحاكمَة قوّةً وصلابة. ولكنّ الحراك حين يفتقد إلى قياداتٍ قادرة على الحوار والتفاوض والضغط والتنازل والمساومَة سيتحوّل إلى روتين منفصلٍ عن القرارات السياسية التي تتخذّ في محيطه وحوله وباسمه. إيجاد قياداتٍ للحراك لا ينقص من قيمته النضالية والرمزية، بل على العكس يزيده قوّةً وتنظيماً ودقةً في تحقيق مطالبه، وتفعيل شعاراته على أرض الواقع؛ حيث إنّ الديمقراطية عادةً لا تبنى بالثورة، وإنّما بالإصلاح.
أسقطت ثورة الجزائريين الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وأجهضت مشروع الولاية الخامسَة التّي هندسها محيط الرئيس وشركائه؛ من دون أن يُنسى أنّ رئيس أركان الجيش، أحمد القايد صالح، كان داعماً شرساً لآل بوتفليقة، وكان له دور ريادي في إضعاف خصوم النظام، وترجيح الكفّة لصالح الجماعة الحاكمَة التي أصبحت فجأة "عصابة". وعقب استقالة بوتفليقة، وجدت الجزائر نفسها أمام خيارين رئيسيين: تطبيق الدستور الذي كان بوتفليقة سيعدّله، لو سمح له الشعب بتمرير مشروع تمديد ولايته سنة أخرى. إطلاق حوار وطني يؤسس لنظام سياسي ديمقراطي تتم التوطئة له بدستور ديمقراطي وضمانات انتخابية، وغير ذلك ممّا تقتضيه الديمقراطية، بوصفها نظاما سيّاسيا، شكّل قلب شعارات الاحتجاجات. سمّي المسار الأوّل دستورياً، فيما سميّ الثاني سياسياً.
وقد كان القايد صالح من رواد المسار الدستورِي والمدافعين عنه، بحجّة أنّ غير ذلك سيودي
ليس هناك تفسير واضح لسلوك القايد صالح، باعتباره لعب دوراً تحت ضغط الاحتجاجات في إسقاط بوتفليقة، ومن بعدها التحكّم في مجريات الأمور، سوى اعتبار كلّ ما حصل تدخّلا لإعادة رسم حدود النظام وشكله ونخبه؛ أي أنّ ما فعله هو إنقاذ النظام من السقوط عبر استبدال أشخاصٍ كانوا أقرب من آل بوتفليقة بأشخاصٍ يُراد لهم أن يكونوا تحت إمرة صالح. إذ من الصعب تصوّر انتخابات تلبي التطلّعات الثورية بأدوات النظام السابق، وقواعده، وشخوصه الذين تدربوا عقدين على الكذب السياسي والتزوير.
وقد أتاحت طبيعة النظام الحاكم في الجزائر وبنيته للقايد صالح أن يلعب دوراً سياسيا استثنائيا، ربّما لم يكن "يحلم" أن يلعبه، بدءاً من تعويل بوتفليقة عليه على حساب إضعاف المخابرات في صفقةٍ تاريخية تجعله الرجّل الأوّل في المؤسسة العسكرية، من دون منافسٍ يوازيه شكلاً ونفوذاً، وصولاً إلى ضعف المعارضة وانقسام الأحزاب الكبرى، ليس بين دعم المطالب الشعبية من عدمه، بل بين القايد صالح والسعيد بوتفليقة الذي أضحى ملاحَقاً بعد أنّ كان رجل القصر الأوّل.
نقطة الخلاف الرئيسية بين القايد صالح والقوى الثورية التي أضحت عرضةً للهجوم والتخوين وحتّى الملاحقة في استنساخ واضح للطريقة السيساوية (ولكن في نسخةٍ قد تكون ألطف)؛ هي قراءة الاحتجاجات، وموقعها ضمن تاريخ المطلب الديمقراطي في الجزائر. يرى القايد صالح الاحتجاجات حدثا سيّاسيا عارضا يجب التحكّم فيه، والقفز عليه بمنطق "الديسيبلين" العسكري، وإغراقه بشرعياتٍ ثورية قديمة، كان بوتفليقة ينافسه عليها، ويمنع نفاذها بهذا الحجم إلى وسائل الإعلام الرسمية التي تبدو، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، ناطقة باسمه. بينمَا، ننظر إلى احتجاجات فبراير وما بعدها نظرة تفرّد، وأملٍ، وفرصةً للتأسيس لنظامٍ سياسيّ ديمقراطي يُتيح للجزائر فرصة الولوج إلى النادي الديمقراطي، وكسب مقوماته من دستورٍ ديمقراطي وقيم ثقافية ديمقراطية، وتعدّدية سياسية، وإعلام حرّ وغير ذلك. وإلى حدّ الآن، لا يكاد المتابع لما يحدث في الجزائر يرى أيّ مؤشرٍ بالدفع نحو الهدف الأسمى المتمثّل في الديمقراطية؛ بل على العكس يستيقظ المرء ويده على قلبه خوفاً من رؤية "سيسي" جزائري على شاشات التلفزيون. يتحدّث بطريقته، وترافقه جوقة من السياسيين والإعلاميين الذين يكثّفون إنتاج الكذب السياسي والتخوين وإلصاق الملصقات والنعوت التي لا يعرفون معناها حتّى.
وبسبب سياسات بوتفليقة، طوال أعوام حكمه الطويلة التي كان له فيها الفريق قايد صالح خير
في الوقت الراهن، ليس هناك أقوى من جماعة القايد صالح، سوى الحراك؛ وأي تعويلٍ على غير هذا الحراك مضيعة للوقت، وسيرٌ بخطىً ثابتة نحو فراغٍ سيّاسي، تزداد فيه القوى الحاكمَة قوّةً وصلابة. ولكنّ الحراك حين يفتقد إلى قياداتٍ قادرة على الحوار والتفاوض والضغط والتنازل والمساومَة سيتحوّل إلى روتين منفصلٍ عن القرارات السياسية التي تتخذّ في محيطه وحوله وباسمه. إيجاد قياداتٍ للحراك لا ينقص من قيمته النضالية والرمزية، بل على العكس يزيده قوّةً وتنظيماً ودقةً في تحقيق مطالبه، وتفعيل شعاراته على أرض الواقع؛ حيث إنّ الديمقراطية عادةً لا تبنى بالثورة، وإنّما بالإصلاح.
دلالات
مقالات أخرى
01 سبتمبر 2020
16 يوليو 2019
14 مارس 2019