07 ديسمبر 2023
اليمن.. الوحدة أم الانفصال والأسئلة الخاطئة
لم تكن هناك مفاجأة في ما جرى في عدن، فمنذ بدء المرحلة الانتقالية والنخبة اليمنية وأحزابها تتعامل مع الوضع اليمني بدون خيال، وبالأساليب التقليدية نفسها للرئيس السابق علي عبدالله صالح، ولكن بدون قدرات صالح الشخصية، من نشاط وحيوية يفتقرها خلفه، وكذلك لم يكن اليمن بلدا يمتلك ترف الوقت، فمثلاً لم يدر صالح البلد بمؤسسات الدولة، بل بشبكة ولاءات شخصية أخذت منه أكثر من ثلاثين عاماً لبنائها، إضافة إلى بداية نضوب موارد النفط التي كانت توفر سيولة مادية ضرورية لبناء شبكة الولاءات.
سقطت العاصمة صنعاء منذرةً بمرحلة تفكك حتمية، وضاعت فرص ضئيلة لتفادي هذا المصير الطبيعي لبلدٍ سقطت عاصمته بيد مليشيا طائفية ومناطقية، ويكفي أن ذكر الحكومة صار مقروناً بالمنفى والفساد والضعف، معتمدة على أطراف خارجية، إن لم تكن سيئة النيات، فهي متخبطة، بطبيعة الحال، نظراً لتخبط حليفها الداخلي صاحب القضية الأصلية وخموله.
وتفتح الأحداث أخيراً في عدن الباب على مصراعيه لمطالب الاستقلال، وتطلعات الانفصال شمالأ وجنوباً، كما تعيد طرح التساؤلات بشأن الشرعية ومفاهيم القوة، حيث لا يزال الوصول إلى السلطة في اليمن مرهوناً بالعنف شمالاً وجنوباً، ما أوصل إلى هذه الانقلابات وسلطات الأمر الواقع. الفارق بين انقلابات الماضي والحاصل حالياً أن انقلابات الماضي كانت ملتزمة بإطار الدولة، ولم تكن تتجاوز تغيير السلطة، بينما الحاصل الآن هو عملية تجريف للدولة
ولشكلها وحدودها، والبدائل المطروحة تستمد مشروعيتها من الماضي وسردية المظلومية من دون أية مشاريع مستقبلية واضحة الملامح.
يدفع غياب المشاريع المستقبلية إلى سياسة التحشيد التي تعني الإبقاء على حالة الصراع أو الحرب للاحتفاظ بالمجتمع في حالة خوفٍ دائمة، هذا ما يفعله الحوثي، وسوف يفعله المجلس الانتقالي. كلاهما يعتمد على سياسة التحشيد على أسس الهوية، وليس السياسة، فلا مكان للنقد أو الاختلاف بالرأي، ما يؤسس لحكم الفرد لا غيره، وهي الآفة الحقيقية للسياسة باليمن.
سوف تقضي آفة الاستبداد التي قضت على إنجاز الوحدة على أوهام إحياء الإمامة في الشمال ودولة الجنوب، لأنها ستنشئ أنظمة فاسدة بطبيعة الحال، وبالتالي اقتصادا متعثرا وخدمات غائبة، خصوصا في بلد فقير الموارد الطبيعية، مثل اليمن، ما يقلص القاعدة الشعبية للنظام، حيث يضعف مفعول سياسة التحشيد مع مرور الوقت، كما أنه سيؤسس لنظام ذي طبيعة أسرية، لأن المستبد لا يثق إلا بعصبيته، ما سيقوّض كل تحالفاته السياسية التي صعد بها، ويفجر منظومة الحكم من الداخل.
انشغلت النخبة اليمنية بسؤالها عن الوحدة اليمنية، وأيهما أفضل مرحلة الوحدة أم الانفصال، خصوصا نخبة الجنوب، ونقلت انشغالها إلى الشارع، وقد أدى هذا إلى مقارباتٍ مخلة، حيث أصبح الحديث عن ماضي الجنوب فيه قدر كبير من الوهم والتضخيم. أصبحت مرحلة
الاستعمار مجيدة، وهذا يتعارض مع منطقٍ بسيط، فإذا كان الوضع كذلك، لماذا قامت ثورة ضد الاستعمار؟ ومرحلة الحزب الاشتراكي تحولت إلى جنة العدالة والانضباط من دون تساؤل. إذن، لماذا انهارت دولة الحزب الاشتراكي في حربٍ أهلية سنة 1986؟ ما دفع إلى الهرولة نحو الوحدة، معلقين عليها آمالا أكبر مما تتحمله.
ولم تكن حرب 1994 بين الشمال والجنوب، حيث تحالفت حكومة صنعاء مع قواتٍ جنوبيةٍ من الفصيل المهزوم لحرب الجنوب الأهلية 1986، والتي كانت فرصته لرد اعتباره، بعد التنكيل به إثر الحرب، وأدت حرب 1996 إلى تنكيل جديد بمهزوم آخر، حيث سرح مئات الآف من موظفين مدنيين وعسكريين جنوبيين، كانوا نواة السخط الشعبي، وتجاهل مطالبه وحقوقه أدى إلى رفع سقف المطالب نحو الانفصال.
مسألة الصراع بين شمال اليمن وجنوبه مضللة، حيث اقتتل الشماليون فيما بينهم أكثر ما اقتتلوا مع الجنوبيين، وينطبق الحال نفسه مع الجنوبيين، حيث ذهب ضحايا الاقتتال الجنوبي - الجنوبي أكثر من ضحايا الحروب بينهم وبين الشمال، وهذه الحروب كلها كانت نتاج الصراع حول السلطة إثر استئثار فرد بالحكم. وتعد نظرية الصراع الشمالي - الجنوبي انحرافاً واضحاً لحقيقة المشكلة في اليمن المرتبطة بالعنف والاستبداد، استسهال استخدام العنف للوصول إلى السلطة التي أخفق اليمنيون حتى الآن في تبني وسائل سلمية للحكم، من دون إراقة دماء، كما لم يتشكل الوعي المطلوب لإدانة العنف ونتائجه المخيفة على المجتمع والسياسة، ففي كل دورة عنف يتعرض اليمن لعملية تجريف ضخمة لأي تراكماتٍ سابقة، سياسية كانت أو تنموية، غير هدمها للتماسك الاجتماعي.
مشكلة العنف في اليمن ليس فقط أنه أصبح دائرة عمياء لا تتوقف ولم تنكسر حتى الآن، حيث تتفجر الاستدعاءات التاريخية والثأرات القديمة تلقائياً، مع أول طلقة رصاص، بل أنها أيضاً مرتبطة بفقر موارد البلد الطبيعية، فالقبائل الميالة للقتال تسكن مناطق كثيفة السكان بلا موارد طبيعية، وفي جبال ليست خصبة، ليصبح الاقتتال للحصول على غنائم أو الوصول إلى سلطة سياسية صارت مصدر إثراء، على عكس الدول الغربية التي صارت الثروة إحدى أدوات الوصول إلى السلطة، بينما في اليمن العنف هو أداة الوصول إلى السطة التي هي الطريق الأساسي للاستحواذ على الثروة. وهذا يفسر طبيعة الطموح السياسي لقبائل الضالع ويافع في
الجنوب، وهم القوة المسلحة التي تشكل المجلس الانتقالي، وكذلك قبائل مناطق شمال صنعاء التي تشكل القوة المسلحة للحوثيين، وسبب انقسام المجتمع اليمني لطرفين، قبلي يرمز للسلاح والعنف، ورعوي – ريفي، أو مدني، يرمز إلى الخضوع والمسالمة، وإنْ تشهد هذه الثنائية تصدعات حقيقية، لكنها ما زالت غير كافية لتقويض هذه العلاقة المختلّة.
كحالة أي نظام استبدادي، لا يستطيع استيعاب المهزومين، والنظر إليهم ليس أعداء وخصوما، بل جزءا من نسيج المجتمع، لا يمكن معاداته. تظل سياسات التنكيل بالمهزوم في كل حرب أهلية في اليمن طبيعية ومرتبطة بالاستبداد، لا علاقة لها بالهوية المناطقية للحاكم. لذا لا يمكن تفسير سياسات نظام صنعاء نحو الجنوب بعد 1994 بأنها مجرد سياسة مناطقية، لا تتعلق بالاستبداد، ولا كيف نفسر انخراط سياسيين جنوبيين كثيرين بهذا النظام؟ وكيف نفسر سياسات التنكيل بالطرف الجنوبي المهزوم عقب حرب 1986؟
ما زالت الأسئلة السياسية تخطئ طريقها حين توجه نحو المناطق والمذاهب، وليس نحو السياسات ومفاهيمها، وغياب أية تصورات تنموية واقتصادية لبلد يعاني من مشكلات خطيرة تتعلق بفقر موارده الطبيعية، وتصل إلى حد شح المياه والجفاف في بعض المناطق. أول من يضل الطريق هم السياسيون، بسبب عجزهم عن تقديم مشاريع سياسية مستقبلية، فيستعيضون عنها بخطاب يتهم الهوية، ويعتبرها الملام الأول، ويركب على موجتهم المثقفون لأسباب مالية أو انتهازية غالباً، أو ربما بسبب بساطة الطرح الهوياتي الذي يدغدغ مشاعر الجماهير، معطياً زخماً للسياسات الشعبوية المؤسّسة لحكم الاستبداد.
وتفتح الأحداث أخيراً في عدن الباب على مصراعيه لمطالب الاستقلال، وتطلعات الانفصال شمالأ وجنوباً، كما تعيد طرح التساؤلات بشأن الشرعية ومفاهيم القوة، حيث لا يزال الوصول إلى السلطة في اليمن مرهوناً بالعنف شمالاً وجنوباً، ما أوصل إلى هذه الانقلابات وسلطات الأمر الواقع. الفارق بين انقلابات الماضي والحاصل حالياً أن انقلابات الماضي كانت ملتزمة بإطار الدولة، ولم تكن تتجاوز تغيير السلطة، بينما الحاصل الآن هو عملية تجريف للدولة
يدفع غياب المشاريع المستقبلية إلى سياسة التحشيد التي تعني الإبقاء على حالة الصراع أو الحرب للاحتفاظ بالمجتمع في حالة خوفٍ دائمة، هذا ما يفعله الحوثي، وسوف يفعله المجلس الانتقالي. كلاهما يعتمد على سياسة التحشيد على أسس الهوية، وليس السياسة، فلا مكان للنقد أو الاختلاف بالرأي، ما يؤسس لحكم الفرد لا غيره، وهي الآفة الحقيقية للسياسة باليمن.
سوف تقضي آفة الاستبداد التي قضت على إنجاز الوحدة على أوهام إحياء الإمامة في الشمال ودولة الجنوب، لأنها ستنشئ أنظمة فاسدة بطبيعة الحال، وبالتالي اقتصادا متعثرا وخدمات غائبة، خصوصا في بلد فقير الموارد الطبيعية، مثل اليمن، ما يقلص القاعدة الشعبية للنظام، حيث يضعف مفعول سياسة التحشيد مع مرور الوقت، كما أنه سيؤسس لنظام ذي طبيعة أسرية، لأن المستبد لا يثق إلا بعصبيته، ما سيقوّض كل تحالفاته السياسية التي صعد بها، ويفجر منظومة الحكم من الداخل.
انشغلت النخبة اليمنية بسؤالها عن الوحدة اليمنية، وأيهما أفضل مرحلة الوحدة أم الانفصال، خصوصا نخبة الجنوب، ونقلت انشغالها إلى الشارع، وقد أدى هذا إلى مقارباتٍ مخلة، حيث أصبح الحديث عن ماضي الجنوب فيه قدر كبير من الوهم والتضخيم. أصبحت مرحلة
ولم تكن حرب 1994 بين الشمال والجنوب، حيث تحالفت حكومة صنعاء مع قواتٍ جنوبيةٍ من الفصيل المهزوم لحرب الجنوب الأهلية 1986، والتي كانت فرصته لرد اعتباره، بعد التنكيل به إثر الحرب، وأدت حرب 1996 إلى تنكيل جديد بمهزوم آخر، حيث سرح مئات الآف من موظفين مدنيين وعسكريين جنوبيين، كانوا نواة السخط الشعبي، وتجاهل مطالبه وحقوقه أدى إلى رفع سقف المطالب نحو الانفصال.
مسألة الصراع بين شمال اليمن وجنوبه مضللة، حيث اقتتل الشماليون فيما بينهم أكثر ما اقتتلوا مع الجنوبيين، وينطبق الحال نفسه مع الجنوبيين، حيث ذهب ضحايا الاقتتال الجنوبي - الجنوبي أكثر من ضحايا الحروب بينهم وبين الشمال، وهذه الحروب كلها كانت نتاج الصراع حول السلطة إثر استئثار فرد بالحكم. وتعد نظرية الصراع الشمالي - الجنوبي انحرافاً واضحاً لحقيقة المشكلة في اليمن المرتبطة بالعنف والاستبداد، استسهال استخدام العنف للوصول إلى السلطة التي أخفق اليمنيون حتى الآن في تبني وسائل سلمية للحكم، من دون إراقة دماء، كما لم يتشكل الوعي المطلوب لإدانة العنف ونتائجه المخيفة على المجتمع والسياسة، ففي كل دورة عنف يتعرض اليمن لعملية تجريف ضخمة لأي تراكماتٍ سابقة، سياسية كانت أو تنموية، غير هدمها للتماسك الاجتماعي.
مشكلة العنف في اليمن ليس فقط أنه أصبح دائرة عمياء لا تتوقف ولم تنكسر حتى الآن، حيث تتفجر الاستدعاءات التاريخية والثأرات القديمة تلقائياً، مع أول طلقة رصاص، بل أنها أيضاً مرتبطة بفقر موارد البلد الطبيعية، فالقبائل الميالة للقتال تسكن مناطق كثيفة السكان بلا موارد طبيعية، وفي جبال ليست خصبة، ليصبح الاقتتال للحصول على غنائم أو الوصول إلى سلطة سياسية صارت مصدر إثراء، على عكس الدول الغربية التي صارت الثروة إحدى أدوات الوصول إلى السلطة، بينما في اليمن العنف هو أداة الوصول إلى السطة التي هي الطريق الأساسي للاستحواذ على الثروة. وهذا يفسر طبيعة الطموح السياسي لقبائل الضالع ويافع في
كحالة أي نظام استبدادي، لا يستطيع استيعاب المهزومين، والنظر إليهم ليس أعداء وخصوما، بل جزءا من نسيج المجتمع، لا يمكن معاداته. تظل سياسات التنكيل بالمهزوم في كل حرب أهلية في اليمن طبيعية ومرتبطة بالاستبداد، لا علاقة لها بالهوية المناطقية للحاكم. لذا لا يمكن تفسير سياسات نظام صنعاء نحو الجنوب بعد 1994 بأنها مجرد سياسة مناطقية، لا تتعلق بالاستبداد، ولا كيف نفسر انخراط سياسيين جنوبيين كثيرين بهذا النظام؟ وكيف نفسر سياسات التنكيل بالطرف الجنوبي المهزوم عقب حرب 1986؟
ما زالت الأسئلة السياسية تخطئ طريقها حين توجه نحو المناطق والمذاهب، وليس نحو السياسات ومفاهيمها، وغياب أية تصورات تنموية واقتصادية لبلد يعاني من مشكلات خطيرة تتعلق بفقر موارده الطبيعية، وتصل إلى حد شح المياه والجفاف في بعض المناطق. أول من يضل الطريق هم السياسيون، بسبب عجزهم عن تقديم مشاريع سياسية مستقبلية، فيستعيضون عنها بخطاب يتهم الهوية، ويعتبرها الملام الأول، ويركب على موجتهم المثقفون لأسباب مالية أو انتهازية غالباً، أو ربما بسبب بساطة الطرح الهوياتي الذي يدغدغ مشاعر الجماهير، معطياً زخماً للسياسات الشعبوية المؤسّسة لحكم الاستبداد.