ارتباط إسرائيل بالجبهات المتعددة

27 أكتوبر 2024
طفل يحمل ملصقا لبنيامين نتنياهو في تظاهرة مؤيدة للفلسطينيين في تورينو (ستفانو جويدي/Getty)
+ الخط -

سعت إسرائيل، منذ بداية حرب الإبادة على قطاع غزّة، إلى فرض فصل تكتيكي وزمني بين جبهتي غزّة وجنوب لبنان، كان الهدف الأساسي منه منع فتح جبهات عدّة في الآن ذاته، لمنع تشتيت قدرات الجيش وموارده، البشرية والمادية، خصوصاً أن هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول كان مباغتاً، ولم يتحضر له الجيش مسبقاً، كما لم يكن، الجيش الإسرائيلي، مهيأً لخوض حرب واسعة على جبهتين، لذا وجّه الهدف والجهد الأساسي بعد عملية السابع من أكتوبر لضمان تماسك المجتمع والجيش في إسرائيل، على أثر الكسر الكبير في المعنويات، وتراجع الشعور بالأمن الجماعي والشخصي. كما سعت المؤسسة الأمنية والعسكرية في الأيام الأولى، بعد عملية "طوفان الأقصى"، لضبط جبهة الجنوب، وإخراج مقاتلي حماس من البلدات الإسرائيلية، ومنع دخول مقاتلين إضافيين، وسد الثغرات، والتحضير للهجوم المضاد على قطاع غزّة، والاستعداد للحرب التي أُعلنت في السابع من أكتوبر، لأول مرّة منذ 1973.

رفض رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، وفقا للإعلام الإسرائيلي، في 11 أكتوبر 2023، اقتراح كلّ من وزير الأمن، يوآف غالانت، وقيادة أركان الجيش بخصوص توجيه ضربة استباقية لحزب الله في لبنان، لمنعه من مفاجئة إسرائيل، والقيام بهجوم واسع في الشمال، هذا الاعتبار كان وراء تسريع دخول حزب المعسكر الرسمي بقيادة بيني غانتس إلى حكومة الحرب. لكن، وبالرغم من هذه المواقف، ومن تصدر جبهة غزة لسلم أولويات الحرب الإسرائيلية، لم تلغ المؤسسة الأمنية والعسكرية والقيادات السياسية الحاجة إلى فتح جبهة واسعة مع حزب الله، بل قالت إنّها ستقوم بذلك في التوقيت المناسب، بعد الانتهاء من العمليات العسكرية الواسعة والكبيرة في قطاع غزة، عندما يكون الجيش الإسرائيلي جاهزاً لذلك. كما شددت القيادات العسكرية، وكل المحللين، بأن إسرائيل هي التي يجب أن تقرر متى تبدأ الحرب وكيف؟ فعليها أن تبادر إلى ضربة مفاجئة لحزب الله، لا العكس.

تتضارب المواقف حول تحقيق إنجازات استراتيجية وسياسية على الجبهات المختلفة، فهناك من يعرب عن تشاؤمه بشأن ربط الجبهات، وتقدم المعارك، التي يخوضها الجيش الإسرائيلي في مختلف الساحات

لم تتعامل إسرائيل مع حركة حماس على أنّها تهديد وجودي على أمن إسرائيل لغاية السابع من أكتوبر 2023، إذ رأت أن تهديد حزب الله العسكري يفوق تهديد حركة حماس، وبنت استعداداتها العسكرية والمخابراتية وفقاً لهذا التقييم، كما وضحت تقارير صحافية إسرائيلية عديدة في العام الأخير، لكن كان "طوفان الأقصى" نقيضاً لهذه الفرضية، إذ لم يفتت "طوفان الأقصى" قدرة الردع، وعقيدة الأمن القومي الإسرائيلي فقط، بل وضح أنه بإمكان حركة صغيرة نسبياً، بقدرات عسكرية محدودة، أن تلحق ضرراً كبيراً بإسرائيل، اعتبرته إسرائيل خطراً وجودياً. أي ضرب "طوفان الأقصى" الاستراتيجية السياسية الإسرائيلية المعمول بها في العقدين الأخيرين، لإدارة الصراع مع الفلسطينيين، التي ارتكزت على تعميق الانقسام والحفاظ عليه بين قطاع غزّة والضفّة الغربية، واستمرار حصار قطاع غزّة، وتوسيع الاستيطان في الضفّة الغربية، وإضعاف السلطة الفلسطينية، والسيطرة على مناطق "ج" تدريجياً، من دون ضمّ رسمي.

أهداف الحرب الاستراتيجية

عَرَفت إسرائيل إيران بأنّها العدو الأخطر في العقدين الأخيرين، وبأنّ التعامل مع برنامج إيران النووي هو الأهمّ بالنسبة لها. من هنا لم يقتصر تعامل إسرائيل وردها على طوفان الأقصى على الرغبة في الانتقام والثأر، وتدمير قدرات حماس العسكرية والمدنية في غزة، وتدمير البنى التحتية والمدنية، وفي تهجير سكان القطاع، بل بدأت، مع مرور الوقت وتوسع الحرب، في استغلال الحالة الناشئة، والإنجازات الميدانية، من وجهة نظر إسرائيل، وردة الفعل الدولية الباهتة، وعدم تدفيع إسرائيل ثمناً جدياً في المحافل الدولية، من خلال توسيع/ زيادة أهداف الحرب، لتكون مدخلاً لإعادة ترتيب الحالة الجيو-استراتيجية لإسرائيل، ومنها تغيير جوهري في حالة ومكانة قطاع غزّة، وتغيير الحالة الأمنية الاستراتيجية عند الحدود الشمالية، وتوجيه ضربة قوية لحزب الله، ومحاولة تقليم أظافر إيران في المنطقة، وضرب مخططاتها لإقامة طوق ناري حول إسرائيل، وربّما توجيه ضربات مباشرة لقدرات إيران العسكرية، والمرافق الاقتصادية بهدف إضعاف النظام.

أرادت إسرائيل استغلال الحرب لإغلاق حساباتها مع محور إيران، وخلق واقع عسكري جديد يمكنها من تغيير استراتيجيتها تجاه القضية الفلسطينية، وترتيب علاقاتها مع الدول العربية في المنطقة. بذلك لم تكتفِ إسرائيل بالأهداف العسكرية والأمنية المعلنة وغير المعلنة للحرب، إنما أرادتها أن تشكل نقطة تحول أيضاً في الجانب السياسي، وفي التعامل مع القضية الفلسطينية. إذ تريد إسرائيل أن تمنحها نتائج حرب الإبادة على غزّة حرية التصرف الكامل، بل التفرد، في القضية الفلسطينية، ومن ضمنها السيطرة الأمنية الكاملة على قطاع غزة، وإنتاج إدارة مدنية جديدة تعمل تحت إمرة إسرائيل، وإلغاء أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية، عبر تعميق إضعاف السلطة الفلسطينية، وضرب بؤر المقاومة في الضفّة الغربية، وتوسيع الاستيطان، وضم مناطق "ج". أي تسعى إسرائيل إلى تحويل إخفاقها الكبير في السابع من أكتوبر إلى مدخل لتغير واسع في المنطقة، والشرط الأساسي لتحقيق هذا كله هو تحقيق حسم عسكري في قطاع غزّة وفي لبنان، وتقليص إمكانيات إيران على التدخل والتأثير في المنطقة.

يتطلّب تحقيق الإنجازات الإسرائيلية العسكرية خوض حرب واسعة مع حزب الله تسعى فيها إسرائيل إلى الحسم، وبذلك؛ وعلى عكس التكهنات العديدة، التي سادت منذ السابع من أكتوبر، فإنّ إسرائيل نفسها هي من قامت بالربط بين الجبهات، وكانت على قناعة أنه لا يمكن إنهاء الحرب على غزّة، وتحقيق أهداف الحرب كلّها، العسكرية والسياسية والاستراتيجية، من دون توجيه ضربات جدية لحزب الله.

ربط الجبهات... إسرائيل تختار التوقيت

وضّحت إسرائيل منذ السابع من أكتوبر بأنها لن تقبل باستمرار الوضع القائم على الحدود الشمالية، ووجود قوات لحزب الله على حافة الحدود مع إسرائيل، منعاً لأي احتمال لنسخ ما حدث في محيط غزّة، وبشكل أكبر بمرات عدّة على الحدود الشمالية. وقالت إنّها ستسعى إلى تغيير الوضع القائم على الحدود الشمالية منذ انتهاء حرب تموز/يوليو 2006، إما عبر اتّفاق دبلوماسي، أو عبر أدوات أخرى، وكانت تدرك تماما أنّها لا تستطيع تحقيق ذلك عبر اتّفاق دبلوماسي يجبر حزب الله على سحب قواته العسكرية إلى نهر الليطاني.

شددت القيادات العسكرية، وكل المحللين، بأن إسرائيل هي التي يجب أن تقرر متى تبدأ الحرب وكيف؟

منذ بداية ما سماه حزب الله بـ"جبهة الإسناد"؛ خاضت إسرائيل وحزب الله معارك محدودة على الجبهة الشمالية، إذ لم تتجاوز الضربات المتبادلة عمق عشرة كيلومترات من الحدود، وقد التزم الطرفان، إلى حدّ بعيد بهذه المعادلة، مع أنّ إسرائيل اخترقتها مرات عديدة، من دون رد مماثل من قبل حزب الله. على ما يبدو؛ استغلت إسرائيل الانطباع بأنّها لا تستطيع، أو لا تريد، فتح جبهة موازية مع حزب الله، وقررت استغلال معركة غزّة، واستنزاف المواقف العالمية المعارضة لهذه الحرب، من دون أنّ تؤثر على السلوك الإسرائيلي، ونظراً إلى محدودية الثمن الذي تدفعه، عملت على تنفيذ خطط معدة سلفاً لضرب حزب الله.

انتقلت إسرائيل، منذ منتصف سبتمبر/أيلول، إلى محاولة حسم المعركة مع حزب الله، أو على الأقلّ توجيه ضربة كبيرة ومؤلمة لحزب الله، في محاولة للقضاء على قدراته العسكرية، أيّ لم تعد تكتفي بإجباره على فك الارتباط بين جبهتي لبنان وغزة، ووقف إطلاق النار. لذلك بادرت إسرائيل إلى فتح حرب واسعة على حزب الله، وبذلك قامت إسرائيل بنفسها بالربط بين الجبهتين، لكن تحت الادعاء بأنّها تريد أن تخرج حزب الله من معادلة الحرب مع حركة حماس، كي لا يشكل حزب الله عامل ضغط على إسرائيل في المفاوضات مع حماس.

يشعر نتنياهو، وحكومته، بأنهما مطلَقا اليدين، إذ استغلت إسرائيل ضعف المواقف الإقليمية والدولية من حرب الإبادة، التي تشنها على قطاع غزّة منذ عام، وعدم تأثير الاحتجاجات الشعبية العالمية، وانشغال الولايات المتّحدة، المؤيدة لما تسميه "حرب إسرائيل ضدّ الإرهاب"، بالانتخابات الرئاسية، المقررة في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، لتجاهل التحذيرات من مخاطر حرب إقليمية واسعة، وشن عمل عسكري واسع ضدّ حزب الله، وحتى لتكرار سيناريو غزّة في لبنان، بغية تحقيق الأهداف الاستراتيجية للحرب.

واقع جديد في إسرائيل

تغيرت إسرائيل منذ السابع من أكتوبر 2023، وبات المجتمع والمؤسسة العسكرية، والقيادات السياسية أكثر استعدادا لدفع الثمن، بأرواح قوات الجيش، وأيضاً في الجبهة الداخلية، بغية مسح عار السابع من أكتوبر، وتغيير حالة إسرائيل الاستراتيجية، وترميم قدرة الردع، منعاً لأيّ تكرار لأحداث السابع من أكتوبر.

تحدثت إسرائيل عن أهمّية فصل الجبهات، لا لمنع ذلك، إنّما لترتيب الأولويّات والتمويه والخداع، وترتيب الأوراق داخلياً، خاصّةً تهيئة الجيش لفتح جبهة مع حزب الله. إذ أرادت إسرائيل الحرب مع حزب الله لكن بشروطها وتوقيتها ومبادرتها. والآن تقوم بالتجهيز لهجمات ضدّ إيران، لا نعرف طبيعتها وحجمها وعمقها، لكن لا يمكن أن نلغي إمكانية أنّ تستغل إسرائيل تدحرج الأحداث لتعميق المواجهة مع إيران، خصوصاً أنّها مقتنعة بأنّها نجحت في تقليم قدرات حزب الله الصاروخية، الذي باتت ضرباته للعمق الإسرائيلي أقل إيلاماً، وبعد تدمير كبير لقدرات حماس، وكذلك الضربات التي وجهتها لليمن وجماعة الحوثيين.

عملياً، تربط إسرائيل؛ بنفسها، الساحات والجبهات المتعددة، لأنّها؛ كما صرّح مرات عدّة رئيس حكومتها نتنياهو، تخوض حرباً غير مباشرة ضدّ إيران، ولأنّها تريد استغلال الحالة الناشئة إسرائيلياً وإقليمياً ودولياً، بعد السابع من أكتوبر، لتوجيه ضربة قوية لإيران، ربّما تُأخر أو تضعف البرنامج النووي. تعتقد إسرائيل أن ذلك يساهم في تمكينها من الانفراد في تحديد مصير القضية الفلسطينية، عبر إلغاء حالة الاحتلال، وتحويلها إلى حالة طبيعية، ومنع إقامة دولة فلسطينية، والسيطرة على مناطق "ج"، وتوسيع الاستيطان، والسيطرة الكاملة على قطاع غزّة، فضلاً عن أن هذا كله يخدم مصالح نتنياهو السياسية، ويساهم في ترميم مكانته السياسية داخل إسرائيل. السؤال هنا: هل تستطيع إسرائيل تحقيق ذلك كلّه؟

عَرَفت إسرائيل إيران بأنّها العدو الأخطر في العقدين الأخيرين، وبأنّ التعامل مع برنامج إيران النووي هو الأهمّ بالنسبة لها

إسرائيلياً، ورغم ما يعتبره محللون كثر، وقيادات عسكرية سابقة وراهنة، إنجازات عسكرية مهمة، فإنّ الإجابة عن سؤال مصير ونتائج هذه الحرب غير محسوم، إذ تتضارب المواقف حول تحقيق إنجازات استراتيجية وسياسية على الجبهات المختلفة، فهناك من يعرب عن تشاؤمه بشأن ربط الجبهات، وتقدم المعارك، التي يخوضها الجيش الإسرائيلي في مختلف الساحات؛ على سبيل المثال، يعتبر غيورا ايلاند، الجنرال في الاحتياط، ورئيس مجلس الأمن القومي سابقاً، ومن أبرز المنظرين لحرب الإبادة في غزة وشرعنتها، أنّ "إسرائيل في وضع لديها سبع ساحات مفتوحة، ولا تقترب من النهاية في أيّ منها، وليس لدينا فكرة عن كيفية الانتهاء من هذه الجبهات". كما يقول إن إسرائيل لا تملك استراتيجية سياسية لإنهاء المعارك على أيّ جبهة، ولم تضع تصوراً لليوم التالي في أيّ من هذه الجبهات، بهذا المعنى فإن غياب التصور السياسي الواضح لنهاية المعارك، ونشوة الإنجازات، كما يدعي العديد من الباحثين في معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب، يمكن أن يلحق ضرراً بالإنجازات العسكرية، التي حققها الجيش الإسرائيلي لغاية الآن، على جبهات قطاع غزّة ولبنان وإيران، كما قد يدخل إسرائيل في حرب استنزاف طويلة الأمد.

ربط الجبهات، الذي بادرت إليه إسرائيل بنفسها، وعلى عكس ادعاءاتها وموقفها في بداية الحرب، بهدف تحقيق تغيير استراتيجي شامل في حالة ومكان إسرائيل، يمكن ان يأتي بعكس أهدافه، ويؤدي إلى عدم الحسم الواضح في أيّ من الجبهات، وتوريط إسرائيل في حرب استنزاف طويلة ستؤدي إلى تآكل الإنجازات العسكرية، ويدفعها إلى ترتيبات سياسية لا ترغب بها بالضرورة. في الواقع الحالي، جبهة غزة تنتظر الحسم على جبهة لبنان، وجبهة لبنان تنتظر التطورات على جبهة إيران، وجبهة إيران متغير مجهول لا يمكن التكهن بنتائجه.

المساهمون