طيلة الصراع العربي - الصهيوني لم يكن للفلسطينيين الحق الكامل في ممارسة أي حقوق سياسية أو مدنية دون تدخلات خارجية، فلم يكن الفعل الفلسطيني طيلة العقد العشرين فعلا فلسطينيا صرفا تكون بوصلته الشأن الفلسطيني فحسب، إلا في أوقات محدودة، فمنذ الإمبراطورية العثمانية مرورا بالانتداب البريطاني، فرضت الأنظمة الاستعمارية تدابير قمعية للجم الفعل الفلسطيني أو تحييد بوصلته أو حرف البوصلة الفلسطينية دون الفعل السياسي الفلسطيني وممارسة حق شعبه في تقرير مصيره.
يلعب الصراع العربي - الإسرائيلي وازدياد التداخلات الخارجية دورا مهما في الفعل السياسي الفلسطيني ولاعبيه السياسيين تاريخيا لصالح القضية الفلسطينية وقضاياها الكبرى. اختلف ذلك كثيرا بعد قيام السلطة الفلسطينية في 1994 ثم بعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة في 2006، حيث لعبت البيئة الداخلية الفلسطينية بتوجيهات الفصائل المتحاربة ومصالحها السياسية دورا حاسما في الشأن الفلسطيني. كانت الانتخابات الفلسطينية التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني التي أعلن عنها بمرسوم رئاسي في بداية العام 2021 تعبيراً عن ضرورة سياسية تسمح للقيادات الحالية بتجديد شرعية مؤسساتها التي انتهت ولايتها منذ سنوات، دون أي تعبير عن الحاجة الوطنية للتغيير الجذري. فقد أجبرت السلطة الفلسطينية على إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية ثم انتخابات المجلس الوطني لتجديد الشرعية الفلسطينية على قاعدة تفاهمات أوسلو التي تقوم على الاعتراف بالكيان الصهيوني وتشكيل حكومة فلسطينية تعترف بمبادئ "السلام" وتلتزم بشروط التسوية وتقبل بشروط الرباعية ومفاوضات الحل النهائي القاضية بحل الدولتين مع تغييرات ما، ضمن ما يعرف بتبادل الأراضي وإزاحة الحدود وفقا للكثافة السكانية والاحتياجات الأمنية.
الانتخابات الفلسطينية والقفز إلى الوراء
كان نجاح جو بايدن في الانتخابات الأميركية في نهاية 2020 بداية جديدة لتحريك المياه الراكدة في الشرق الأوسط، وعقدت عدة لقاءات وحوارات فصائلية منذ سبتمبر/ أيلول الماضي في بيروت ورام الله وفي إسطنبول، توصلت الفصائل الفلسطينية بموجبها، خاصة حركتي فتح وحماس، إلى تفاهمات حول إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية وانتخابات المجلس الوطني. مما اعتبر أن كل القضايا الخلافية بين الفرقاء ستتوقف على نتيجة الانتخابات المقبلة، كمواجهة الاحتلال والاستيطان وإصلاح منظمة التحرير الفلسطينية.
اعتبر الإعلان عن الانتخابات الفلسطينية من قبل الحركتين بمثابة وثبة للإمام وخروج من الأزمات التي ألمّت ببنية الحركتين. فمن جهة حركة فتح، هو بمثابة إحكام سيطرتها على السلطة والتخلص من حالة التشظي الداخلية بين عباس والمجموعات المرتبطة به من ناحية، وبين تيار ما يسمى بالإصلاح بقيادة محمد دحلان ومشروعه السياسي من ناحية ثانية. ومن جهة حركة حماس، يعبر عن حاجتها لإفراز بيئة سياسية تساعدها على التخلص من موقعها كعنوان سلطوي في قطاع غزة، والتحرر من تبعات المسؤولية عن الواقع الاقتصادي والإنساني الصعب الذي يعيشه القطاع بفعل الحصار والعقوبات التي فرضها الاحتلال وانساقت معه السلطة قبل سنوات.
للبيئة الداخلية محددات رئيسة في نجاح أي تجربة ديمقراطية أو فشلها رغم أي محاولات خارجية أو محددات إقليمية ودولية، وفي الحالة الفلسطينية الحالية لن تشكل المتغيرات الدولية والتدخلات العربية والأوروبية أي عامل أساسي كما هو معوّل عليه إلا في شكل إجراءات الانتخابات فحسب، ويمكن أن تؤدي نتائج الانتخابات إلى مخاطرات كبيرة على حركتي فتح وحماس. فرغم أن آخر استطلاع للرأي أجراه مركز الجزيرة للدراسات منح "فتح" 37% من أصوات الناخبين مقابل 34% لحماس، فإنه دلَّ، في المقابل، على أن النسبة الأكبر من مؤيدي "فتح" يبدون استعدادًا أكبر للتصويت للقائمة التي قد يشكِّلها القيادي الفتحاوي مروان البرغوثي، المعتقل في السجون الإسرائيلية، والذي لا يتماثل مع مواقف عباس. وفي حال خاضت قائمة تابعة للقيادي الفتحاوي السابق محمد دحلان الانتخابات البرلمانية، ستحوز على دعم 20% تقريبًا من مؤيدي "فتح"، ولا سيما في قطاع غزة.
انتخابات فلسطينية تنذر بكارثة
شهدت انتخابات السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، 2006، فوز الحركة الإسلامية "حماس" على حساب حركة "فتح"، ما جسد نجاح سلسلة طويلة من المحاولات الرامية إلى تقويض مؤسسات وبنى ديمقراطية تعمل لصالح الشعب الفلسطيني. وكان الانقسام الفلسطيني والاحتراب السياسي بين حركتي فتح وحماس بداية لعنوان جديد من التدخلات الخارجية على الفعل السياسي الفلسطيني استمر قرابة الخمسة عشر عاما، الأمر الذي كرس الاستبداد الفلسطيني، وتم تعطيل الحياة السياسية والنيابية في مناطق السلطة الفلسطينية واستشرى الفساد المالي والسياسي في كل من السلطتين، الأمر الذي منح المشروع الصهيوني قابلية لاستغلال الأوضاع الفلسطينية.
منح تحديد موعد إجراء الانتخابات البرلمانية الفلسطينية بعد أربعة أشهر من تولي جو بايدن مقاليد الأمور في واشنطن، الرئيسَ عباس القدرة على إخضاع مسألة تطبيق المرسوم الرئاسي إلى خريطة مصالح السلطة، لكن قراره النهائي بشأن إجرائها بالفعل أو تأجيلها أو حتى عدم إجرائها مناط بعدة متغيرات على الساحة السياسية الفلسطينية، منها شعبية حركة فتح وتماسكها ومكانتها السياسية والاقتصادية من قبل توجهات بايدن تجاه عملية التسوية، التزام حركة حماس بالتوافقات الانتخابية التي جرت بين الطرفين في منتصف شباط/ فبراير في القاهرة، ودعم القائمة المشتركة بين فتح وحماس في حالة ما، ودعم عباس مرشحا وحيدا للرئاسة، بجانب الضغط الدولي على إسرائيل للموافقة على إجراء الانتخابات في القدس.
رغم محاولات تخطي العقبات التي تواجه العملية الانتخابية، خاصة في لقاء القاهرة، في منتصف شهر فبراير/ شباط، لكنها تظل تفاهمات ورقية بينما واقع الفلسطينيين ينذر بصعوبات جمة وتحديات وعرة أمام الحركتين بتياراتهما المتعددة، هذا بجانب الاعتقالات الإسرائيلية لناشطين في حماس بالضفة الغربية، والتهديدات الإسرائيلية لناشطين بعدم مشاركتهم في الانتخابات أو الدعوة إليها.
"حركة فتح" نزول إلى النهر نفسه مرتين
أياً كان مصير العملية الانتخابية، سواء أجريت الانتخابات أو أجلت أو ألغيت، ستكون القيادات القديمة لحركة فتح الخاسر الأكبر في تلك العملية. فرغم التفاهمات مع حركة حماس حول العملية الانتخابية، فإن جملة من السياسات الفلسطينية التي تعيق سير العملية نفسها تؤثر على سيطرة وهيمنة حركة فتح بصورة كبيرة في الضفة الغربية وقطاع غزة. ففي حال أُجريت الانتخابات التشريعية ولم تتمكن "فتح" من خوض الانتخابات بقائمة موحدة كما تريد، تشكل القائمة الموحدة طوق نجاة لها، وتضمن فوزها بأغلبية برلمانية يمكن لها تشكيل الحكومة.
في حين قد تكون خسارة حماس أقل من فتح، وذلك يتوقف على ما تفرزه الانتخابات الداخلية لحركة حماس في نيسان/ إبريل المقبل، التي يمكن أن تُحدث بعض التحالفات غير المرضية بين بعض قوائم الحركة والمستقلين وحتى قائمة "حماس"، ما يسمح بتغيير البيئة السياسية بشكل يحرم قيادة السلطة الفلسطينية و"فتح" من الاستحقاقات التي حظيت بها على مدار سنوات الاحتراب.
لن تطرح حركة حماس مرشحا للرئاسة أيا كانت نتائج الانتخابات التشريعية، لكنها لن تدعم ترشيح محمود عباس نفسه للرئاسة باعتباره مرشح فتح، لذا قد تستثمر حماس في تلويح مروان البرغوثي بنيته الترشح لرئاسة السلطة، ويمكن أن يحظى بدعم حماس له، كونه الأقرب لتصورها حول التحول الجذري في البيئة السياسية الذي يخدم مصالحها. كما يمكن أن يحدث استمرار ترشيح مروان البرغوثي تأثيرا بالغا وشرخا عميقا في حركة فتح نفسها بين القيادات القديمة وقيادات حركة ما يسمى "الإصلاح"، خاصة أنه يحظى بدعم محمد دحلان والقيادات الأسيرة وشباب حركة فتح.
يعد الموقف الإسرائيلي حاسمًا في توفير البيئة التي ستسمح بإجراء العملية الانتخابية، حيث إن إسرائيل تحتل القدس والبلدات والقرى الفلسطينية المحيطة بها. وعلى الرغم من التزام القيادة الرسمية الإسرائيلية الصمت حتى الآن، لكنها أعلنت مرارا في أوقات سابقة عن رفضها السماح بإجراء الانتخابات في القدس المحتلة، الأمر الذي ينذر بفشل العملية الانتخابية بجانب اعتقال الأشخاص الذين يمكن أن يترشحوا على القوائم المختلفة والفاعلين في الحملات الانتخابية خاصة، لتقليص أي مكاسب لحركة حماس في المجلس التشريعي يمكن أن تغير في البيئة السياسية الفلسطينية الحالية.
الجميع في فلسطين يراهن على التعنت الإسرائيلي وعلى دوره في عرقلة العملية الانتخابية، خاصة بعد الانتخابات الإسرائيلية المزمع عقدها في آذار/ مارس وما ستسفر عنه من قيادة يمينية أكثر تشددا، الأمر الذي سيريح الكل الفلسطيني ويبقي الحال كما هو عليه، ويفضي ذلك إلى تكريس الوضع القائم على صعيد العلاقة بين حركتي فتح وحماس وتجميد جهود إنجاز المصالحة الوطنية، ويمكن أن يتدهور الوضع الحالي بما ينذر بكارثة حقيقية في البيئة الفلسطينية، خاصة بعد نتائج الانتخابات الإسرائيلية القادمة ووصول قوى أكثر يمينية، ناهيك عن موقف إدارة بايدن نفسها التي لن تلغي أي استحقاقات حققتها الإدارة السابقة، خاصة في مسألة القدس، إلى جانب تحولات قد يشهدها الإقليم في قادم الأيام.