لم تتأخر تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا لتظهر في دول الشمال الأوروبي، فنلندا والسويد والنرويج وأيسلندا والدنمارك، والتي تشهد العديد من التبدلات منذ 24 فبراير/شباط الماضي، تاريخ بدء هذه الحرب، وذلك في سياق أوروبي متصاعد. ويتعلق الأمر في إطار أوسع، بتوجه مختلف تعيشه القارة الأوروبية، وسط سعيها إلى شراكة في مسألة الدفاع القاري عن أمنها ومصالحها، بوجه ما تعتبره تهديداً روسياً.
ففي فنلندا، لم تكن فكرة عضوية هذا البلد في حلف شمال الأطلسي، قبيل الغزو الروسي، تحظى بدعم أكثر من 30 في المائة من السكّان، إلا أن هذه النسبة قفزت مع بداية إبريل/نيسان الحالي إلى 64 في المائة، وفقاً لاستطلاعات نشرتها وسائل إعلام فنلندية.
واعتبر وزير الخارجية الفنلندي، بيكا هافيستو، أن انقلاب المزاج العام مرتبط "بجدية وخوف عميقين لدى الشعب الفنلندي الذي كان دائماً قلقاً للغاية بشأن أمنه منذ حرب الشتاء (حين غزا السوفييت بلادهم بين نوفمبر/تشرين الثاني 1939 ومارس/آذار 1940) والحرب العالمية الثانية (1939-1945)"، بحسب ما نقلت عنه صحيفة "هوفستاد بلاديت".
تغير المزاج الشعبي الحاصل في هلسنكي، لا تختلف أجواؤه عن تلك التي تسود في مجموعة "دول الشمال" الأخرى. وتشير تقديرات المحللين والخبراء إلى أن القلق هو من "تهديد يتجاوز أوكرانيا"، ويجعل اتجاهات تأييد الانخراط في حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي هي الوازنة في هذه الدول.
تسعى دول القارة الأوروبية لبناء شراكة في مسألة الدفاع القاري بوجه ما تعتبره تهديداً روسياً
ويستمر النقاش في كلّ من فنلندا والسويد حول عضوية "الناتو"، فيما تبرز في كل من النرويج وأيسلندا أغلبية مؤيدة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي (الدولتان عضوان في الناتو وليس في الاتحاد الأوروبي). وتذهب الدنمارك للتخلص من تحفظاتها على معاهدات الأمن والدفاع في الاتحاد، خلال استفتاء سيجري في الأول من يونيو/حزيران المقبل.
فنلندا والسويد تكسران الحياد: نعم لعضوية الناتو
بعد سنوات التردد في استوكهولم وهلسنكي، بسبب تعقيدات علاقة البلدين بالجار الروسي، تبدو المتغيرات واضحة في انقلاب استطلاعات الرأي الشعبية، وكذا المواقف الحزبية من مسألة الانضمام لحلف الأطلسي. وبينما كان اليمين القومي المتشدد في هلسنكي، حزب "الفنلنديين الحقيقيين"، يعارض عضوية البلاد التي تملك حدوداً مع روسيا على طول 1340 كيلومتراً، في الناتو، فإنه ضمّ صوته أخيراً إلى أصوات أحزاب أخرى موافقة على العضوية الأطلسية.
وكانت رئيسة الحكومة الفنلندية، سانا مارين (من يسار الوسط)، أكدت يوم الجمعة الماضي، أن بلادها ربما تذهب إلى عضوية الناتو خلال الأسابيع المقبلة. وشدّدت مارين على "إنهاء المناقشات قبيل منتصف الصيف"، مشيرة إلى "نقاشات مستفيضة للغاية، وإن كانت لا يجب أن تأخذ وقتاً أكثر من اللازم".
وتتسلح مارين باستطلاعات رأي مستمرة تفيد بتأييد ما لا يقل عن 60 في المائة من المواطنين عضوية الأطلسي، مقارنة بحدّ أقصى لم يتجاوز 30 في المائة قبل الغزو الروسي لأوكرانيا.
ونقل الإعلام المحلي الخميس الماضي تصريحات لمارين أدلت بها أمام مندوبي الحزب "الديمقراطي الاجتماعي" في البرلمان، الخميس الماضي، أكدت فيها أنه ربما يجري طرح العضوية في الأطلسي "بقرار شامل وسريع" في اجتماع قمة الحلف المقبلة في يونيو المقبل، مؤكدة أنه "ليس هناك دولة في الحلف تعارض انضمامنا".
ومن الواضح أن البرلمان الفنلندي يميل إلى تأمين أغلبية لعضوية الأطلسي. وبحسب صحيفة "هلسنغين سانومات"، فإن المواقف بيّنت خلال الأسبوع الماضي، ما يشبه أغلبية ساحقة للعضوية، إذ أبدى 11 نائباً فقط من أصل 200 نائب رفضهم لعضوية "الناتو".
وفي العاصمة السويدية استوكهولم، تبدو تأثيرات الحرب واضحة أيضاً، مع تبدل موقف اليمين القومي المتشدد، ديمقراطيي السويد، الرافض سابقاً للعضوية، بتأييد زعيمهم، جيمي أوكسون، لها.
وتشير استطلاعات الرأي في السويد، إلى تغير ملموس في المزاج الشعبي لجهة تأييد عضوية هذا البلد في حلف الناتو. وأعرب 29 في المائة من معارضي الانضمام، الأسبوع الماضي، وفق نتائج استطلاعات نشرها الإعلام المحلي، عن موافقتهم عليه إذا جاء كخطوة مشتركة مع فنلندا، بينما أبدى 46 في المائة تأييدهم التام لهذه العضوية، بارتفاع بأكثر من 20 في المائة عن استطلاعات سابقة.
وليست رئيسة حكومة يسار الوسط في السويد، ماغدالينا أندرسون، أقل حماسة من نظيرتها الفنلندية، بشأن الانضمام إلى الناتو. وشدّدت أندرسون مطلع شهر إبريل الحالي في حديث لبرنامج تلفزيوني سويدي، على أن اختيار الحلف "مسألة سيادية لا دخل لأحد فيها"، في إشارة إلى ما كان يشيعه الروس عن فيتو ضد عضويتها في الحلف.
ارتفعت في فنلندا نسبة التأييد للانضمام إلى الناتو إلى 64%
تقنياً وعسكرياً، يعتبر السويديون الانضمام إلى حلف الناتو بشكل متوازٍ مع فنلندا أمراً حيوياً وعملياً، بينما قد لا يعود الانضمام الفردي بفائدة على أمن البلاد. وصوّرت وزيرة الخارجية السابقة مارغوت فالستروم، البلدين الجارين، كـ"سفينتين متصلتين في ما يتعلق بعضوية ناتو، فإذا انضمت فنلندا سيتعين علينا الانضمام".
ومن الواضح أن السويد، التي بقيت نظرياً في حالة حياد منذ عقود، واصلت بثبات تعاونها الوثيق مع الدول الجارة وفي حلف الأطلسي. وانتهج هذا البلد أخيراً سياسة استعراض قوة بوجه التهديدات الروسية، بنشره منذ أشهر مزيداً من القوات في جزيرة غوتلاند في بحر البلطيق، في أقصى الشمال، رداً على الانتهاكات غير المسبوقة والمتكررة التي نفذّها سلاح الجو الروسي في أجواء شرقي الجزيرة، فيما أصبح محيطها يعج بالسفن الحربية الروسية.
وينسف ترسيخ شراكة عسكرية غير مسبوقة بين السويد وفنلندا وباقي دول الشمال والبلطيق، برأي محللين دفاعيين في استوكهولم، الفكرة الروسية القائلة بأن السويد نموذج للحياد، تطالب بتطبيقه في أوكرانيا.
النرويج وأيسلندا: عضوية الاتحاد الأوروبي ضرورة
ومن الواضح أن آثار ذهاب روسيا لاستخدام القوة مع جيرانها، وتصاعد نبرة تهديداتها، وتحذير خبراء من أنها لن تقف عند حدود أوكرانيا، باتت تنعكس على معظم مجموعة دول الشمال في تحديدها لسياساتها الدفاعية والأمنية، في سياق غربي يتخلى عن التردد في مجال التحالفات، مدعوماً بالتأييد الشعبي.
وفي هذا السياق، تذهب النرويج، الدولة العضو في حلف الأطلسي والتي لا تزال خارج الاتحاد الأوروبي، نحو نقاشات مختلفة تماماً هذه المرة. فأوسلو التي باتت مقراً لتواجد عسكري أميركي في منطقة الدائرة القطبية الشمالية، وتحتضن مناورات وتدريبات شبه متواصلة منذ أكثر من عامين، تشهد حالياً نقاشات عميقة حول المتغيرات في القارة العجوز، وبشكل يفتح الباب أمام عضوية البلد في الاتحاد الأوروبي. وهو ما ينطبق على أيسلندا، التي لم تنضم أيضاً إلى الاتحاد الأوروبي، لكنها عضو في الناتو.
في كلا البلدين، تبدو تجربة الاتحاد الأوروبي في مواجهة أزمة كورونا، والفوائد التي عادت على الدول الأعضاء في الاتحاد، خصوصاً في الموازنات المخصصة للإنعاش الاقتصادي، ثم تعامله أخيراً مع الحرب الروسية، رفعت منسوب التفاؤل بتحول أوروبا إلى سياسة أمنية متضامنة (على الرغم من منغصات تفلّت بعض القوى الصديقة للكرملين، كحالة المجر برئاسة حكومة فيكتور أوربان).
وتبدو رياح الحرب في أوكرانيا في مصلحة المعسكر المؤيد للاتحاد الأوروبي في أيسلندا والنرويج، وخصوصاً بعدما غابت الثقة بالجانب الأميركي في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، لناحية ما تراه هذه الدول "حماية الديمقراطية الغربية". ومع غياب اليقين بما ستؤول إليه الانتخابات الأميركية المقبلة (2024)، فإن أوروبا برمتّها باتت تنتهج سياسة لا تعتبر دعم واشنطن مسلّماً به.
تركت سياسات الاتحاد الأوروبي لمواجهة تداعيات كورونا صدى إيجابياً في أيسلندا والنرويج
عموماً، يرى الأوروبيون أن تكتلهم هو النموذج والترياق الذي يخشاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ويسوّق مؤيدو التعاون تحت مظلّة الاتحاد الأوروبي، إلى أن هذا التعاون هو ضمان لليبرالية والديمقراطية والازدهار وسيادة القانون، باعتبارها جميعها بدائل للمجتمع الذي يسوّق له بوتين. وفي السياق، يرى هؤلاء أنه ليس من قبيل الصدفة أن أشد منتقدي الاتحاد الأوروبي، مثل زعيم حزب "الرابطة" اليميني المتطرف في إيطاليا، ماتيو سالفيني، وزعيمة اليمين المتطرف في فرنسا، مارين لوبان، هم نفسهم السياسيون الذين ظلّوا يشيدون ببوتين لسنوات.
وبناء عليه، بات النرويجيون والأيسلنديون يرون أن الاتحاد الأوروبي يلعب دوراً رئيساً في تحقيق حلول لأزمة المناخ والتحول الأخضر في الصناعات، إلى جانب دوره في قضايا الأمن والدفاع، التي تتراجع كوبنهاغن عن تحفظاتها عليها بفضل غزو أوكرانيا، وبدعم معظم أحزابها، باستثناء أجنحة أقصى اليمين واليسار.
وستكون الأيام المقبلة ربما حاسمة لناحية خيارات أكثر تحرراً عند مجموعة دول الشمال، منها تحرر الدنماركيين من تحفظاتهم على التعاون الأمني والدفاعي في اتفاقية إدنبرة (1992)، أو ذهاب النرويجيين والأيسلنديين المؤيدين للاتحاد الأوروبي لاغتنام الفرصة وطرح العضوية على التصويت. كما ستحسم الأسابيع المقبلة مسألة التنسيق السويدي- الفنلندي عسكرياً (بتعاون مع الأطلسي)، إن لناحية العضوية في الحلف، أو مزيد من العمل المشترك نحو قمة حلف الأطلسي في يونيو المقبل.