رحل "عجوز روما"، رئيس الوزراء الإيطالي السابق، سيلفيو برلسكوني، بعد حياة مليئة بالضجيج على الساحة الإيطالية.
استقر الرأي دائماً على اعتبار الراحل الثري "مغامراً" على مستويات عدة. دخوله عالم السياسة يكشف صحة تسميته بمقتنص الفرص، أو "انتهازي" من الطراز الأول.
في عام 1992، وصل النظام السياسي الإيطالي إلى حافة الانهيار، حيث ضرب الفساد والرشوة والمحسوبيات معظم سمعة الأحزاب السياسية، عدا عن أن الفساد المنهجي كان متحكما بعمل الطبقة السياسية لعقود. وعاش البلد الصناعي طيلة عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية أشبه بحالة عدم استقرار مع تبديل حكومة كل عام تقريبا.
سيلفيو برلسكوني اغتنم الفرصة بعد أن وجد نفسه في خلاف مع صديقه الاشتراكي بيتينو كراكسي، الذي حماه كثيرا من أنياب السياسة، فدخل عالم السلطة بنفسه، مستخدما مزاوجتها مع أصوله المليارية كرجل ثري أراد أن يظهر "حبه بإيطاليا"، كما ظل يردد.
في عام 1993 شكل حزب "فورزا إيطاليا"، وفي يناير/كانون الثاني 1994 أعلن برلسكوني أنه سيترشح للانتخابات البرلمانية المقبلة. دعايته الانتخابية احتوت شريط فيديو لمدة 10 دقائق أرسلت نسخه إلى المحطات التلفزيونية، التي كان له نفوذ كبير فيها، تحت شعار "إيطاليا بلد أحبه".
كان الشارع الإيطالي يعيش سخطا على الطبقة السياسية التقليدية، فجاء برلسكوني ليقدم نفسه وحزبه "فورزا" باعتبارهما خيارا غير تقليدي لبلد يعاني أزمات حكم. شعبية الرجل، كمالك لنادي ميلان العريق لكرة القدم، جعل جمهوره يستعير في هتافاته وبشكل منظم ما يحتاجه لإقناع الشارع بأنه "سياسي غير تقليدي".
استخدم برلسكوني أمواله الخاصة لخلق هياكل تؤيده وتؤيد حزبه، وانخرط معجبوه في تقديمه على أنه "جزء من العائلة"، أي العائلة الإيطالية.
محطاته التلفزيونية المتعددة: (Rete Televisive Italiane وCanale 5 وItalia1 وRete 4 بالإضافة إلى مجلات Sorrisi e canzoni وPanorama وEpoca وGrazia) وأكبر دار نشر للكتب في إيطاليا، "Mondadori"، ساهمت مع غيرها من التحركات في صناعة هالة حول منقذ إيطاليا القادم في عام 1993.
صناعة النجم على مستوى إيطاليا لـ"الرئيس"، كما لقبه مشجعوه، أثبتت الدور الكبير الذي تلعبه عملية المزاوجة بين المال والسياسة. وحتى على مستوى قياس الرأي العام أسس برلسكوني "معهد دياكرون" الذي ظل يعطيه أفضلية في استطلاعات الرأي، بالتزامن مع الحملة الإعلامية التي وضعته في مصاف قديس منقذ، في بلد تنتشر فيه الكاثوليكية كإيمان وليس كتقليد.
صدقه الشارع الإيطالي في 1994 رافعا إياه من مرتبة ملك الرفاهية إلى زعيم سياسي سيحول حياتهم إلى الأفضل، "بل هو قادر بلمس أي شيء على تحويله إلى ذهب". فمن مغن على متن سفينة سياحية قفز إلى مرتبة أغنى رجل في البلاد، واعتبرت قصته ملهمة للإيطاليين الذين عاشوا ظروفا اقتصادية صعبة.
لم تنس وسائل الدعاية رحلته مع نجاح فريق ميلان لكرة القدم في المحافظة على مكانته في الدرجة الأولى، وباعتباره مثلا حيا على قلب الخسائر إلى نجاحات.
سيلفيو برلسكوني الذي أثار الجدل في حياته أراد أن يكون له شخصية خاصة، ولم تتأثر شعبيته حتى بتصرفاته التي في العادة لا تتسم بها شخصية الإيطالي مع تقدمه في العمر. طبقة سميكة من الماكياج تغطي تقدم السنين، وشعر مستعار، وتصرفات "بلاي بوي"، أو الرجل اللعوب، لم تنقص من "سحر" وكاريزما الرجل في عيون مؤيديه.
وصفه منافسوه قبل مؤيديه بأنه جمع بين الكاريزما والذكاء، فقبل وصوله إلى السلطة في روما لم يكن كثيرون يتخيلون أن يستطيع الرجل الراحل إقناع الناس بقدرته على تسيير مصالحهم. استطاع، وفقا لتحليلات ما قبل وفاته، أن يكون بالوصفة الإيطالية "شابا مع الشاب" و"رجل أعمال مع رجال الأعمال" و"سياسيا في السياسة ومع السياسيين". وصفه من التقوه بأنه أثناء تناول الطعام معه يشعرك "بأنك مع صديق.. لكن كل شيء يدور حول كوكب برلسكوني"، أي دائما ما كان يرى في نفسه مركزا لكل الأحداث، بل يرفض أن يحال إلى الظل.
ضبط العجوز مرات ومرات في فضائح لا تليق، أخطرها فضيحة عرفت باسم "بونغا بونغا"، كناية عن سهرات الجنس المزعومة التي لاحقته بسوء استخدام فتيات شابات في تلك السهرات. في 2007 دفع ثمنا شخصيا حين هجرته زوجته فيرونيكا لارا.
على مستوى الشهوة إلى السلطة، حتى وقت قريب قبل وفاته ظل يردد أنه عائد للحكم، والتشبث به. تكرر خطفه لقب رئيس الحكومة الإيطالية مرات مختلفة، قدم نفسه في سنه الـ85 (2022) كمرشح لرئاسة البلد، فلم يختره البرلمان نتيجة توتر العلاقة بينه وبين الأحزاب اليمينية التي شاركها الحكم من أوسع أبوابه خلال فترات متعددة امتدت لنحو 12 سنة.
من بين فترات رئاسة حكومة روما، تلقى برلسكوني ضربة قوية في 2011، حين اضطرته الضغوط للاستقالة، بسبب الأزمة المالية العالمية وأزمة ديون البلد.
واتُهم مرارا بأنه لم يصل إلى السلطة سوى بمساعدة المافيا. بل اتهم في قضايا تقديم رشى لشهود في فضيحة استخدام المراهقات في قضية "بونغا بونغا".
في عام 2013، حُكم عليه بالسجن لمدة أربع سنوات بتهمة الاحتيال الضريبي. واستأنف الحكم وحُكم عليه بدلاً من ذلك بالسجن لمدة عام في خدمة المجتمع.
وفي معظم فترات حكمه عاش الرجل بشكل متكرر، صراعات وإثارة ضجيج عال بسبب اتهامات خطيرة بأنه كان يضغط لتمرير قوانين في مصلحة "برلسكوني الثري".
وبوفاته اليوم الاثنين عن 86 سنة يسدل الستار على 30 سنة من معترك السياسة التي خاضها مضافا إليها رحلة مع سرطان الدم والتهاب رئوي ثم إصابة بسرطان البروستاتا واعتلال القلب، إذ لم تفده كل الأموال في نهاية المطاف في توديع عالمه الصاخب على الساحة الإيطالية والأوروبية، بكثير من السجال والجدل حيال ذلك الطراز من السياسيين الأوروبيين، وخصوصا في جنوب القارة.
شغل برلسكوني منصب رئيس وزراء إيطاليا في فترات صعبة كان آخرها من 2008 إلى 2011، من خلال حزبه اليميني فورزا، وتحالف في كثير من الأوقات مع أحزاب يمينية أخرى، ثم اختلف معها على مستويات السياسة والأشخاص. وقبيل انتخابات العام الماضي أعلن ترشحه إلى المنصب مجددا، ثم سرعان ما انسحب بسبب وضعه الصحي. اليوم صار حزبه، فورزا إيطاليا، جزءا من تحالف يميني متطرف بزعامة جيورجيا ميلوني المثيرة للجدل بسبب شبهة ماضيها الفاشي.
وبالرغم من أنه لم يكن له دور مباشر في الحكومة الحالية إلا أن برلسكوني كان له تأثير في تشكيل التحالف الحاكم. وفاته ستخلق أيضا تدافعا على قيادة حزبه، واتجاهات مستقبل الائتلاف الحكومي الحالي.
حتى أثناء مرضه أثار الرجل ضجة حين ادعى في مقابلة تلفزيونية أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تعرض لضغوط من أجل غزو أوكرانيا، وأن من يحكمون في كييف غير لائقين بالحكم. فهو إلى جانب أقطاب اليمين، وخصوصا ماتيو سالفيني من "ليغا"، ارتبطوا بعلاقة وثيقة ببوتين، الذي أرسل له في عيد ميلاده الأخير 20 زجاجة فودكا.
رئيس وزراء سابق، ماتيو رينزي، وهو زعيم سياسيي يسار الوسط، اختزل على تويتر سيرة الرجل الراحل قائلا: أحبه كثيرون وكرهه كثيرون: اليوم يجب على الجميع أن يدرك تأثيره السياسي والاقتصادي والرياضي والتلفزيوني.