مع اندلاع الحرب الأوكرانية، ووسط تزايد خشية واشنطن وعواصم أوروبية من النفوذ الروسي، عادت إلى واجهة اهتمام الإدارة الأميركية قضية قوات شركة فاغنر في ليبيا، والتي شاركت في معارك عدة لصالح اللواء المتقاعد خليفة حفتر.
وفي زيارة هي الأولى لطرابلس، التقى مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA، وليام بيرنز، في 12 يناير/ كانون الثاني الماضي، رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، وتوجه بعدها للقاء حفتر في بنغازي.
وبعد أيام من زيارة بيرنز، أجرى نائب قائد القوات الجوية الأميركية في أفريقيا "أفريكوم"، الجنرال جون دي لامونتاني، زيارة إلى بنغازي، التقى خلالها حفتر، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح.
ووفقاً للسفارة الأميركية في ليبيا، فقد ناقش لامونتاني وحفتر "التنسيق الأمني، بما في ذلك الطيران، وأهمية توحيد الجيش الليبي تحت قيادة مدنية منتخبة ديمقراطياً".
وإزاء ضيق خيارات حفتر أمام السعي الأميركي لتطويق الوجود الروسي في ليبيا، يتساءل الباحث في الشأن السياسي خليفة الحداد، عن خضوع حفتر للتوجه الأميركي الضاغط في هذا الاتجاه. وقال متحدثاً لـ"العربي الجديد" إن "فقدان حفتر شريكاً مهماً كروسيا سيؤثر على موقعه وقوة أوراقه، خصوصاً ورقة السلاح والسيطرة العسكرية التي يفرضها على أجزاء واسعة في البلاد بمساندة روسية".
ويدلل الحداد على القلق المحيط بحفتر بـ"الصمت المطبق الذي يسيطر عليه، خصوصاً أن واشنطن أرسلت رسالة واضحة بأنها لا تعترف به، عندما سمحت للدبيبة بنشر خبر لقائه ببيرنز، لكنها لم تسمح لحفتر بذلك".
تقليم أذرع روسيا
وفي حديثه لـ"العربي الجديد"، يرى عبد الكافي أن المساعي الأميركية تتجه لتكوين "قوة عسكرية مشتركة بين الفرقاء الليبيين لحماية المنشآت النفطية الليبية"، والتي تشكل شرياناً رئيسياً لحلفاء أميركا في أوروبا، على حد قوله.
ويستطرد عبد الكافي قائلاً: "لقد تمت مواجهة حفتر بما لدى الأميركيين من معلومات واضحة عن القوات الروسية والدعم اللوجستي الذي يقدمه حفتر لهم، ومن ضمنه استخدام المهابط والمطارات للوصول إلى وسط وجنوبي البلاد".
ويبدو أن التوجه الأميركي لمحاصرة النفوذ الروسي في ليبيا كان متزامناً مع خطوات أخرى، ففي منتصف يناير الماضي، أعلنت واشنطن عن تصنيف المجموعة "منظمة إجرامية دولية عابرة للحدود"، وقررت تجميد أية أصول لها في الولايات المتحدة، ومنع الأميركيين من تقديم أي أموال أو بضائع أو خدمات لها.
ونهاية الشهر ذاته، شددت واشنطن من عقوباتها التي نالت كيانات أخرى اتهمتها بدعم عمليات "فاغنر"، وحملت الأخيرة مسؤولية ارتكاب انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان في أكثر من بقعة بالعالم، شملت "الإعدام الجماعي والاغتصاب وخطف الأطفال والاعتداء الجسدي".
وفي ما يؤكد النية الأميركية لاستغلال الانشغال الروسي بالحرب في أوكرانيا لتقليص نفوذ روسيا الأفريقي، نقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، قبل يومين، عن مسؤولين أمنيين أوروبيين وليبيين، أن بيرنز ضغط على حفتر لطرد "فاغنر"، وسط تنامي مخاوف من استفادة المجموعة الروسية من النفط الليبي، مشيرة إلى أن بيرنز "حذر، حفتر خلال لقائهما من استضافتهم".
وقال المسؤولون للصحيفة إن الولايات المتحدة أصبحت قلقة من أن "فاغنر" قد تستفيد من تدفق إيرادات جديدة، إما من خلال دفعها من عائدات النفط الليبي، أو عن طريق شبكات تهريب الوقود المنتشرة في البلاد، مؤكدة أن حفتر لم يرد على طلب للتعليق.
تركيز أممي على المقاربة الأمنية في ليبيا
وتزامنت المساعي الأميركية مع نشاط أممي متزايد في ملف المرتزقة في ليبيا، فقد كرر المبعوث الأممي إلى ليبيا، عبد الله باتيلي، في الآونة الأخيرة، مطالبته دول جوار ليبيا بزيادة دعمها للبعثة، ولجنة 5 + 5، من أجل تنفيذ خطة العمل المتعلقة بانسحاب المقاتلين والمرتزقة الأجانب.
ومنذ تسلمه مهامه في أكتوبر الماضي، ركز باتيلي على المقاربة الأمنية لحل الأزمة في ليبيا، ففي نهاية الشهر ذاته أعلن عن موافقة اللجنة العسكرية على إنشاء لجنة لرسم خرائط أماكن الجماعات المسلحة، بما فيها "فاغنر".
لكن عبد الكافي يرى أن لجنة 5 + 5 "لا يعول عليها في ملف المرتزقة"، فهي وفق تصوره "لم تنجح في أي من البنود الموكلة لها، ومنها تسليم خرائط الألغام المزروعة جنوب طرابلس وفي سرت وفي الطريق الرابط بين سرت والجفرة".
وللتأكيد على تصوره، استحضر عبد الكافي البيان الإعلامي لأعضاء اللجنة الممثلين لحفتر، في إبريل/نيسان الماضي، والذي هددوا فيه بإيقاف إنتاج وتصدير النفط والغاز، ومنع الرحلات بين الشرق والغرب، معلقاً بالقول: "هذا يشير بوضوح أن هذه المراوغات التي تمارس من معسكر حفتر سيكون لها تداعيات سلبية على عمل اللجنة، وعلى استقرار الأوضاع في ليبيا".
ويضيف: "أعضاء اللجنة العسكرية عن معسكر الرجمة لم يقدموا أي تعاون أو معلومات وافية بشأن مجموعات فاغنر التي بات وجودها جنوب المتوسط وفي ليبيا تحديداً يمثل تهديداً لقواعد الناتو ولمصالح أميركا وحلفائها الأوروبيين في إمدادات النفط الغاز".
غموض يكتنف تواجد "فاغنر" في ليبيا
ويعد وجود "فاغنر" في ليبيا غامضاً، فرغم تأكيد تقارير أممية وأخرى من الجانب الأميركي حول وجودهم في ليبيا، فإن أياً من الأطراف المتنازعة في البلاد لم تقر بوجودها بشكل معلن حتى الآن، باستثناء اعترافات ضمنية أدلى بها المتحدث الرسمي باسم قيادة مليشيات حفتر، أحمد المسماري، في مناسبات سابقة، أكد خلالها أن الروس في المنطقة الشرقية "هم مجموعة من المستشارين التابعين للمؤسسة العسكرية الروسية وليسوا مرتزقة".
ومن الجانب الروسي، أقر وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في يونيو/حزيران الماضي، بوجود مجموعة "فاغنر" في ليبيا، كاشفاً أن وجودها في ليبيا جاء بدعوة من مجلس النواب.
وبدأ الحديث عن وجود "فاغنر" في ليبيا خلال عدوان حفتر على العاصمة طرابلس خلال عامي 2019 و2020، كما جاءت تصريحات لمسؤولي حكومة الوفاق الوطني السابقة، بعضها على لسان وزير داخليتها، فتحي باشاغا (رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب حالياً)، في سبتمبر/أيلول 2019، أكد خلالها مشاركة "فاغنر" في الحرب على طرابلس ضمن صفوف مليشيات حفتر.
واستعرضت الحكومة آنذاك جثة أحد عناصر "فاغنر" بعد مقتله في إحدى المواجهات مع مليشيات حفتر، جنوب طرابلس، إضافة لتقارير أخرى أكدت مشاركتهم في زراعة ألغام متطورة في محيط طرابلس الجنوبي.
وعقب انهزام عدوان حفتر وانسحاب مليشياته شرقاً، توزع عناصر "فاغنر" بين سرت والجفرة والهلال النفطي، بل وأبعد من ذلك جنوباً، بالقرب من منابع النفط، واستمر هذا الانتشار على الرغم من توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر/تشرين الأول 2020، وتشكيل اللجنة العسكرية المشتركة 5+5، التي كان من بين مهامها إخراج المرتزقة والمقاتلين الأجانب والقوات الأجنبية من ليبيا، لكن الأخيرة لم تتمكن من حسم هذا الملف حتى الآن.
ووفق تقديرات أميركية وأممية سابقة، فإن في ليبيا قرابة 2000 مقاتل روسي من "فاغنر"، إلا أن "وول ستريت جورنال"، أكدت مؤخراً أنه لم يبق منهم سوى 300 مقاتل في الشرق الليبي، وفي محيط المنشآت النفطية وقاعدة الخادم الجوية القريبة من معقل حفتر العسكري في الرجمة.