جورج حبش يتحدّث عن البواكير والرفاق والمسار: وديع حدّاد الخجول في المرحلة الأردنية (3)

06 أكتوبر 2024
جورج حبش في عمّان، 12/6/1970 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يُبرز الحوار تجربة جورج حبش ورفاقه في تأسيس حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، مع التركيز على دور وديع حدّاد في العمليات الخارجية والانشقاقات اليسارية بين 1968 و1972.
- وديع حدّاد كان شخصية ميدانية مخلصة، ساهم في تأسيس العيادة في عمّان وبرامج للتواصل مع الجماهير، مؤمنًا بالقيادة الجماعية.
- أسس وديع حدّاد وجورج حبش حركة القوميين العرب في الأردن، وواجهوا تحديات سياسية، ونجحوا في بناء قاعدة جماهيرية قوية، مع التركيز على العمل العسكري ضد إسرائيل.

هذا الحوار وثيقة مهمة في تجربة جورج حبش ورفاقه الأوائل الذين أسسوا حركة القوميين العرب، ثم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. أنجزه في الجزائر سنة 1989 شريف الحسيني وسائدة الأسمر (حكمت نصّار). يتعلّق، في جزء كبير منه، بالقيادي المؤسّس في الجبهة وديع حدّاد وخلافه معها ومع حبش. ويتضمن تفصيلات مهمة عن البدايات التأسيسية لحركة القوميين العرب، وعن الرفاق الأوائل، أمثال هاني الهندي ووديع حدّاد وأحمد الخطيب وصالح شبل وحامد الجبوري ومحسن إبراهيم وأحمد اليماني. ويحتوي أيضاً على معلومات شائقة عن مرحلة النضال السياسي والعسكري، ولا سيّما عمليات خطف الطائرات التي برع وديع حدّاد في التخطيط لها وتنفيذها، علاوة على الانشقاقات اليسارية التي خلخلت تنظيم الجبهة الشعبية بين 1968 و1972. وقد انتشل الزميل صقر أبو فخر هذا الحوار المطوّل، الذي لم يُنشَر من قبل، من أوراقه الفلسطينية، وحقّقه ووضع حواشيه وقدّم له. تنشر "العربي الجديد" حلقاتٍ منه، قبيل صدوره قريباً في كتاب عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وفي ما يأتي الحلقة الثالثة من الحوار. 

                                                      *********

شريف: بمَ امتازت شخصية وديع حدّاد في فترة البدايات؟ هل تعتقد أن ما كان موجودًا من مزايا لدى وديع هو نفسه ما ظهر لاحقًا؟
الحكيم: نعم، لكنها تبلورت بشكل أوضح، وبرزت أكثر مع تجربة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. لكن وديع كان هو دائمًا، وثوابت شخصيته هي هي؛ صدقه وحيويته وميدانيته وعمله المتواصل والصادق (Fully Dedicated). هذه هي صفاته، ويجب ألا نقلل من هذه الصفات. هكذا كان لا أكثر ولا أقل، ولا تحاولوا إلباسه ما لم يكن فيه، ولا تقللوا من قيمة الأشياء. مثلًا إذا قلتم إن وديع كان له شأن في التطوير السياسي أو النظري أو المفاهيم التنظيمية، فلا أوافق على هذا القول. لكن إذا قلتم إن وديع كان يمثل قول لينين "إن خطوة عملية واحدة أفضل من دزينة برامج"، أقول: نعم. وإذا قلتم إنه كان يمثّل طرازًا من الناس يعمل 24 ساعة فأقول: نعم، لأن الوطنية لديه عمل وعناد في سبيل الحق وصمود. هذا وديع؛ عنفوانه وحيويته وساعات العمل الطويلة وإخلاصه وصدقه.
وكنا نشدّد على مفهوم القيادة الجماعية، وكنا نقول إن المبدأ الأول لدينا هو القيادة الجماعية. فعندما تتوافر مثل هذه القيادة تستطيع أن تستفيد من أي كفاءة، وتصبح مجموعة هذه الإيجابيات مركّزة في شخص معنوي واحد هو القيادة الجماعية. هاني الهندي كانت له إيجابياته، وصالح شبل أيضًا، وكذلك أحمد الخطيب ووديع حدّاد وجورج حبش. ونحن مارسنا مفهوم القيادة الجماعية فترةً طويلةً باستثناء فترات التوتّر والانشقاق. وهذا المفهوم كان له شأن إيجابي في تاريخ الحركة.

شريف: قيل عن وديع إنه كان خجولًا.
الحكيم: لا أتذكر ذلك في الفترة التي عرفته فيها. كان قد تجاوز على الأرجح هذه الصفة.

شريف: يتذكر بعضهم وديع حدّاد في مرحلة الأردن، خصوصًا حين بدأت الخلافات تظهر في صفوف الحركة، فكان يحاول دائمًا أن يؤدّي دور الموفِّق. أي إنه، بصرف النظر عن نقاط الخلاف، كان يصرّ على ضرورة بقاء الجميع بعضهم مع بعض. هل كان ذلك السلوك ملموسًا في تلك الفترة؟
الحكيم: لا تستطيع أن تقول إن وديع في عام 1946 مثل وديع في عام 1948، أو مثل وديع في الخمسينيات، أو وديع عند تأسيس الجبهة، أو بعدما نجح في تنفيذ بعض العمليات الخارجية. نعم، أدّى وديع هذا الدور في فترة من الفترات لدى بروز التناقضات في داخل حركة القوميين العرب. لكن بعدما تبلورت قضايا الخلاف، أصبح حاسمًا في موقفه. وأشير هنا إلى الأعوام 1963 – 1966حين بدأنا نواجه التعارضات في صفوف الحركة، فقد كان وديع يدعو إلى الحسم، وفي رأيي كان يدعو آنذاك إلى الحسم المتسرّع في ما يتعلّق بهذا الموضوع، غير آخذٍ في الاعتبار خصوصية الحركة وخصوصية عملية التحوّل التي تخوضها. فأنت لا تستطيع أن تعطي جوابًا موحَّدًا. لكنه أدى هذا الدور في بداية بروز التعارضات في داخل صفوف حركة القوميين العرب، وكان يشدّد على الحفاظ على وحدة الحركة، مع تحديد خندقه في سياق التعارضات الداخلية في الجبهة. وهذا يعني أن وديع متغيّر، ولم يكن في الموقع نفسه في جميع المراحل، كان في الموقع الذي يطالب بحسم التناقضات بسرعة.

جورج حبش (Getty)
                                                              جورج حبش (Getty)

سائدة: يقول بعض أعضاء الحركة السابقين إنهم فوجئوا بعد تأسيس الجبهة الشعبية وانطلاق العمليات الخارجية بأن وديع حدّاد هو من يقود تلك العمليات. واستغربوا أن يكون وديع حدّاد هو من يخطط لها وينفّذها، ووصفها الإعلام الغربي بـ"الإرهابية"، ووصفوه بالإرهابي الأول، وهو الذي كان ضدّ العنف في داخل الحركة.
الحكيم: لم يكن وديع في حياته ضدّ العنف الثوري. بالطبع، لم يكن وديع عضوًا في تجربة كتائب الفداء العربي. وعندما بدأنا نفكر في العمل العسكري ضدّ إسرائيل في الفترة 1951 – 1953، والاستفادة من تجربة محمد خليفة (أبو عبد الله)، ومع أن وديع لم يكن منضويًا فيها مباشرة، إلا أنه كان مطّلعًا عليها ومتحمّسًا لها. وفي عام 1960 كان يقود الدوريات الاستطلاعية، وبعد ذلك قاد فرع فلسطين الذي أُسّس على قاعدة الاستعداد للكفاح المسلح.

كنا نقول إن المبدأ الأول لدينا هو القيادة الجماعية. فعندما تتوافر مثل هذه القيادة تستطيع أن تستفيد من أي كفاءة

شريف: كيف كانت دراسته في الجامعة؟
الحكيم: ناجح، وليس مبدعًا. ليس ممتازًا ومتفوّقًا، لكنه مثل الدكتور أحمد الخطيب كان طالبًا متوسطًا. إلا أنه منذ عام 1948 تقلّص الوقت الذي يعطيه أي واحد منا للدراسة.

شريف: لكنه لم يرسب في أي صف ولا مرّة؟
الحكيم: لا، أبدًا. أعتقد أن وديع لو لم ينتمِ إلى العمل الوطني وأعطى وقته وجهده كله للدراسة، لكان طالبًا مبرّزًا.

سائدة: أنتَ تخرّجت في الوقت نفسه الذي تخرّج فيه وديع؟
الحكيم: أمضيتُ سنة أولى وثانية طبّ، وهذه تعتبر سنوات تأسيسية، كما يُربَّى الطفل بإعطائه الكالسيوم والفيتامينات، ثم تصبح لديه بنية منيعة. وكان حظّي أن أُنهي هذه السنوات قبل عام 1948، وبالتالي نلتُ درجة ممتازة. لكن، في السنوات الثالثة والرابعة والخامسة تأثّرت بما جرى في فلسطين، ما عدتُ احتلّ المرتبة الأولى، وبقيت ضمن الخمسة الأوائل؛ في السنة الأولى أعتقد أنني كنت الأول، مع أنه كان معنا الدكتور منصور أرملي والدكتور منير شماعة والدكتور جان يعقوبيان، بمعنى أنني كنتُ الأول بين أربع أو خمس طلاب من المستوى العالي. وفي السنة الخامسة التي تخرّجت فيها كنتُ من الخمسة الأوائل.

شريف: ننتقل إلى الأردن بعدما تركت بيروت قبل رفاقك وبدأت تحضير العيادة. وقد سبق هذا الأمر قرارٌ يقضي بذهاب فلان إلى منطقة محدّدة وذهاب آخر إلى منطقة ثانية.
الحكيم: هذا ما أتذكّره.

شريف: أجمع الكل على هذه القضية. أنتَ ذهبت إلى الأردن وافتتحت العيادة. أين كانت العيادة؟
الحكيم: في مقابل سوق الخضر في عمّان. وأعتقد أن اختيار مكان العيادة هناك كان متعمدًا، أي أن يكون في وسط الناس. ذهبنا إلى الأردن أنا ووديع بهدف واضح جدًا، وحامد الجبوري التحق بنا فيما بعد. كنا نريد أن نعدّ أنفسنا للفوز في معركة التحدّي التي حدّدناها لأنفسنا. كان العنوان الأول لتلك المعركة مسلكيًا، والعنوان الثاني نظريًا وسياسيًا، بحسب مفهومنا للمعيار النظري والسياسي في ذلك الوقت. بمعنى أننا يجب أن ننجح ونبقى في ميدان الممارسة شرفاء ومخلصين وصادقين، ونعدّ أنفسنا نظريًا في السياق نفسه. وما زلت أذكر أننا بعد انتهاء دوام العيادة، كان علينا أن نطالع كتبًا في التاريخ العربي والوحدة الإيطالية والوحدة الألمانية، ونقرأ القرآن وجميع صنوف المطالعات. وكان علينا أن ننجح في الممارسة طبقًا لما كنا نعتقد أو نقول عن أن الأحزاب العربية كانت غير جادة، ولا تعيش في وسط الناس، ولا تناضل مباشرة. وفي السنتين الأولَيين من وجودنا في عمّان افتتحنا مدرسةً لمكافحة الأمية، ليس انطلاقًا من نظرة خيرية أو مثالية لمكافحة الأمية، بل على أساس الاتصال بالناس والجماهير. وأذكر أن وديع كان يتعمّد أن ينزل ويتمشّى ويمسح حذاءه ليقول لماسح الأحذية: "ياخوي، هل تقرأ؟"، فيجيب ماسح الأحذية: "لا". فيقول وديع: "طيب، لماذا لا تقرأ؟ نحن نريد أن نفتتح مدرسة لمن لا يعرف القراءة. ما رأيك أن تأتي لتتعلم القراءة والكتابة؟". وبهذه الطريقة جمعنا طلاب الصفّ الأول. وهذه المدرسة أفادتنا جدًا في الصلة بالناس والجماهير، وربما ضممنا من خلالها إلى صفوفنا رفاقاً استمرّوا ثابتين في العمل الوطني.
مدرسة محو الأمية كانت النقطة الأولى في برنامجنا، والعيادة المجّانية هي النقطة الثانية. وقد حدّدنا يومًا في الأسبوع للتطبيب المجاني، وبالطبع ليس على أساس نظرة إنسانية، بل على أساس الصلة بالناس. والنقطة الثالثة كانت المنتدى الثقافي العربي الذي لم نكن نحن مَن أسّسه، بل كان قائمًا في الأساس، وانضممنا إليه من خلال نزار جردانة وعلي منكو، وهما كانا عضوين فيه. وهكذا أصبح لدينا ثلاثة منابر: العيادة ومدرسة محو الأمية والنادي الذي كنا نعقد فيه الندوات والمحاضرات. أما النقطة الرابعة فكانت مجلة الرأي. والنقطة الخامسة والأهم كانت العمل التنظيمي. كنا نعرف في الأردن أشخاصًا كثيرين من الشبّان الذين كانوا معنا في بيروت ولهم صلة بالعروة الوثقى أمثال نزار جردانة وعلي منكو. وكان واضحًا في ذهننا الفارق بين وديع وجورج وهاني وبين الأخوة الوطنيين هؤلاء الذين يتحدّرون من بنية اجتماعية أخرى.

اخترنا مكان عيادتنا في عمّان في مقابل سوق الخضر. وكان هذا متعمّدًا، أي أن يكون في وسط الناس

شريف: هل كان هذا الفارق ملموسًا منذ البداية؟
الحكيم: نعم، عرضنا عليهم العمل السياسي معنا، ثم بدأوا يقترحون توسيع الحلقة. كان هناك شاب يدعى حمد الفرحان، واقترحوا أسماءً أخرى بحيث توسّعت الحلقة إلى 20 اسمًا. وهنا، أنا ووديع، وقعنا في ورطة. هؤلاء مستعدّون للعمل، ونظرتهم إلى العمل السياسي أن يكونوا هم أساسه وهم مؤسّسوه، في الوقت الذي كانت نظرتنا مختلفة، وأن هذه الحلقة إنما هي مجرد واجهة، ومن خلالها ننال امتيازًا لإصدار مجلة، ثم نسيطر على المنتدى الثقافي العربي، وننشط سياسيًا من خلاله. هنا المشكلة التي عشناها أربع سنوات ولم تُحسم إلا عندما وقعت حوادث عام 1957، التي لم تكن مجموعتنا مستعدّة للتصادم مع السلطة التي قامت بالانقلاب الأسود. وهنا حصلنا على المبرّر للانفراد بعملنا، بمعنى أنه إذا كنتم غير مستعدّين لمواجهة النظام، فاسمحوا للناس أمثالنا بأن تناضل ضدّ السلطة. مع أن العملية لم تكن بهذه البساطة. لكن خلال السنوات الأربع كانت الأمور "واقعةً برأسي وبرأس وديع"، لأن الرفاق في بيروت أو دمشق في ذلك الوقت كانوا يريدون محاكمة التجربة على أساس أننا إطار مُنضبِط 100%، وهذا الأمر ما كان ممكنًا البتّة. ليس ممكنًا أن تستفيد من حمد الفرحان أو نزار جردانة أو غيرهما كما ترغب. بالنسبة إليهم، كانوا يؤسّسون حزبًا. وعملية التشابك بين المفهومين كانت صعبة. وأنا ووديع كنا دائمًا نعطي هذه التجربة مداها ونؤكّد أننا لسنا متحكّمين بها 100%، لكننا كنا الدينامو الفاعل فيها. تلك السنوات الأربع شكّلت عبئًا عليّ وعلى وديع، وحسمها انقلاب إبريل/ نيسان 1957. وهكذا وجدنا أنفسنا أمام حزب سياسي سرّي، ووقعنا أنا ووديع في ورطة. علي منكو ونزار جردانة ومَن معهما يتصرّفون على أساس أنهم قيادة المجموعة، بينما صالح شبل وهاني الهندي ومَن معهما في بيروت ودمشق والكويت، ونحن من بينهم، يتصرّفون على أساس أنهم هم قيادة هذا الإطار الفضفاض. وهنا لا بدّ من الأخذ في الحسبان أن وديع حدّاد تحمّل المسؤولية الأولى في الحركة بعد أن غادرتُ إلى دمشق، واستمرّ في تحرير مجلة الرأي، في خضمّ حوادث كبيرة مثل زيارة تمبلر وحلف بغداد وطرد غلوب باشا من الجيش الأردني وانتخابات عام 1956 ثم انقلاب نيسان الأسود(1). وهنا كان لوديع دور قيادي. وبعد أن غادرت الأردن إلى دمشق [في سبتمبر/ أيلول 1954] صارت الحركة في الأردن ممثّلة بوديع وحده.

شريف: هل عدتَ إلى الأردن بعد تخرّجك في الجامعة الأميركية مواطناً أردنياً؟ هل كان لديك جواز سفر؟ ماذا عن وديع؟ هل كان مواطنًا أردنيًا عندما أُبعد من الأردن في ذلك الوقت؟
الحكيم: حصلنا على جواز سفر أردني من خلال علاقاتنا، ولا أملك الجواب الكافي عن هذه المسألة. ما عدتُ أتذكّر.

شريف: أين سكن وديع عندما جاء إلى عمّان للمرّة الأولى؟
الحكيم: في العيادة.

شريف: وبقيتما معًا في العيادة؟
الحكيم: ألم تحدّثكم نصرة حدّاد عن الحصبة؟ في كثير من الأوقات كان أحد الضيوف يأتي إلينا، وكان لدينا سريران، فنخجل من الضيف، ونستضيفه في سرير، ونمضي الليل أنا ووديع في سرير واحد.

حدّدنا يومًا في الأسبوع للتطبيب المجّاني، ليس على أساس نظرة إنسانية، بل على أساس الصلة بالناس

شريف: إذاً العيادة كانت مركز عملكم وإقامتكم ومضافتكم في الوقت نفسه؟
الحكيم: كان والدي صاحب نكتة، وكثيرًا ما كان يردّد: "يا تحفة(2)، أنتِ مفتكرة إنو هذه عيادة؟ هذه قيادة". فتردّ أمي عليه: "هذه عيادة، هذه قيادة، ابنك عامل قيادة". عندما أصيب وديع بالحصبة أصبح والدي يستعمل تعبير "البلد كلها بتحصّب وهدول الشباب عم يكثروا، والحصبة منتشرة يا تحفة". يومذاك كان توسعنا ونمونا خارقًا للعادة. الظرف السياسي وروحيتنا والتحدّي الذي كنا نواجهه وتلك الأطر التي اتبعناها ساعدتنا كثيرًا: مدرسة وعيادة وصحيفة وتنظيم. ووجدنا أنفسنا في عام 1956 نقود معركة انتخابية، وننال أصواتًا لا بأس بها، وأصبحنا قوة بين القوى السياسية الأساسية في الأردن، وجرى ذلك كله خلال سنتين أو ثلاث سنوات.

شريف: كنتم تطببون الناس في العيادة مجّانًا يومًا في الأسبوع.
ا
لحكيم: لا، اليوم المجّاني كنا نقيمه في المنتدى الثقافي العربي. العيادة عيادة، لكن أي إنسان فقير يأتي إلى العيادة لم نكن نأخذ منه أجرةَ الكشف الطبي، ونشعر أن من واجبنا مساعدته في شراء الدواء.

شريف: أَكنتم تعطونه فلوسًا أم دواءً؟
الحكيم: كانت هناك صيدلية تحت العيادة مباشرة، صاحبها فتحي جردانة، فنقول للمريض: إذهب إلى هذه الصيدلية وخذ الدواء. فيجيب: لكن ليس لدي مال. فنقول له: خذ الوصفة الطبّية، ونحن متّفقون مع فتحي جردانة على أن أي وصفة طبّية لا يدفعها صاحبها، يسجّلها على حسابنا.

شريف: كم بقيتما أنت ووديع معًا في العيادة؟
الحكيم: بقينا حتّى إبريل/ نيسان 1957. آنذاك كانت لدينا فكرة أن يعمل وديع طبيبًا في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وهذا ما حصل. وصرنا نلتقي في نهاية كل أسبوع. لكن ما عدت أتذكّر كم هي الفترة التي بقينا فيها مع بعض، ومتى عمل في الوكالة. ما أعرفه أن وديع عندما اعتقل في أثر انقلاب إبريل 1957 كان يعمل في الوكالة(3).

سائدة: هل عمل في الوكالة لهدف معين؟
الحكيم: أتذكّر أن وديع لم يغلق العيادة حين كنتُ في سورية. معنى ذلك أنني عندما عدتُ إلى الأردن بعد طرد غلوب باشا، عمل وديع طبيبًا في الوكالة.

سائدة: ألم يُطلب منه أن يعمل في الوكالة؟ في عدة لقاءات معه ذكر أنه طُلِب منه أن يعمل في "أونروا" ليمدّ الحركة في الأردن ببعض الإيرادات الشهرية، لأن العيادة لم تكن موردًا يُعتمَد عليه.
الحكيم: نعم، لكنني لا أذكر ذلك على وجه الدقّة.

سائدة: كان عمله في "أونروا" يتيح له الاحتكاك بالجماهير في المخيمات.
الحكيم: العيادة لم تكن مشروعًا رابحًا ماليًا. لكن لم نشعر مرّة أننا جائعون، لسبب بسيط هو أننا تعودنا أكل الفلافل. ويمكن أن يكون وديع نفسه هو صاحب فكرة العمل في "أونروا". ما عدت أتذكّر.

لم تكن العيادة مشروعًا رابحًا ماليًا. لكننا لم نشعر مرّة أننا جائعون لسبب بسيط أننا تعودنا أكل الفلافل 

شريف: بالتسلسل التاريخي: بدأتم العمل في العيادة في سنة 1952؟
الحكيم: نعم، في سنة 1952، وجاء وديع بعد تخرجه بشهر أو شهرين، أي في أغسطس/ آب 1952.

شريف: ماذا عن مشروع تمبلر؟
الحكيم: هذا في عام 1955.

شريف: في عام 1955، كانت صحيفة الرأي قد بدأت تصدر.
الحكيم: صدرت "الرأي" في عام 1954.

شريف: صدرت مدة سنة، ثم توقّفت، ثم انتقلت إلى دمشق (4).
الحكيم: نعم.

شريف: في هذه الفترة أنت اعتُقلت في الأردن؟
الحكيم: نعم، اعتقلت مرّتَين: مرّة لبضعة أيام، ربما يومين أو ثلاثة، في تظاهرة قمنا بها تأييدًا للمغرب وللملك محمد الخامس. والمرّة الثانية دامت نحو 40 يومًا، ولم أكن وحدي، بل اعتقل معي كثيرون من قادة الحركة الوطنية في عهد حكومة سمير الرفاعي. علاوة على فترة الاختفاء التي دامت منذ الانقلاب الأسود في إبريل/ نيسان 1957 حتى قبيل نهاية عام 1958.

شريف: هل كان وديع يشتغل في الوكالة في الفترة التي اعتُقلت فيها؟
الحكيم: لا أذكر.

شريف: هل أنت متأكّد من أن "الرأي" صدرت سنة واحدة فقط في الأردن؟
الحكيم: نعم، نحو سنة واحدة، ثم صدرت بعد ذلك في دمشق(5).

شريف: خرجتَ إلى دمشق في تلك الفترة لتكون مشرفًا على المجلة، أم أن هاني الهندي (أبو محمود) كان قد تسلّم الإشراف عليها؟
الحكيم: خرجت على أساس أن نستمرّ في إصدار المجلة.

شريف: بعد ذلك رجعت إلى الأردن؟
الحكيم: تسلّلت إلى الأردن في تلك الأثناء مرّتَين. لكنني عدت إلى الأردن بشكل طبيعي بعد طرد غلوب باشا حيث حظينا بفترة من الحرّيات.

شريف: في هذه الفترة تعاونتم مع محمد خليفة (أبو عبد الله) في ميدان العمل العسكري في الضفة الغربية. هل كان هذا جزءًا من برنامج عملكم في الأردن؟ أَلم تكن مغامرةً غير محسوبة أن تأتوا بأحد الناس وتقولوا له: تعال نفّذْ عملية فدائية؟
الحكيم: لا شك في أن توجّهنا الأساسي كان تأسيس فرع لحركة القوميين العرب في الأردن، وكنا نتساءل دائمًا عن إمكانية العمل المباشر ضدّ إسرائيل من الأردن. ولا أستطيع أن أقول إن العمل العسكري كان موازيًا في اهتمامنا للعمل التنظيمي والجماهيري، ولكن كانت له بذور في تفكيرنا. فلما جاء بعض المعارف ووجد أننا نستطيع أن نقوم بتجارب من هذا النوع بمساعدة أبو عبد الله التقطنا الفرصة، وأصبح أبو عبد الله يساعدنا في متابعة هذه الشأن مع العناصر المُختارة. وبدأنا نشجّع تلك العناصر على التسلّل ودراسة إمكانية ضرب أهداف معينة، وقمنا ببعض العمليات الاستطلاعية. غير أننا اصطدمنا بالعقبة التالية: إذا كان من السهل تجاوز عقبة الجيش الإسرائيلي في الذهاب، فمن الصعب تجاوز العقبة نفسها في العودة، وبالتالي أصبح هذا الموضوع من أصعب الموضوعات التي واجهتنا. ووجدنا أن أي عمل مسلح يجب ألا يغنينا عن الاستمرار في النضال من أجل الوحدة وتحرير البلاد العربية. تجربتنا في الأردن لم تنجح، لكنها برهنت لنا أهمية العمل الجماهيري للتخلص من هذه الأوضاع المعيقة، بما يتيح لنا العودة لمقاتلة إسرائيل بحيوية أكبر وبآفاق أبعد.

وجدنا أنفسنا في 1956 نقود معركة انتخابية، وننال أصواتًا لا بأس بها، وأصبحنا قوة بين القوى السياسية الأساسية في الأردن

شريف: هل توسّع العمل التنظيمي نحو نابلس والقدس، والمدن الأردنية الأخرى؟
الحكيم: نعم، نحو إربد، وربما مادبا، وكثير من المدن كالقدس ونابلس. وعندما نقول القدس أتذكر صبحي غوشة، وعندما نقول نابلس أتذكر محمد العمد والدكتور صلاح عنبتاوي، وعندما نقول إربد أتذكر أحمد الطوالبة.

شريف: هل كان العمل التنظيمي في صفوف الأردنيين يتم من خلالكم أم من خلال المجموعة الثانية؟
الحكيم: من خلال المجموعتين معًا، ففي ذلك الوقت لم تكن النعرة التي نواجهها حاليًا بين فلسطيني وأردني موجودة. كانت هناك حركة وطنية أردنية، ولم يكن الشرخ الإقليمي على ما هو عليه اليوم. في إربد مثلاً، شقّ الدكتور أحمد الطوالبة، وهو أردني، طريقًا للعمل، ولم أكن أشعر، لا أنا ولا وديع، بأننا غرباء. ولم أتورّع عن الذهاب إلى فرع إربد وإلقاء ندوة مثلاً، والاتصال بالكوادر والقيام ببعض الترتيبات. ولا أعتقد أننا كنا نقف أمام التفكير الذي يرى أن من الأفضل أن يقوم بهذا العمل فلان لأنه شرق أردني، أو أن يقوم بذلك العمل فلان لأنه فلسطيني.

شريف: قصدت من السؤال هل كان نزار جردانة وعلي منكو مثلاً مطلعين على الجانب التنظيمي في عملكم؟ أم أن ذلك حصل في وقت لاحق؟
الحكيم: ضمت القيادة السياسية للتنظيم نحو 20 اسمًا، وصارت قيادته غير محصورة في وديع وجورج وحدهما. أتذكر حمد الفرحان وعلي منكو وأحمد الطوالبة وصلاح عنبتاوي ومحمد العمد، وهؤلاء ومعهم وديع وأنا أصبحنا على رأس هذا التنظيم الذي اسمه حركة القوميين العرب في الأردن، مع الانتباه إلى أننا، أنا ووديع، كنا نمسك المفاصل الأساسية ونشرف عليها. وهذه الفترة كانت صعبة على وديع وعليّ بشكل خاص، لأن قيادة الأردن كانت تنظر إلى نفسها على أنها هي القيادة في الأردن، وستكون مستقبلًا القيادة العليا لفروع حركة القوميين العرب في الخارج، بينما قيادة الحركة الفعلية تعرف طبعًا أن الأردن فرع من فروع عملها(6). هذه هي فترة الازدواجية التي عشناها حتى عام 1961. وفي سياق هذه الفترة خرج كثيرون من الحركة، فيما كان الأشد صلابة أشخاص أمثال حمدي مطر ومصطفى الزبري [أبو علي مصطفى] وغيرهما من العناصر الصلبة الكادحة.

جورج حبش وأبو علي مصطفى في العام 1983 (Getty)
                                                          جورج حبش وأبو علي مصطفى في العام 1983 (Getty)

شريف: في تلك الفترة كانت اجتماعاتكم جارية مع مجموعتي بيروت والشام.
الحكيم: نعم بالتأكيد. قبل مؤتمر عام 1956 كنا متفقين على ضرورة عقد اجتماع كل ثلاثة أشهر. فيأتي هاني الهندي إلينا في عمان. المركز كان في الأردن، لأن ثلاثة على الأقل، حامد ووديع وأنا، موجودون فيه، وكل ثلاثة أشهر نعقد اجتماعًا يحضره هاني الهندي وصالح شبل، وأحيانًا أحمد الخطيب.

شريف: هل كنتم تذهبون إلى لبنان أحيانًا وتجتمعون هناك؟
الحكيم: يجوز. لكن، يجب التدقيق في هذا الأمر. كنت أغتنم أي فرصة مثل هذه، لكن أن ننتقل نحن الثلاثة معًا، يجب التأكد منه.

شريف: كان ثمة حديث عن مهرجان في البحر الميت أو أريحا، هذا الذي اصطحبت أسامة النقيب إليه، وهناك التقى وديع. هل كان مهرجانًا للحركة أم مهرجانًا وطنيًا عامًا؟
الحكيم: لا، لم يكن مهرجانًا وطنيًا عامًا، بل كنا نعمل أيامًا لنجمع نحو ستين أو سبعين رفيقًا. أذكر أننا كنا نعمل على تنظيم رحلات في يومي الخميس والجمعة لنلتقي معًا، قيادة وكوادر، في اجتماع حزبي هادف له جدول أعمال(7).

لم تكن النعرة التي نواجهها حاليًا بين فلسطيني وأردني موجودة. كانت هناك حركة وطنية أردنية، ولم يكن الشرخ الإقليمي على ما هو عليه اليوم

شريف: عقد مؤتمر في نابلس شاركتم فيه ممثلين عن حركة القوميين العرب.
الحكيم: نعم. هذا حصل قبل 1957 حين بدأ الملك حسين يعدّ العدّة للانقلاب الأسود. هنا بادرت الحركة الوطنية إلى عقد هذا المؤتمر استعدادًا للمواجهة، واتخذ المؤتمر مجموعةَ قرارات. هذا جرى قبيل إبريل/ نيسان 1957.

شريف: هل شاركتم في انتخابات سنة 1956 حركةً؟
الحكيم: نعم شاركنا حركةً، لكن لم نُسمِّ مرشّحين بصورة مكشوفة. كان لدينا مرشّحان عن عمان هما نزار جردانة وأنا، وكان أحمد الطوالبة مرشّحًا عن إربد، وكان صلاح عنبتاوي أو محمد العمد مرشّحًا عن نابلس. كان لدينا إذاً أربعة مرشّحين. وشاركنا جميعًا في حملة الانتخابات، أنا ووديع حدّاد، وكان أبو علي مصطفى وأبو عيسى ينقلان الناس إلى المهرجانات ويعيدانهم. شهر كامل من النشاط الفاعل. مَن كان يعرف جورج حبش في ذلك الوقت وهو كان إلى وقت قريب مجرّد طالب في الجامعة؟ لكن، عندما أخوض معركة ضدّ سليم البخيت ووراءه عائلة البخيت وأنال نحو 3000 صوت، فهذا يعني أن برنامجنا السياسي (طرد غلوب باشا وإلغاء المعاهدة مع بريطانيا) صار له حضور جماهيري.

شريف: هل سجّلتم رخصةَ صحيفة الرأي باسم حمد الفرحان أم نزار جردانة أم باسم عدنان فرج؟
الحكيم: بعثنا في طلب عدنان فرج للمشاركة في تحرير الصحيقة. زنبرك الصحيفة أنا وعدنان. وعندما يأتي صالح شبل أو هاني الهندي يكتب الواحد منهما مقالة. وكنا نستعين بحمد الفرحان أحيانًا. وصفي التل كتب مقالة أو مقالتَين. لكن الزنبرك ومن يوزع العمل كانا عدنان فرج وأنا.

شريف: أتصوّر أن طباعة المنشورات وتوزيعها كان لوديع شأن كبير فيها.
الحكيم: بالطبع. كانت الصحيفة تصدر في كل يوم اثنين. وفي يومي السبت والأحد كنا ندوخ أنا ووديع في صوغ المقالات وإرسالها إلى الطباعة وتوزيع الصحيفة. وفي الوقت نفسه نكون مشغولين في ألف قصّة وقصّة؛ عمل وطني وحلقات نقاشية وخلايا واجتماعات حزبية. لم أكن أعرف أن الواحد يمكنه أن ينام وهو في طريقه إلى السرير. أنا نمت في إحدى المرّات وأنا في طريقي إلى السرير؛ لا في السرير بل واقفاً. وفي أيام العيادة أذكر أنني كنت أتعب، ومع ذلك لا أنام إلا قرابة الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. مرّة سألت وديع: هل سهرت بعدي كثيرًا؟ فقال: أنا بقيت حتى الثانية والثلاثين دقيقة، فقد خطر في بالي أن أعيد ترتيب أسماء طلاب مدرسة محو الأمية، وأن أعيد النظر في القوائم التي ستنتخب الهيئة الإدارية للمنتدى العربي(8). وعلى هذا الأساس قلنا إننا نجحنا من حيث الممارسة ومن حيث المفاهيم السياسة والتنظيمية للحركة.

شريف: هل كان توزيع الصحيفة جيدًا في تلك الفترة؟
الحكيم: حين تنزل صحيفة الرأي إلى المكتبات تحصل هزّة في عمّان. ينتظرها الناس انتظارًا لأنهم لم يكونوا معتادين مانشيت من طراز مانشيتات الصحيفة مثل: ماذا يعمل هذا الإنكليزي؟ ليسوا معتادين مثل هذه الجرأة. آنذاك تسلّم فوزي الملقي رئاسة الحكومة، وكان الملك حسين قد تسلّم الحكم حديثًا، وليس من المعقول أن يبدأ فوراً في الاعتقالات، وأرادا أن يعطيا انطباعًا عن أن ثمة حرّيات في الأردن، ونحن استفدنا من هذه الأوضاع جيّدًا. لكن أركان الحكم لم يتحمّلوا ذلك، فسُحب الترخيص بعد نحو سنة. وعلى هذا الأساس انتقلنا إلى دمشق، وبقي وديع يتحمّل أعباء التجربة.

شريف: هل انضم نايف حواتمة إلى الحركة في تلك الفترة؟
الحكيم: سمعتُ بنايف، للمرّة الأولى، بعد أحداث تمبلر. قبل ذلك لم أكن أعرفه. ربما بعد أحداث تمبلر مباشرة، أي في نهاية سنة 1955. آنذاك تسلّلت من دمشق إلى الأردن، والتقيت وديع بشكل خاص، وكذلك الإطار القيادي الأوسع، أي حمد الفرحان وعلي منكو، في اجتماع موسّع لمناقشة مسألة إسقاط حكومة هزاع المجالي، وما يجب أن نفعل آنذاك. أخبرني وديع حدّاد أن هناك شابًا نشطًا يدعى نايف حواتمة جاءنا من مصر، وأنا أعتمد عليه إلى حدّ كبير، وهو من السلط. بعد أربعة أو خمسة أشهر رجعت إلى الأردن وتعرّفت إليه. كان آنذاك عضوًا في خلية، وربما عضوًا في رابطة. لكن مع الانقلاب الأسود الذي وقع في عام 1957، دفعنا مجموعة من الكوادر إلى تسلّم المسؤولية في ضوء اقتناعنا بأن الصفّ القيادي القديم ليس بمستوى التصدّي ومجابهة التحدّيات. لذلك بدأنا نعتمد على الصف القيادي الجديد. وكان من بين الأسماء التي تشقّ طريقها إلى القيادة محمد ربيع (أبو أسامة)، وكان مصطفى الزبري (أبو علي) معتقلًا، ومحمد ربيع طليقًا. ومن بين الأسماء أيضًا نايف حواتمة. ولما اعتقلوا وديع، واختفيت أنا لأقود العمل من بيت سرّي، تراخى الإطار القيادي القديم في المواجهة. لكننا، أنا ووديع وآخرين، رحنا نفكّر في التصدّي للنظام بالعنف، وكانت سورية تشعر آنذاك بأن الانقلاب الأسود في الأردن جزء من المخطط الإمبريالي الذي يحاول تطويقها. وكان عبد الحميد السرّاج متحمّسًا لتأسيس حركة شعبية وحركة عنف في الأردن، وكان هاني الهندي يبعث لي برسائلَ تشير علينا بكذا وكذا. أنا، من مخبأي السري، كنت اعتمد على الصفّ القيادي الجديد ومنه نايف حواتمة. وكلما كُشف أحد الرفاق نرسله إلى دمشق. ثم جاءت مرحلة أصبح نايف مطلوبًا فيها للسلطات الأردنية، فرتبنا الأمور لإرساله إلى سورية(9). أسماء عديدة أُرسلت إلى دمشق آنذاك، منها إبراهيم الراهب وفايز قدورة (أبو بسام) علاوة على من اعتقلوا أمثال أحمد محمود إبراهيم (أبو عيسى) وحمدي مطر وستيفو ستيفان ونادية السلطي(10). وكانت تلك الفترة من الفترات التي صمدنا فيها ونجحنا. وهناك كرّاس عنوانه "سنة من الكفاح"، سجّلنا فيه أحداث سنة من النشاط الكفاحي في الأردن بعد انقلاب نيسان الأسود. والمؤكّد أن جزءًا من هذا النشاط وقفت الحركة خلفه، لأن أوضاع حزب البعث لم تكن أفضل من أوضاع الحركة الوطنية الأردنية، وكان الشيوعيون مضروبين. آنذاك تصدّينا نحن حركةً لتلك الأوضاع، ونجحنا بحسب مقاييسنا.

لم تبدأ صلتنا بعبد الناصر حركةَ قوميين عرب إلا بعد الانفصال في 1961

شريف: في موضوع الضبّاط في الجيش الأردني، هل كان ثمة توجّه نحو المؤسّسة العسكرية الأردنية، أي تأسيس تنظيم عسكري في داخل الجيش؟
الحكيم: في تلك الفترة 1956 – 1957، لم يكن لدينا مثل هذا التوجّه. لكن الوضع تغيّر بعد الوحدة السورية – المصرية، وأصبح لدينا أفق للتغيير في الأردن. والتغيير سيتم على طريقة الخمسينيات، أي بالانقلاب العسكري.

شريف: أردت القول إن بعض الأشخاص مثل الدكتور فهيم ناصر وعلي أبو نوار كانوا يرتبون انقلابًا. وفي آخر لحظة قبل التحرّك العسكري جاءهم تبليغ يقول: أوقفوا كل شيء.
الحكيم: هذا الأمر حدث إبان الوحدة، وربما في سنة 1958.

سائدة: في سنة 1958 وقعت ثورة تموز في العراق، وذهب الدكتور رفعت عودة إلى العراق.
شريف: في تلك الفترة كانت ثورة الجزائر متصاعدة. ويقول هاني الهندي (أبو محمود) إنه جرى نقاش في إرسال متطوّعين من الحركة إلى الجزائر، ومن بين الأشخاص المرشّحين كان وديع حدّاد وأحمد الطوالبة. وجرى تنافس على من يذهب. وفي النهاية حُسم الموضوع من خلال اتصالكم بعبد الحميد المهري، الذي كان مندوبَ جبهة التحرير الجزائرية في دمشق، الذي قال لكم: لا نريد المتطوّعين في الجزائر، بل نريدهم في تونس؛ في الجزائر نحن مستعدّون، أما في تونس فلا.

الحكيم: هنا أعتمد على معلومات أبو محمود. أنا أتذكّر اهتمامنا بالثورة الجزائرية وقيامنا بنشاطات جماهيرية لمصلحتها، وصلاتنا مع كل من يمثل ثورة الجزائر في الخارج، وتحديدًا عبد الحميد المهري في دمشق. وما دام أبو محمود ذكر هذه المعلومات فهي صحيحة بالتأكيد.

نايف حواتمة
                                                                                نايف حواتمة

شريف: هل بدأت العلاقة مع مصر في ذلك الوقت، أي في فترة وجودكم في الأردن؟
الحكيم: لا. لم تبدأ العلاقة مع عبد الناصر آنذاك. علاقتنا بدأت مع عبد الحميد السرّاج في دمشق. العلاقة مع عبد الناصر بدأت بعد الانفصال في سنة 1961. نحن لم تبدأ صلتنا بعبد الناصر حركةَ قوميين عرب إلا بعد الانفصال.

شريف: هل نظّمتم قبل عام 1957، أي قبل الوحدة مع سورية، دورات عسكرية؟
الحكيم: لا أذكر، لكن أتذكّر أن عبد الحميد السرّاج فتح الباب لكل مَن يساعد العمل العنفي ضدّ النظام الأردني بعد انقلاب إبريل/ نيسان 1957. أما بعد قيام الوحدة فقد رُتِّبت الدورات العسكرية بشكل منتظم. وأعتقد أن أول دورة عسكرية قادها وديع حدّاد في سنة 1958، ثم تتالت الدورات في القاهرة(11).

شريف: في عام 1958 كان وديع لا يزال في السجن.
الحكيم: ربما خرج في عام 1959، أول ما خرج جاء إلى سورية، وانتقل مركز الحركة كله إلى سورية.

شريف: هل كان لوديع علاقة بقضية نادية السلطي وستيفو ستيفان والتفجيرات؟
الحكيم: لا، وديع كان في السجن في أثناء قضية نادية وستيفو.

تنظيمنا كان قائمًا على أساس مركزي وعلى قاعدة: "نفّذ ثم ناقش". المناقشة مطلوبة، ولكن بعد التنفيذ

شريف: في أثناء وجود وديع في سجن الجفر، هل كنتم على اتصال به؟ هل كانت الرسائل تأتي منه أو تُرسل إليه؟
الحكيم: لا، لا، إلا الأخبار العامة.

شريف: محاولة هروب وديع من السجن، هل كنتم على اطلاع عليها مسبقًا؟
الحكيم: اطلعت عليها لاحقًا. كثيرون من الوطنيين تعرفوا إلى وديع في السجن وأُعجبوا به.

سائدة: مثل أبو جبار.
شريف: كان معه صبحي غوشة وأبو علي مصطفى وأبو جبار وجعفر الشامي والدكتور عبد الرحيم بدر وهو من الشيوعيين. صبحي غوشة وأبو علي مصطفى قدّما صورةً جيّدةً جدًا ووافية عن فترة اعتقال وديع حدّاد. ثم غادر وديع مباشرةً من السجن في الأردن إلى لبنان فورًا.

الحكيم: جاء إلى سورية أولاً، ثم ذهب إلى لبنان.

شريف: ذهب إلى لبنان ولم تكن لديه هُويَّة؟
الحكيم: آنذاك لعبت والدته دورًا في تسهيل عملية انتقاله إلى بيروت.

شريف: جاءت إلى الأردن؟
الحكيم: أعتقد أنها جاءت إلى الأردن، وتابعت الموضوع.

سائدة: تقول عائلته إنه جاء بالطائرة من عمّان إلى بيروت، ووصل إلى المطار ولم تسمح له السلطات اللبنانية بالدخول لأنه بلا أوراق ثبوتية. واتصلوا بمنير صبّاغ الذي استطاع أن يستحصل له على هُويَّة كي يدخل بها.
الحكيم: توجّه وديع إلى الشام أولاً، وهناك تعرّف إلى سامية حدّاد وتزوّجا.

سائدة: في تلك الفترة كان هو ومصطفى بيضون في الشام.
الحكيم: نعم.

شريف: متى أُفرج عن وديع حدّاد بالضبط؟ لا أحدَ متأكّد متى أُفرج عنه، وكم أمضى في الاعتقال في الأردن؟ هناك من يقول إنه خرج في عام 1961، وهذا ليس منطقيًا.
الحكيم: لا، هو تزوج في إبريل/ نيسان 1961.

سائدة: قد يكون خرج في سنة 1959، لأنه أمضى سنة في الشام قبل أن يتزوّج.
الحكيم: ربما في نهاية 1959 أو في بداية 1960(12).

ودريع حدّاد وزوجته سامية وابنه هاني في جبل لبنان
                                         وديع حدّاد وزوجته سامية وابنه هاني في جبل لبنان

شريف: كان مكتب "الرأي" عند محلة السبع بحرات، هل كان هو نفسه مكتب المركز في تلك الفترة؟
الحكيم: يجوز أنه كان مقرّ المركز. وكان لدينا مكتب سرّي أداوم فيه أنا وهاني والحكم دروزة، بالإضافة إلى مكتب المجلة.

شريف: هل استُقطِب العناصر من الفدائيين الذين كانوا في الجيش السوري في تلك الفترة؟
الحكيم: هذه العملية بدأت في فترة الوحدة، في عامي 1959 و1960، حين أصبح لنا صلة بكتيبة الفدائيين(13). أما إذا كان المقصود هو العمل الفلسطيني المسلّح الذي بدأنا بتأسيس فرع قائم بذاته، لهذه الغاية، فهذا لم يحدث إلا في عام 1962 أو في عام 1963.

شريف: هل ظهر تنظيم الحركة في غزّة في فترة الوحدة أم قبل ذلك؟
الحكيم: ربما قبل الوحدة، لكنه امتدّ وتوسّع في فترة الوحدة. وفي عام 1958 أو في عام 1959 أسّسنا فرع ليبيا، الذي تمكّن من تجنيد قطاع نسائي في ذلك الوقت، وأقام صِلات بكل القوى الوطنية الليبية، وصارت له القدرة على التأثير في الجيش، وتمكّن من تجنيد بعض الضبّاط في الجيش ممّن شارك بعضهم في ثورة الفاتح من سبتمبر/ أيلول 1969.

شريف: ذكر أبو نضال المسلمي أن أبو هاني بعد تأسيس إقليم فلسطين زار قطاع غزة مرّتَين، وكذلك عمر المنتصر.
الحكيم: لا ليس عمر المنتصر، بل محامٍ شاب يدعى نصر الذي كان عضوًا في الحركة، وهو الذي تحدّث عن هذا الأمر.

شريف: قبل أن ندلف إلى مرحلة الستينيات في دمشق، نتذكّر أن المؤتمر الأول للحركة عُقد في عام 1956. قبل هذا التاريخ لم يُعقد أي شيء من هذا القيبل، كونفرانس مثلاً؟
الحكيم: لا أذكر أنه حصلت اجتماعات قيادية موسّعة قبل مؤتمر 1956. وهذه الصورة التنظيمية التي يمكن تقويمها سلبًا، أملتها الظروف من ناحية، ومفاهيمنا في تلك الفترة من ناحية ثانية. الظروف بمعنى أنه لم يكن من السهل عقد مؤتمرات واسعة في أي بلد عربي في ذلك الوقت. ربما كانت سورية مثلًا في فترة الخمسينيات (1955 – 1956) مكانًا ملائمًا، ومع ذلك لم يكن من السهل تجميع عدد كبير من الرفاق القياديين في مكان واحد. والسبب الآخر يتعلّق بمفاهيمنا المركزية في تلك الفترة. كان تنظيم الحركة قائماً على أساس المركزية. صحيح أننا أسميناها المركزية المرنة، لكن الأساس تعيين القيادات على قاعدة الأكفأ. لكن من الذي يختار؟ المرتبة الأعلى هي التي تقرّر. تنظيمنا كان قائمًا على أساس مركزي وعلى قاعدة: "نفّذ ثم ناقش". المناقشة مطلوبة، ولكن بعد التنفيذ. الحركة بُنيت على أُسس مركزية شديدة لكونها تنظيمًا سرّيًا أكثر منه تنظيمًا علنيًا يمارس نشاطًا علنيًا.

هوامش

(1) جاء الجنرال تمبلر رئيس أركان الجيش البريطاني إلى الأردن في كانون الأول/ ديسمبر 1955 لدفع الأردن نحو الانضمام إلى حلف بغداد. وشارك "الشباب القومي العربي" في التظاهرات المعادية لتلك الزيارة، الأمر الذي أرغم هزاع المجالي رئيس الحكومة الأردنية على الاستقالة. أما حلف بغداد فقد ظهر في سنة 1955 للوقوف في وجه التوسع الشيوعي، وكان لنوري السعيد شأن مهم في تأسيس ذلك الحلف الذي جرى توقيع المعاهدة في شأنه بين تركيا والعراق في 24/2/1955، ثم انضمت بريطانيا إلى الحلف في 3/3/1955، ولحقتها باكستان في 1/7/1955، ثم ايران في 11/11/1955. وبعد سقوط النظام الملكي في العراق في 14/7/1958 أعلن العراق انسحابه من الحلف، فنُقل المقر من بغداد إلى أنقرة وصار يُعرف باسم "حلف المعاهدة المركزية" (السنتو). وانحلّ حلف السنتو مع سقوط الشاه محمد رضا بهلوي في إيران في سنة 1979. وقد جرى عزل الجنرال غلوب باشا، القائد البريطاني للجيش الأردني في 1/3/1956 حين أصدر الملك حسين مرسومًا بإحالته على التقاعد فورًا. وفي ما بعد جرى الانقلاب على حكومة سليمان النابلسي في 10/4/1957 في ما سُمّي "نيسان الأسود". 
(2) تحفة هو اسم والدة جورج حبش.
(3) اعتقل وديع حداد في الأردن في يونيو/ حزيران 1957.
(4) صدرت صحيفة  "الرأي" في عمان في 1 /1/ 1954. 
(5) صدر العدد الأول منها في دمشق في 11 /1/ 1955.
(6) قبل تأسيس الشباب القومي العربي، كانت في الأردن مجموعتان تنتميان إلى الخط القومي العربي": مجموعة علي منكو ونزار جردانة ومجموعة حمد الفرحان ومحمد الرشدان ومحمد طوقان وأحمد الطوالبة. وكان ثمة مجموعة ثالثة في الضفة الغربية مؤلفة من صلاح عنبتاوي ومحمد العمد وممدوح السخن وصبحي غوشة وحاتم علوش ومالك المصري. وكان جورج حبش يعرف علي منكو من ندوة قسطنطين زريق الفكرية في بيروت. وقد انضمت هذه المجموعات إلى بعضها لتأليف فرع الشباب القومي العربي في الأردن. واعتقد أعضاء الشباب القومي العربي في الأردن أنهم هم المؤسّسون الفعليون لحركة القوميين العرب، فيما كان أعضاء مجموعة بيروت يؤكّدون أنهم هم المؤسّسون الفعليون.
(7) عُقد هذا الاجتماع الموسع في أوائل سنة 1957 على شاطئ البحر الميت وليس في أريحا. وكان صاحب الاقتراح هو وديع حدّاد. وجاء ذلك الاجتماع بعد إلغاء لالمعاهدة الأردنية – البريطانية، ورحيل القوات البريطانية عن قواعدها الثلاث في العقبة وماركا والمفرق.
(8) أسّس "المنتدى العربي" في البداية رجل الأعمال حمد الفرحان، الذي تخرّج في الجامعة الأميركية في بيروت في سنة 1941، ونزار جردانة (صيدلي) بالتعاون مع أمين شقير ومنيف الرزاز (بعثيان). ثم أصبح هذا المنتدى الواجهة العلنية للشباب القومي العربي.
(9) في عام 1958 كان نايف حواتمة وإبراهيم الراهب (ابن شقيقة جورج حبش) مرتبطَين مباشرة بالدكتور جورج حبش المتخفّي في عمان. وجرّاء اعتقال مجموعة من الطلاب التي لها صلة بنايف حواتمة وإبراهيم الراهب تسلّل الاثنان إلى دمشق. وفي أوائل يونيو/ حزيران 1958 أرسلت قيادة التنظيم في دمشق نايف حواتمة إلى طرابلس لإعادة ترتيب الوضع التنظيمي في شمال لبنان إبان ثورة 1958. وفي أواخر ديسمبر/ كانون الأول 1958 وصل نايف حواتمة إلى بغداد بتكليف من قيادة حركة القوميين العرب لتولّي قيادة العمل في العراق، وكان اسمه "صبري".
(10) اعتُقل ستيفو استيفان وخطيبته نادية السلطي في 2/ 8 /1958، ومعهما أحمد محمود إبراهيم (أبو عيسى) بتهمة تفجير عبوات ناسفة في بعض المصالح الأميركية. واعتقل معهم أيضًا حامد سمور وباسيلا حاماتي. وكانت نادية السلطي عضوًا في حركة القوميين العرب منذ دراستها في الجامعة الأميركية. وشملت الاعتقالات الشريف عبد الحميد شرف وأخاه فواز شرف المقربين من حركة القوميين العرب. وتبين أن واضع مخطّط التفجيرات هو أحمد محمود عيسى. وقد أُفرج عن نادية السلطي في 30/ 6/ 1959، فغادرت إلى لبنان.
(11) أول دورة عسكرية لحركة القوميين العرب عُقدت في معسكر أنشاص في مصر في سنة 1958، وكان من بين المتدرّبين صلاح صلاح وعبد الكريم حمد وباسيلا حاماتي ونبيل فارس وستيفو استيفان. وقد خضع جورج حبش لدورة عسكرية في الكتيبة 68 في سورية، وكان الضابط المسؤول عن الدورة مناف الهندي. ونتيجة التدريب على تفجير الديناميت تطايرت بعض الحجارة، وأصاب أحدها يد جورج حبش، وسبّب له رضّة فيها (راجع: جورج حبش، صفحات من مسيرتي النضالية، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ص 106).
(12) يقول حمدي مطر ان الدكتور وديع حدّاد أُبعد بالطائرة إلى لبنان في بداية سنة 1960 بعدما سُحب منه جواز سفره الأردني (راجع: حمدي مطر: مذكرات حمدي مطر، عمان: د.ن.، 2015، ص 215).
(13) المقصود بـِ  "الفدائيين" هنا هو "الكتيبة 68 استطلاع" التابعة للجيش السوري. وقد أُسست هذه الكتيبة بأوامر من عبد الحميد السرّاج في سنة 1955 بعد الهجمات الاسرائيلية على المواقع السورية عند بحيرة طبرية. وتولّى قيادتها الرائد أكرم الصفدي (أبو بشّار) يعاونه الرائد الهيثم الأيوبي (أبو همام). واتخذت هذه الكتيبة مقرًا لها في بلدة حرستا، وضمّت أشخاصًا يمكنهم التسلل إلى إسرائيل وجمع المعلومات ورسم الخرائط والعودة بها. وهؤلاء كان معظمهم من عشيرتي الهيب والتلاوية اللتين يتوزع أفرادهما على جانبي الحدود السورية الفلسطينية، خصوصًا في قرى البطيحة والتوافيق وكفر حارب والنقيب. وقد وصل عديد الكتيبة إلى نحو 600 فلسطيني. وكان أول شهيدين للكتيبة محمود عزيمة وسبع السباعي (من ترشيحا) في سنة 1961، استُشهد علي الخربوش ومفلح السالم في عام 1964. والأخيران دُفنا في اليرموك، فكانا أول من افتتح مقبرة الشهداء في اليرموك. ومن أبرز شهداء هذه الكتيبة جلال كعوش الذي نفّذ مع علي الخربوش عملية نسف باص إسرائيلي على طريق صفد – عكا في سنة 1955، وتوفّي تحت التعذيب لدى المخابرات العسكرية اللبنانية في اليرزة في 9/ 1/ 1966 بعد اعتقاله في جنوب لبنان في 23 /12/ 1965 حين كان عائدًا من دورية استطلاع في الجليل.