حريق التوفيقية: استكمال لمخطط إخلاء وسط القاهرة؟

30 يناير 2021
نشبت حرائق عدة في الأسواق في السنوات الأخيرة (Getty)
+ الخط -

شكّك تجار سوق التوفيقية لقطع غيار السيارات في وسط القاهرة، وعدد كبير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، في ظروف وملابسات الحريق الهائل الذي التهم أكثر من 22 محلاً تجارياً، أمس الجمعة. وعللوا ذلك بأن الحريق نشب انطلاقاً من عقار خال من السكان والورش والمخازن، في الشارع القريب من شارع رمسيس بحي الأزبكية. وسبق أن شهدت منطقة وسط القاهرة، منذ مطلع عام 2016، عدداً من الحرائق، آخرها العام الماضي في ممر يصل شارعي التوفيقية برمسيس بالقرب من دار القضاء العالي. غير أن أضخم تلك الحرائق اندلع في مايو/أيار 2016 ويوليو/تموز 2018 في منطقتي الرويعي بالعتبة وحارة اليهود بالموسكي على الترتيب، كما اندلعت حرائق أخرى في مناطق باب الشعرية والعتبة.


نجحت الحكومة في نقل نحو 30% من الورش من وسط القاهرة

وكانت تلك الحرائق مقدمة لقرارات حكومية عديدة قادها رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، بهدف انتزاع العقارات وتسليمها لوزارة الأوقاف باعتبارها من أملاكها الخاصة، على الرغم من وجود عقود انتفاع لأصحابها. في المقابل، يتمّ توجيه المئات من أصحاب الحِرَف إلى المناطق الصناعية الجديدة التي أنشأتها الحكومة، وعلى رأسها مجمع الروبيكي لصناعات الجلود.

ورغم تعثر جهود الحكومة لنقل الصنّاع والتجار من وسط القاهرة، إلا أنها نجحت في نقل نسبة لا تقل عن 30 في المائة من ورش المصنوعات الجلدية والخردوات والملابس. كما أخلت الحكومة عشرات العقارات وسلّمتها للأوقاف أو نفّذت أحكام الإزالة بشأنها، تمهيداً لإعادة صياغة وسط القاهرة ككل، والذي يعتبر وفق خطة السيسي، محوراً للاستثمار السياحي والعقاري.

وذكرت مصادر حكومية مطلعة لـ"العربي الجديد" أن الاهتمام الرسمي القائم حالياً بمنطقة ميدان التحرير وقصر النيل والزمالك والقاهرة الخديوية، سيتوجه في مرحلة لاحقة إلى المنطقة الواصلة بين شارع رمسيس وميدان العتبة، وصولاً إلى قلب القاهرة الإسلامية في شارع المعز لدين الله الفاطمي. وهو ما سيجعل المدينة ملائمة أكثر للأغراض السياحية وحدها، مع نقل معظم الأنشطة التجارية والصناعية، تحديداً الأهلية غير المنتظمة، إلى أماكن أخرى.

وكشفت المصادر أن سوق التوفيقية لقطع غيار السيارات، وكذلك سوق التوفيقية التاريخي للخضروات، من المناطق المستهدفة بالنقل إلى أماكن أخرى. غير أن الأمر لا يتعلق بعملية التطوير المستهدفة وتغيير معالم المنطقة الأهلية، من أجل أن تحافظ الدولة في الأساس على المعالم الإنشائية والمباني. فقد عزت المصادر ذلك إلى رغبة وزارة الأوقاف وعدد من شركات التأمين الكبرى والمصارف المالكة للعقارات، في المنطقة الفاصلة بين شارعي رمسيس وأحمد عرابي، الذي يتقاطع مع شارع 26 يوليو (الحد الشمالي للقاهرة الخديوية)، في إخلاء تلك العقارات وإعادة استغلالها في أغراض أخرى. ويعود السبب إلى عزوف الشركات الكبرى والمصارف والفنادق عن الاستثمار في تلك المنطقة، بسبب الطابع التجاري والشعبي الذي تحولت إليه منذ تسعينيات القرن الماضي، الذي صعًب الحركة منها وإليها.

وذكرت المصادر أن رؤية "تحديث القاهرة 2030" التي وضعتها "الهيئة العامة للتخطيط العمراني" في نهاية عهد الرئيس المخلوع الراحل حسني مبارك، بقيادة رئيس الوزراء الحالي مصطفى مدبولي، كانت تتضمن نقل سوق التوفيقية لقطع غيار السيارات على مراحل إلى منطقة الحرفيين بمدينة السلام شرقي القاهرة، وإخلاء الموقع الحالي لها تماماً. لكن بسبب صعوبة الإخلاء وتمسّك التجار بأماكنهم، حافظ السوق على موقعه وحيويته رغم تنامي منطقة الحرفيين.

وبعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 بفترة قصيرة، حاولت محافظة القاهرة المضي قدماً في خطة إخلاء المنطقة وتحديدها فقط في شارع واحد، لكنها فشلت. وبعد وصول السيسي للحكم، انتهجت المحافظة سبلاً مختلفة لإجبار التجار على الرحيل من دون طائل، بدأت بإغلاق بعض الشوارع ومنع السيارات من دخولها، وبوضع شروط أمنية كثيرة لعرض البضائع في الشوارع، وتغيير شروط البناء والحماية المدنية. وفي عام 2018 أُقرّت شروطاً جديدة لفتح وإغلاق المحال، رغم شكاوى التجار.

وحول حريق أمس، أشار أحد التجار ممن يملكون محلين في المنطقة، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إلى أن المحافظة لا تتعامل مع شاغلي السوق عبر وسائل الإعلام ولا تعلن عن مخططاتها. لكن عدداً من المسؤولين المدنيين والأمنيين أكدوا للتجار مرات عدة بين عامي 2018 و2020، وجود خطة لإخلاء المنطقة ونقل جميع المحال إلى سوق جديدة مجمعة، ستُنشأ في منطقة وابور الثلج، خلف مثلث ماسبيرو في بولاق أبو العلا. وهي منطقة مملوكة لقطاع الأعمال العام، مما يعني إلزام التجار بدفع تكاليف إضافية للإيجار والتشغيل، مع صعوبة تصورهم لنقل النشاط إلى تلك المنطقة التي يصعب فيها انتظار السيارات، إذا ما قورنت بسوق التوفيقية.

وأضاف التاجر أن فكرة السوق المجمعة ببولاق أبو العلا لن تكون عملية بسبب تفاوت مساحات المحال وحجم البضائع المراد عرضها، بالإضافة إلى صعوبة التخزين في مبنى أشبه بـ"المول التجاري" إذا ما قورنت تلك المعايير بالوضع الحالي في السوق. ولفت إلى أن معظم التجار يمتلكون مخازن قريبة من محالهم، بالإضافة إلى غرف تُستغل لإقامة العاملين المغتربين والحرفيين، كما أن ضخامة أعداد المحال في المنطقة، لا يمكن أن تسمح لأي مبنى تجاري باستيعابها.

وذكر التاجر أن الخيار الذي لوّحت به المحافظة أخيراً هو بديل لآخر رفضه التجار منذ خمس سنوات تقريباً، ويقضي بالانتقال الكامل إلى مدينة 15 مايو القريبة من حلوان، والبعيدة تماماً عن وسط القاهرة. وكان المسؤولون آنذاك يفكرون في أن تكون السوق الجديدة بتلك المدينة متكافئة مع منطقة الحرفيين على الطرف المقابل من العاصمة.


رؤية "تحديث القاهرة 2030" تتضمن نقل سوق التوفيقية

وفي إحدى الحالات السابقة، أعلنت الحكومة في يوليو/تموز 2019 أن السيسي وجّه بسرعة إخلاء سوق العتبة التجاري من أصحاب المحال، بدعوى تطوير المنطقة التي تضم أكثر من 450 محلاً تجارياً مؤجراً من هيئة الأوقاف المصرية لأصحاب الأنشطة التجارية المختلفة. وذكرت الحكومة آنذاك أنها تبحث آليات تطوير سوق خضار العتبة بحي الموسكي، والتعامل مع شاغليه بوصف وزارة الأوقاف هي الجهة المالكة، وذلك بحجة خطورة الوضع الحالي للسوق. الأمر الذي يستلزم ضرورة البدء في عملية تطويره، والعمل على إعادة وجه المنطقة الحضاري.

وأشار مدبولي إلى أن السيسي وجّه بالحفاظ على البوابات التراثية الموجودة في المنطقة، وتزويدها بالاحتياطات اللازمة لعدم تكرار مثل هذه الحوادث. وطالب بضرورة العمل على عودة الشكل الخارجي التاريخي للسوق، في ضوء قيمته التاريخية، وطرازه المعماري الفريد الذي يعود إلى عام 1892، كأول سوق حضاري في منطقة القاهرة الخديوية.

وشُكلت لجنة آنذاك من محافظة القاهرة وهيئة الأوقاف، المالكة للسوق والمسؤولة عن إدارته، لتفقد ومعاينة الموقع، وحصرها نحو 460 محلاً تجارياً قائماً، تأثر منها قرابة 180 محلاً جراء حريق وقع في يونيو/حزيران 2019. وادّعت الحكومة أن الخسائر المترتبة على الحريق كانت نتيجة تزايد المحال العشوائية وغير القانونية، ما أدى إلى ضيق المداخل والمخارج، والتأثير على خطة الحماية المدنية بالسوق.

ويبدو تكرار هذا السيناريو في سوق التوفيقية أقرب من أي وقت مضى، خصوصاً مع بروز مسار رسمي للتأكيد على عدم سلامة المنطقة. وفي السياق، أعلن محافظ القاهرة اللواء خالد عبد العال، أمس، تشكيل لجنة هندسية للوقوف على حالة العقارات التي طاولها الحريق تحسباً لتضررها، موضحاً في بيانه أن الحريق لم يوقع إصابات في الأرواح. ومن المقرر أن تعلن المحافظة نتائج عمل اللجنة خلال أيام قليلة.