رغم إقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 181 (نوفمبر/ تشرين الثاني 1947)، القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية، بقي الاعتراف الأممي بدولة إسرائيل، بموجب القرار273 (11 مايو/ أيار 1949)، مشروطاً باعتراف الأخيرة بقرار الجمعية العامة رقم 194 (11 ديسمبر/ كانون الأول 1948)، المتعلق بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم، والتعويض على من لا يرغب في العودة.
تحت ضغط الرئيس الأميركي هاري ترومان، الذي كان أول من اعترف بحكومة إسرائيل المؤقتة في عام 1948، أعلنت إسرائيل موافقتها على عودة 100 ألف لاجئ، مقابل قبول عضويتها في الأمم المتحدة. فعلياً، جُمعَ شمل حوالى 1965 لاجئاً من نساء وأطفال، تواجد ذووهم في الأراضي المحتلة.
إعادة التشديد على قضية اللجوء الفلسطيني بوصفها قضية شعب يريد تقرير مصيره، وحلّها يكون في إطار استعادة الشعب الفلسطيني لحقوقه الإنسانية والسياسية، غير القابلة للتصرف والتفاوض
مَثّلَ القرار الأممي ركيزة أساسية استندت إليه قضية فلسطين، وحق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم، في مواجهة عمليات التهجير الممنهجة التي مارستها حكومات الاحتلال المتعاقبة، بغرض تحويل الفلسطينيين إلى لاجئين محرومين حقوقهم السياسية، وتنكرها للقرار 194، واستمرارها في مشروعها الإحلالي الاستيطاني، لا بالحروب فقط، بل أيضاً بوسائل بيروقراطية وقانونية، من منصب "الوصيّ على الممتلكات المهجورة"، مروراً بقوانين: "أملاك الغائبين" و"العودة اليهودي"، وغيرها، التي مكنت ثلث المهاجرين اليهود على الأقل من الاستحواذ على أملاك السكان الأصليين ومنازلهم، لا تزال تلك القوانين فاعلة في تنفيذ خطط تهجير فلسطينيي القدس وما حولها، وغيرها من أراضٍ فلسطينية محتلة.
مثلت سوسيولوجيا اللجوء الأساس المادي لانطلاقة الحركة الوطنية الفلسطينية، واحتلّ حق العودة مركز ثقل المشروع الوطني الفلسطيني، قبل أن يتراجع دور هؤلاء اللاجئين في الحركة الوطنية الفلسطينية، ولا سيما بعد أن فرضت موازين القوى الإقليمية والدولية تراجع فرص تحقيق العودة بالتحرير، بعد إغلاق الحدود وتأمينها عقب معاهدات وقف إطلاق النار التي تلت حرب عام 1973، وتصفية الوجود الفلسطيني المسلح في الأردن ولبنان.
كرّست منظمة التحرير الفلسطينية جهودها السياسية من أجل تثبيت حل سياسي للقضية الفلسطينية، قائم على رؤية حل الدولتين، الذي حظي بإجماع دولي. تنصلت إسرائيل من الاستحقاقات السياسية المترتبة عن اتفاقيات السلام الموقعة مع الفلسطينيين، بل رسخت احتلالها بفرض المزيد من الوقائع على الأرض، بما في ذلك تكثيف عملياتها العسكرية والأمنية، والتطهير العرقي والاستيطان، وهدم البيوت والتهجير القسري، والتجويع والحصار، وسياسة العقاب الجماعي.
أدرج "أوسلو" حق العودة ضمن قضايا الوضع النهائي، وبدت "الدولة" تتعارض مع "العودة"، أصغى المفاوض الفلسطيني إلى "صوت المنطق"، بحسب تعبير سري نسيبة ("هآرتس": 24 سبتمبر/ أيلول 2004)، وسعى لمقايضة الأخير لصالح الأول.
منذ وثيقة "بيلين ــ عباس" (أكتوبر/ تشرين الاول 1995)، مروراً بوثيقة جنيف ("بيلين ــ عبد ربه" في ديسمبر/ كانون الأول 2003)، ووثيقة "أيالون ــ نسيبة" (وُقِّعَت في 27 يوليو/ تموز2002)، وغيرها، تراجع حق العودة إلى مفهوم جمع الشمل، اخترقت طاولة المفاوضات وتفاهماتها مشاريع الدمج والتأهيل على حساب حق العودة، ومشاريع تصفية واستبدال وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، التي تمهد لتنصل دولي من قضية اللاجئين. عنى ذلك، بداية قبول الفلسطينيين رسمياً بمركبات الرؤيا الإسرائيلية حول مستقبل اللاجئين، لكن ذلك اصطدم، لا يزال، بإصرار اللاجئين على حقهم في العودة، غير القابل للتصرف، لم يكن بإمكان المفاوض الفلسطيني تحت أي ضغوط تجاهل ذلك.
استقر الموقف الأميركي تجاه اللاجئين بعد رسالة "بوش ــ شارون"، في 14 إبريل/ نيسان 2004، التي أقرّها الكونغرس الأميركي، في 24 يونيو/ حزيران 2005، عند رفض أي عودة للاجئين إلى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة (تعهدت واشنطن، بموجب الرسالة أيضاً، بعدم إجبار إسرائيل على الانسحاب إلى حدود يونيو عام 1967). في 28 يناير/ كانون الثاني من عام 2020، كشف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، عن تفاصيل خطته للسلام في الشرق الأوسط، التي روجت إعلامياً بوصفها "صفقة القرن"، في لحظة بدت لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو "تاريخية"، اعترفت فيها الولايات المتحدة للمرة الأولى بمناطق (مستوطنات) الضفة الغربية على أنها، وفق تعبيره، ضرورية "لأمتنا وأساسية لتراثنا"، وذكّرته بيوم 14 مايو/ أيار 1948، يوم كان الرئيس هاري ترومان أول من اعترف بدولة "إسرائيل"، مؤكداً أن صفقة القرن تتضمن حلاً لمشكلة اللاجئين خارج حدود تلك الدولة، في مسار رآه نتنياهو "واقعياً لاتفاق قابل للتطبيق"، يعالج جذور الصراع، ويلزم الفلسطينيين بالاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، ويحل "عقدة السلام المستعصي" بسبب أن الخطط السابقة لم تحسم "المصالح الأمنية لإسرائيل والتطلعات الوطنية للفلسطينيين"، ووصفت "قلب أرضنا، التي صلى فيها أبناؤنا وحكم فيها ملوكنا بمناطق محتلة غير قانونية"، فيما تعترف "صفقة القرن" بأن بإمكان إسرائيل الحصول على منطقة يمكنها من خلالها الدفاع عن نفسها بنفسها، لوقتٍ طويلٍ جداً، ما يعني حدوداً دائمةً لدولة إسرائيل معترفاً بها.
مَثّلَ القرار الأممي ركيزة أساسية استندت إليه قضية فلسطين، وحق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم
لم تكن "صفقة القرن" سوى صيغة أميركية لمشروع نتنياهو السياسي، وأيديولوجيا حزبه، "الليكود، التي تنطلق من فكرة "إسرائيل الكبرى"، وترفض الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وتجمع بين التوجه القومي والليبرالي، ساعية لفرض السيادة الإسرائيلية على كامل الضفة الغربية وقطاع غزة، مع منح الفلسطينيين في تلك المناطق حقوقاً مدنيةً وسياسيةً فرديةً، تحت السيادة الإسرائيلية، في إطار "الدولة اليهودية".
عاد نتنياهو وحزبه هذه المرة إلى السلطة، بعد انتخابات 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، متحالفاً، أيديولوجياً وسياسياً، مع أحزاب "الصهيونية الدينية" برئاسة بتسلئيل سموتريتش، و"عظمة يهودية" برئاسة إيتمار بن غفير.
تعتمد الأيديولوجيا الصهيونية الدينية، أو ما أصبح يعرف بـ"اليمين الجديد"، على "التوراة"، أساساً يمنح اليهود "الحق" في إقامة وطن قومي في فلسطين، يعدّ تيار الصهيونية الدينية امتداداً لمنظمتين يهوديتين متطرفتين، هما "كاخ" (أعلنتها إسرائيل حركة إرهابية عام 1994 عقب مجزرة الخليل، وصدر أمر باعتقال إداري بحق 5 من قادتها)، و"غوش إيمونيم" (منظمة استيطانية تتمسك بـ"يهودية الدولة" وتدعو لاستيطان بلا قيود في كل أرجاء إسرائيل"، وتدعو إلى طرد العرب من فلسطين بالقوة).
بعد تلك الانتخابات، أصبحت الصهيونية الدينية، ثالث أكبر مجموعة في الكنيست، وثاني أكبر مجموعة في ائتلاف نتنياهو، وأصبح متطرفون أمثال، إيتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش، ضمن التيار السياسي الرئيسي في دولة الاحتلال، الأمر الذي قد يحقق إلى حد كبير مساعي الصهيونية الدينية في السيطرة على مؤسسات الحكم والحيّز العام في إسرائيل، خصوصاً بعد تقلص الفارق الأيديولوجي في السنوات الأخيرة بين الليكود والصهيونية الدينية، بإقصاء النخب الليكودية القديمة التي حملت توجهات قومية ليبرالية، بعد سلسلة من الانتخابات، لصالح نخب جديدة حافظت على فكرة "إسرائيل الكبرى"، لكنها تماهت فكرياً وأيديولوجياً مع الصهيونية الدينية في توجهاتها المناهضة لأي حقوق مدنية وسياسية فردية للفلسطينيين، حتى لو كانت تحت السيادة الإسرائيلية.
بعد أن حافظ نتنياهو لسنوات عديدة على مسافة من اليمين المتطرف؛ خاصةً مع بن غفير وحزبه، طور علاقته مع هذا اليمين منذ انتخابات 2019، وطَبعَ هذه العلاقة داخل دائرته الانتخابية. التحالف بين النخب الليكودية الجديدة والصهيونية الدينية سيعني إعادة هيكلة المجتمع الإسرائيلي وفق وصفة بمركبات صهيونية وقومية ودينية، تطغى معها "يهودية الدولة" على طابعها الديمقراطي. توّجت مساعي تحالف الصهيونية الدينية مع الليكود في عام 2018 بقانون الدولة القومية، وتتوّج اليوم بتقويض المحكمة العليا، والالتفاف على قراراتها، والحد من صلاحيات السلطة القضائية، مقابل تعزيز مكانة وصلاحيات السلطتين التنفيذية والتشريعية.
قد تحتاج الحكومة الحالية للصمود سنواتٍ طويلة قبل أن تستطيع تغيير الهياكل العنصرية والتمييزية القائمة ضد الفلسطينيين، الذين يرزحون منذ عقود تحت ممارسات قمعية واستعمارية وعنصرية في جوهرها، سعت دولة الاحتلال من خلالها لتحقيق تجانسها الديمغرافي، عبر طردهم من الجغرافيا والتاريخ معاً، بمسارٍ منهجيٍّ لم تتخلّ عنه حكومات الاحتلال، سواء كانت محسوبة على يسار أو يمين أو وسط، لكن جديد هذه الحكومة يتمثل باستخدام الهياكل القائمة لتفاقم السياسات العنصرية الممارسة ضد الفلسطينيين وتسرّع من وتيرتها.
لم تكن "صفقة القرن" سوى صيغة أميركية لمشروع نتنياهو السياسي، وأيديولوجيا حزبه، "الليكود، التي تنطلق من فكرة "إسرائيل الكبرى"
تبدو معركة اليوم أكثر شمولاً وكثافةً، إذ تتكشف بوضوح حقيقة المشروع الصهيوني الإحلالي الاستعماري الاستيطاني في فلسطين، مشروع استئصالي تقوده أيديولوجيا عنصرية قومية دينية، وأساطير التفوق العرقي، وهو ما أكدته نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة.
المشروع الذي جدد جوهره، قبل ذلك بأشهر قليلة، في بازل في أثناء انعقاد المؤتمر الصهيوني (أغسطس/ آب 2022) الذي أحيا الذكرى الـ125 للمؤتمر الصهيوني الأول، وأكد قيامة "إسرائيل الجديدة" من خلال بثّ الروح في الحركة الصهيونية، وتعزيز "إسرائيل اليهودية" قوة عالمية تمثل كل "الشتات اليهودي"، بوصفه مخزوناً استراتيجياً لمشروعها الاستيطاني، لتكون قادرة على التأثير في النظام العالمي، ما يعني في نهاية المطاف أن أي "سلام" منشود يتمثل بإسرائيل "دولة يهودية" خالصة خالية من العرب، في إصرار متواصل على إنكار "النكبة" الفلسطينية، وتكثيف حضور "النصر الإلهي"، الذي تحقق بخلاص الشعب اليهودي، ما يعزز الخطاب العام الإسرائيلي تجاه "النكبة"، القائم على إنكار وقوعها والمسؤولية عنها والنظر إليها بدعةً لنزع الشرعية عن دولة الاحتلال، وتأكيد ذلك الخطاب، موقفاً رسمياً إسرائيلياً؛ داخلياً وإقليمياً وعالمياً، لا يبدي استعداداً للتوصل إلى تسوية مع ذاكرة النكبة الفلسطينية، لا بل يرفض تأريخها.
صعود اليمين الإسرائيلي الجديد، بالتزامن مع تجديد المشروع الصهيوني، يجعلنا أمام مرحلة جديدة في نضال الفلسطينيين، والمؤمنين بقضيتهم، في مواجهة مشروع استيطاني عنصري، يكرّس نفسه ديمغرافياً، ويتمدد عالمياً؛ سياسياً وأيديولوجياً. الطبيعة العالمية للمواجهة مع المشروع الاستيطاني الصهيوني، بقيادة مستوطنين متطرفين سيئي الصيت إقليمياً ودولياً، تمنحنا، نحن الفلسطينيين، فرصةً لقلب السحر على الساحر، باستعادة البعد العالمي لنضال الشعب الفلسطيني في سبيل حقوقه المشروعة، وعلى رأسها حق العودة، وخوض المعركة على أرضية إحياء "النكبة" في الوعي العام الدولي، بوصفها حدثاً مركباً، لا يتخلص في كونه حادثاً ماضياً، بل جزءاً مركزياً من الصراع مع المشروع الصهيوني الإحلالي الاستيطاني، نتيجة استمرار مشكلة اللاجئين من جهة، وتواصل ممارسات الاحتلال العنصرية تجاه الشعب الفلسطيني، من جهة أخرى. هنا، ينبغي إعادة التشديد على قضية اللجوء الفلسطيني بوصفها قضية شعب يريد تقرير مصيره، وحلّها يكون في إطار استعادة الشعب الفلسطيني لحقوقه الإنسانية والسياسية، غير القابلة للتصرف والتفاوض، وليس عبر حلول تقنية تصدرها دوائر السياسة والأروقة الدبلوماسية.