وجدت "قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، التي يمثل الأكراد عمودها الفقري، نفسها مجدداً أمام خيارات صعبة، في ظل تصاعد التهديدات التركية بشن عملية عسكرية ثالثة ضد هذه القوات في منطقة غربي نهر الفرات، حيث تل رفعت في ريف حلب الشمالي، أو منبج في شمال شرق حلب.
وربما يذهب الجيش التركي إلى أبعد من ذلك، بتقديم هدف مدينة عين العرب (كوباني) شرق الفرات عن الهدفين السابقين، أو التوغل أكثر في ريف الرقة الشمالي، خصوصاً باتجاه بلدة عين عيسى الاستراتيجية، كونها تقع في منتصف طريق "أم 4" القادم من حلب باتجاه أقصى الشمال الشرقي من سورية. ودُفعت "قسد" إلى هذه المواجهة مع الجانب التركي نتيجة قيام ما يُسمّى بـ"قوات تحرير عفرين"، المرتبطة بالنظام، باستهداف القوات التركية في ريف حلب الشمالي أكثر من مرة، خلال أكتوبر/تشرين الأول الحالي، ما أدى إلى مقتل وإصابة جنود أتراك.
قد تتضح الصورة أكثر بعد قمة أردوغان وبايدن في غلاسكو
وعلى الرغم من نفي "قسد" أي مسؤولية لها عن هذه الهجمات، إلا أن الجانب التركي يرى أن المناطق التي تسيطر عليها "قوات سورية الديمقراطية" في ريف حلب الشمالي، وأبرزها مدينة تل رفعت (50 كيلومتراً شمال حلب)، تمثل منطلقاً للهجمات، التي تصل في كثير من الأحيان إلى مناطق سكنية في منطقة عفرين وتقتل مدنيين.
ومن الواضح أن "قسد" أمام خيارات "أحلاها مر"، مثلما حدث أواخر عام 2019، عندما اضطرت إلى إبرام اتفاق عسكري مع الروس فتح لهم أبواب شرق الفرات، للحيلولة دون توغل الأتراك بعيداً في مناطق نفوذها. ومن المنتظر أن تتضح الصورة أكثر بعد قمة الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والأميركي جو بايدن، على هامش قمة المناخ، المقرر عقدها في مدينة غلاسكو في اسكتلندا، بين 31 أكتوبر الحالي و12 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. وربما تحدد نتائج القمة ملامح التحرك العسكري التركي، وهل سيأخذ بعداً واحداً أم أكثر، بحيث تختلط الأوراق مجدداً في الشمال السوري، وتتبدل قواعد اللعبة والتوازنات الميدانية، في انعكاس مباشر لتوتر العلاقة بين موسكو وأنقرة حيال مجمل الأوضاع على امتداد الشمال السوري.
وقال المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، أمس السبت، إن "دعم التنظيمات الإرهابية يعتبر جريمة. وهذه التنظيمات، وحدات الحماية الكردية وحزب العمال الكردستاني، ضد تركيا ومصالحها، وسيتم الهجوم عليها واستهدافها في حال استهدفت المصالح التركية". وعن موعد العمل العسكري في سورية، أوضح أنه "عندما تحين الشروط تكون العملية العسكرية في أي لحظة، ويتم تجهيز الخطط من قبل الجيش للقيام بما هو مطلوب".
وأشار رياض درار، الرئيس المشترك لـ"مجلس سورية الديمقراطية" (مسد)، وهو الجناح السياسي لـ"قسد"، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن "التصعيد التركي غير مبرر"، مضيفاً "هو محاولة لتغيير الاتفاقات القائمة التي عقدت مع الطرفين الروسي والأميركي حول الشمال الشرقي من سورية". وأعرب درار عن اعتقاده أن أردوغان "يعاني من صراعات داخلية، لذا يريد نقل المعركة إلى خارج حدود تركيا". وقال: هذا الأمر يتطلب منا مخاطبة الجهات المعنية التي توافقنا معها على ضمان الحدود وعدم الاعتداء. وأشار إلى أن أردوغان "لم ينفذ الاتفاقيات التي حصلت في السابق"، مضيفاً: "إذا شُنت الحرب علينا سوف ندافع عن أنفسنا، ونطالب الجميع بالالتزام بالاتفاقيات".
وفي السياق، أكد المتحدث باسم "قوات سورية الديمقراطية" آرام حنا أن هذه القوات ملتزمة "بكل الاتفاقيات المبرمة بخصوص خفض التصعيد ووقف إطلاق النار". ولفت، في حديث مع "العربي الجديد" إلى أن "كل المؤشرات على خطوط التماس تؤكد رغبة الاحتلال (في إشارة إلى تركيا) في التصعيد"، من خلال استمرار الانتهاكات التي تستهدف المدنيين. وأشار إلى أنّ قواته "تعمل على إبلاغ القوات المسلحة الروسية، والتحالف الدولي بتفاصيل الخروقات المرتكبة"، موضحاً أن "الجهود المبذولة في إطار وقف التصعيد لا ترقى للحد الذي توقف فيه الانتهاكات". وأكد حنا أنّ "قسد" التي تتلقى دعماً سياسياً وعسكرياً من التحالف الدولي بقيادة أميركا، "لن تتوانى عن استخدام حقها في الدفاع عن النفس والوطن".
وعلى وقع التهديدات التركية بالتوغل في مناطق شمال سورية للحد من خطر "الوحدات" الكردية، كشف رئيس ما يُسمّى بـ"المبادرة الوطنية للأكراد السوريين" عمر أوسي، وهو من الشخصيات الكردية المرتبطة بالنظام، منذ أيام، عن التوصل إلى "مسودة وثيقة وطنية لحل الخلافات الموجودة بين الأطراف الكردية والحكومة السورية، بهدف التنسيق المشترك لصد أي عدوان تركي". وبين أوسي، وفق ما نقلت عنه صحيفة "الوطن" التابعة للنظام، أن "مسودة الوثيقة تتضمن عدة بنود، حيث تعتبر القضية الكردية قضية وطنية سورية بامتياز، وحلها في دمشق وليس في أي عاصمة أخرى، وهذا الحل الوطني يأتي على أساس الإقرار بالحقوق المشروعة للأكراد السوريين، وبضمانات دستورية في إطار وحدة وسيادة الجغرافية الوطنية السورية". وأشار إلى أنّ الوثيقة "ما زالت مسودة قابلة للتفاوض والتعديل"، معتبراً أنها "تصلح أرضية لبدء حوار جدي عاجل بين الأطراف الكردية، معارضة وموالاة، لوضعها على طاولة الحكومة في دمشق والوصول إلى حلول وسط".
درار: التصعيد التركي محاولة لتغيير الاتفاقيات القائمة
لكن الوقائع والمعطيات السياسية تؤكد اتساع الهوة بين "قسد" و"الإدارة الذاتية" الكردية في شمال شرقي سورية من جهة، وبين النظام السوري من جهة أخرى، إذ رفض الأخير مراراً وتكراراً منح الأكراد السوريين أياً من مطالبهم، ما خلا بعض الحقوق الثقافية، منها تعليم اللغة الكردية وخضوع المناطق الكردية لقانون ما يُسمى بـ"الإدارة المحلية". في المقابل، يطالب الطرف الكردي بالاعتراف بـ"الإدارة الذاتية"، المعمول بها حالياً في مناطق سيطرة "قسد"، بما في ذلك المناطق ذات الغالبية العربية من السكان في محافظتي الرقة ودير الزور، إضافة إلى اعتبار "قوات سورية الديمقراطية" جزءاً من قوات النظام السوري ومن ثم بقاء نفوذها العسكري والأمني في المنطقة. لكن التهديد التركي الوشيك ربما يُجبر الطرف الكردي على الهروب إلى الأمام، من خلال محاولة التوصل إلى حلول وسط مع النظام تحت رعاية روسية، إلا إذا سبقت الأحداث هذا الأمر، حيث من المتوقع أن يبدأ الجيش التركي وفصائل سورية معارضة مرتبطة به عمليات واسعة النطاق في أي وقت.