تفرض معالم الحرب نفسها في مدينة عدن جنوبي اليمن، على الرغم من توقف المعارك، لتكون بمثابة تذكير دائم بما مرّت به العاصمة المؤقتة. فآثار الرصاص والقذائف والغارات تغطي المباني الحكومية والسكنية في مديريات المدينة الرئيسية؛ في الأماكن العامة كما في الأحياء الشعبية. وبينما تغيب إعادة الإعمار حتى اللحظة، لا تزال طرقات العديد من الأحياء الجديدة، لا سيما في أطراف المدينة، ترابية، إذ لم يتم التركيز على تعبيد الطرقات بقدر ما تم التركيز على بناء المعسكرات التي أنشأها "التحالف العربي" و"المجلس الانتقالي الجنوبي"، وقبل ذلك الحكومة الشرعية.
وعلى الرغم من اتفاق "المجلس الانتقالي" والشرعية قبل نحو ثلاثة أشهر ودخولهما في حكومة واحدة، وبدء تطبيق اتفاق الرياض الذي رعته السعودية بين الطرفين، إلا أنّ ذلك لم ينعكس بعد على أوضاع المدينة التي تشهد في الآونة الأخيرة احتجاجات متواصلة وتوترات بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والخدمات، وانهيار العملة الوطنية (الدولار يساوي 250 ريالا يمنيا)، وانعكاس ذلك ارتفاعاً في أسعار المواد الغذائية الأساسية بشكل كبير. ويترافق ذلك مع انقطاع الرواتب، فضلاً عن انعدام مواد الوقود وارتفاع أسعارها، وعدم القدرة على تغطية احتياجات المدينة من الكهرباء. وما عقّد المشاكل بالنسبة لحكومة المناصفة، عدم التزام التحالف بوعود المساعدة التي قطعها لها بمجرد تنفيذ اتفاق الرياض، وسط مخاوف لدى البعض من انهيار الاتفاق.
بدء تطبيق اتفاق الرياض لم ينعكس بعد على أوضاع المدينة
ولا ينشغل أبناء المدينة والمقيمون فيها بوباء كورونا، واتخاذ إجراءات وقائية لمنع انتشار الفيروس، على غرار ما يجري في معظم المدن حول العالم، بقدر ما تشغلهم مسألة التعامل مع مشاكلهم الاقتصادية وغياب الكهرباء. ويقول المواطن العدني، سعيد عمر، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ المدينة "تعاني من مشاكل عدة، وكل ما دمرته الحرب لم يتم إصلاحه، سواء في المباني والطرقات أو غيرها. فكل المشاريع التي يُعلن عنها في عدن؛ إن كان من قبل التحالف أو الحكومة، إما وهمية أو ترقيعية لا تُخرج المدينة من مشاكلها، بل هي مشاريع تستخدم لصالح المتصارعين والمتحاربين، ويتم تجاهل وجه عدن الجمالي، ومسألة الخدمات الملحة، وحل مشاكل ناس المدينة وكل الساكنين فيها". ويضيف: "كل مرة نسمع عن بدء إعادة الإعمار، لكن ما زالت أغلب المنازل والمراكز والعقارات التجارية وحتى المدن التي تعرضت للدمار الكامل أو حتى تلك التي تأثرت جزئياً، كما هي من دون حتى التعويض على ملاكها. علماً بأنّ بعض المباني تعرضت لأضرار بسبب الصراع بين الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي الجنوبي، والناس تخاف من أن يزيد استمرار الصراع بين الطرفين، من حجم الضرر والدمار في المدينة".
وتجمع العديد من الآراء على أنّ عدن تخوض حالياً مرحلة صعبة، وهي تحاول العبور من أوضاعها المعقدة، التي خلّفها الصراع الذي بدأ بحرب جماعة الحوثيين والرئيس الراحل علي عبد الله صالح على المدينة، ثمّ ما تلا ذلك بعد تحريرها، من صراع بين الحكومة الشرعية و"المجلس الانتقالي الجنوبي".
ولا يمكن لزائر المدينة بعد انقطاع، أو المقيم فيها، تجاهل ملامحها الجديدة، خصوصاً بعدما خفّت فيها النقاط الأمنية والعسكرية، وبدأت تختفي من الشارع المليشيات غير المنضبطة، وتنتظم الجوانب الأمنية، والأطقم العسكرية التي تقل حوادثها تدريجياً. كما انتشرت شرطة السير والأمن، في ظلّ خطوات حقيقية لتفعيل دور أقسام الشرطة. وتمكنت قوات الأمن من إجبار أصحاب المحلات التجارية والشركات والعقارات على تركيب كاميرات مراقبة، وفقاً لمصادر أمنية. وتقول هذه المصادر لـ"العربي الجديد"، إنّ "نصب الكاميرات في الشوارع والمحلات، ساعد قوات الأمن على ضبط كثير من الاختلالات، وتقليل نسبة الاعتداءات الإرهابية، بما فيها الاغتيالات التي كانت تحدث. كما تراجعت نسبة الحوادث الأمنية والجريمة إلى أدنى مستوى، بعد أن حدّت قوات الأمن من حركة الدراجات النارية التي كانت تستخدم في هكذا عمليات".
في موازاة ذلك، تحوّلت عدن إلى مأوى للمنظمات الدولية التي تحظى بحركة واسعة في المدينة. كما انتقل إلى العاصمة المؤقتة أبرز الأطباء الذين كانوا في مناطق الحوثيين، بعدما هربوا إليها مع تحسّن الوضع الأمني فيها، فضلاً عن انتشار الكثير من المستشفيات والجامعات والكليات التي نقلت مقراتها إلى عدن، إلى جانب افتتاح جامعات جديدة. لكن هناك معاناة في قطاع التعليم في المدارس الأساسية والثانوية الحكومية، بسبب قلة هذه المدارس وازدياد عدد الطلاب إلى الضعف، وقلة المعلمين، بسبب وقف التوظيف الحكومي. ولكن في المقابل، انتشرت المدارس الخاصة، التي تعدّ جودة التعليم فيها أعلى من تلك المتاحة في المدارس الحكومية، لكنها أكثر كلفة.
في السياق، يقول مسؤول حكومي في السلطة المحلية بعدن، فضّل عدم ذكر اسمه، إنّ العاصمة المؤقتة "تواجه العديد من المشاكل، ولا سيما في الخدمات وانقطاع الرواتب وغياب الدعم المالي، خصوصاً أنّ الحكومة تعاني هي نفسها من غياب الدعم، بسبب عدم إيفاء التحالف بوعده بدعمها، وهذا أدى إلى انهيار العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، وارتفاع الأسعار، وعدم وجود أموال كافية لتغطية الاحتياجات من المواد الغذائية. وفوق هذا، هناك زيادة كبيرة في عدد السكان. فهناك مئات الآلاف من الذين اتخذوا من عدن سكناً جديداً لهم بعد الحرب، في ظلّ التطورات الجارية في البلاد، فضلاً عن النازحين الذين فروا من الحرب من جميع مناطق اليمن بدون استثناء، بمن في ذلك أولئك الذين هربوا من سطوة الحوثيين في مناطق سيطرة الجماعة. بالإضافة إلى وجود المهاجرين الأفارقة، الذين لا يزالون يتوافدون على اليمن، على الرغم من الحرب، على أمل العبور منه إلى السعودية".
ويضيف المسؤول لـ"العربي الجديد": "كما أنّ عدن أصبحت عاصمة، وفيها مقرات الحكومة الرئيسية كالوزارات، والمؤسسات والمنشآت الحكومية الاستراتيجية؛ اقتصادياً وأمنياً وخدمياً، فضلاً عن قدوم رأس المال إليها". ويعتبر أنّ "هذه الظروف ومركزية عدن، عقّدت مشاكل السلطات المحلية، فالخدمات كالكهرباء مثلاً، ووفق الإمكانيات الحالية، لا تستطيع تغطية الزيادة الكبيرة في عدد السكان. كما أنّ هذه الزيادة تثقل كاهل قوات الأمن، التي تحاول إحراز تقدم في تأمين المدينة، وقد حققت بالفعل نجاحاً حتى الآن في ضبط الكثير من الاختلالات الأمنية".
مواطن عدني: المشاريع التي يُعلن عنها في عدن، إما وهمية أو ترقيعية لا تُخرج المدينة من مشاكلها
لكن المسؤول نفسه يؤكد أنّ "هناك مشكلة حقيقية مستمرة منذ بدء الحرب، وتتعلق بمسألة جمع إيرادات كاملة لصالح مؤسسات الدولة، وذلك بسبب استمرار قيادات أمنية وعسكرية، وبعض التشكيلات غير المنضبطة في الاستيلاء على هذه الإيرادات، التي تصل إلى مئات الملايين من الريالات يومياً، لا سيما إيرادات أسواق القات وإيرادات المنافذ البرية للمدينة، إلى جانب إيرادات عدد من الأسواق". ويشير المسؤول إلى أنّ "هناك جهات تدعم هذه القيادات، في حين لم تتحرك الحكومة، مع المجلس الانتقالي الجنوبي، المسيطر ميدانياً، من أجل إجبارها على تسليم الإيرادات إلى البنك المركزي، ووضعها في حساب المدينة لمساعدتها على حل مشاكلها، لا سيما وأنّ عدن لا تزال بدون ميزانية".
ويؤكد المسؤول أنّ "هناك محاولات حثيثة وجدية، لتجاوز مشكلة تدهور الخدمات في عدن، وقد تم البدء بتنفيذ بعض المشاريع الخدمية، كبناء محطة جديدة للكهرباء، بتوجيه من الرئيس عبدربه منصور هادي، والتي بدأت مدّ الأعمدة الناقلة للكهرباء، وهذه المحطة قد تحل جزءاً من مشكلة الكهرباء في عدن".
في الأثناء، فرض التدهور الاقتصادي في عدن، نفسه على الناس وسلوكها، لا سيما لناحية تعاطيها مع جائحة كورونا، على الرغم من تصاعد عدد المصابين بالفيروس. فالناس لا تعطي أهمية كبيرة للوقاية من الوباء، بقدر تركيزها على الحصول على ما يغطي جزءاً من نفقات لقمة عيشها. وعلى الرغم من أنّ الكثير من الشباب والمواطنين في عدن، وجدوا وظائف ضمن التشكيلات الأمنية والعسكرية التابعة للحكومة الشرعية و"المجلس الانتقالي الجنوبي"، وكذلك في المنظمات الدولية والمراكز التجارية والفنادق السياحية التي شهدت انتشاراً خلال السنوات الست الماضية، لكن الناس تواجه تداعيات انهيار العملة الوطنية، التي جعلت من عوائد تلك الوظائف بلا قيمة. مع العلم أن الأجور أساساً منخفضة، فيما تسبب انهيار العملة في ارتفاع كبير للأسعار، وأثّر على القدرة الشرائية للمواطن، وإمكانيته على تغطية ولو جزءا بسيطا من نفقات أسرته. وهو ما دفع كثيرين للبحث عن أعمال إضافية، مثل العمل في البناء والنقل والمواصلات، وأعمال حرة كالبيع على الأرصفة وفي الشوارع، والأحياء الشعبية والسكنية، وفي أسواق القات والخضار. بل إنّ الوضع الاقتصادي دفع الكثير من الطلاب لترك مقاعد الدراسة والبحث عن عمل.
في السياق، يقول الناشط السياسي اليمني، نافع العطافي، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "الوضع الاقتصادي منذ انقلاب الحوثيين وتدخل التحالف العربي، يتدهور بشكل مستمر وكارثي، فالمنافذ البحرية والموانئ شبه مشلولة، بسبب قيود التحالف وإجراءاته عليها منذ العام 2015. كذلك البلد متوقف عن التصدير، وشركات النفط والغاز، البعض منها متوقف بدون سبب والبعض قلّ إنتاجه. كل ذلك أثّر على الوضع الاقتصادي لليمن بشكل عام، وعلى عدن كعاصمة مؤقتة بشكل خاص، ما انعكس على معيشة الناس، وعدم قدرة الكثير من الطلاب على مواصلة الدراسة، وتعسّر الحصول على وظيفة، وحتى إن حصل المواطن على وظيفة لا تغطي احتياجاته، فالناس تواجه المجاعة".
ويضيف العطافي: "نحن نرى الآن العملة في انهيار متسارع حتى أصبح الدولار الواحد في بعض الأوقات بـ900 ريال يمني، بمعنى أن كل أصحاب الدخل المحدود، وهم الفئة الأكبر في المحافظات الجنوبية، وفي مقدمتها عدن، أصبحوا تحت خط الفقر. فمتوسط الراتب الشهري ستون ألف ريال، وهو أقل من ثمانين دولارا أميركيا، وهذا طبعاً لا يوفر حتى نصف قيمة المواد الاستهلاكية للأسرة، بل إنّ البعض يعمل مقابل راتب لا يتجاوز عشرين دولاراً". ويشير إلى أنّ "الوعود التي كان يقدمها التحالف والحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي الجنوبي، بعد تطبيق اتفاق الرياض، لتحسين الأوضاع مخيبة للآمال"، موضحاً: "استبشرنا خيراً بعد اتفاق الرياض وتشكيل الحكومة الجديدة، بإيجاد معالجات لتخفيف الوضع على الناس، لكن خاب الظنّ وازداد الوضع سوءاً، حتى أنّ حكومة المناصفة والتحالف أضافا إلى الأزمات المذكورة، المماطلة في صرف الرواتب الشهرية".
مسؤول: هناك محاولات حثيثة وجدية لتجاوز مشكلة تدهور الخدمات في عدن
آثار الحرب والصراعات طاولت كل شيء في عدن، حتى المنشآت الرياضية، التي تضرّر عدد منها ولا سيما أثناء الحرب الحوثية على المدينة، مثل الملعب الدولي، الذي لا تزال آثار الدمار واضحة على أجزاء منه، ولم يتم تأهيله حتى الآن. وعلى الرغم من ذلك، ومع تحسن الأوضاع الأمنية نوعاً ما، تحاول عدن وبإمكانيات بسيطة تفعيل الأنشطة الرياضية، في حين تبقى السواحل المتنفس الأبرز للشباب، حيث يمارسون بعض الأنشطة ككرة القدم وغيرها.
وفي السياق، يقول الشاب العدني، عمر عزيز، لـ"العربي الجديد"، "هناك تطور نوعاً ما في بناء الملاعب التجارية، ضمن القطاع الخاص، وهو ما يعطي الشباب فرصة لممارسة بعض الأنشطة نهاراً أو ليلاً، لكن غالبية الشبان يتجهون إلى السواحل، لممارسة هواياتهم بلا تكلفة". ويوضح عزيز أنه يذهب يومياً للعب كرة القدم والكرة الطائرة مع العشرات من أصدقائه وزملائه على شواطئ المدينة، مؤكداً أنّ "تحسّن الوضع الأمني في المناطق، أدى إلى زيادة فعالية الأنشطة الرياضية، وعادت الجماهير لحضور مباريات الأندية المعروفة، بشكل أكبر، وهذا ما يعيد بعض الزخم والحركة للمدينة".
ويظلّ هناك وجهان لعدن؛ الأول يعكس البؤس والمعاناة وآثار الفقر المنتشر في الأحياء والبيوت العشوائية والمهترئة، لا سيما تلك التي تحيط بجبل شمسان، وفي مدن التواهي والقلوعة والمعلا وكريتر في المحافظة، فيما تبنى المدن الجديدة في الجزء الآخر من عدن باتجاه حدودها مع أبين ولحج وتعز، وسط أعمال نهب للأراضي، وهو ما له تداعيات كبيرة على الوضع في عدن بشكل عام. أما الوجه الثاني، فيتمثل ببحث الناس عن وسيلة للخروج من معاناتهم، كاللجوء لبعض وسائل الترفيه المتاحة، وتفاعلهم بشكل كبير مع الفعاليات الفنية التي دائماً ما ينظمها شباب، والمهرجانات والمسرحيات الكوميدية، مع عودة الأنشطة الثقافية في المدينة بشكل تدريجي، إلى جانب اللجوء إلى الملاعب والحدائق الخاصة.