في ظلّ حالة الموت السياسي التي تعيشها مصر، وتراجع جميع القوى السياسية التقليدية، تظلّ طائفة واحدة يسمح لها بالتحرك، تتمثّل في المجتمع المدني. وبرز على مدى السنوات الماضية بشكل خاص، المجتمع الحقوقي، الذي يحاول أن يستغلّ صلات وثيقة له مع حكومات ومنظمات غربية تضمن له الحماية من ضربات النظام الباطشة. حتى إنّ بعض المشتغلين بالشأن العام في مصر، يراهنون على الحقوقيين المصريين ممن يمتلكون علاقات خارجية قوية، والذين يطرحون أنفسهم أحياناً كسياسيين، ولكن من دون إيديولوجيا محددة أو تصوّر معيّن أو حتى تحالفات واضحة، تمكنهم من إحداث تغيير جذري في النظام السياسي. وعلى مدى السنوات العشر الماضية، وجد الحقوقيون المصريون أنفسهم أمام اختبارات عدة جعلت نشاطهم موضع انقسام حتى في ما بينهم، وفي ما يتعلق بنظرة السياسيين لدورهم، وسط تساؤلات حول حقيقة قدرتهم على التأثير في المشهد.
في السياق، يستعرض الحقوقي المصري أحمد مفرح، في حديث مع "العربي الجديد"، أحوال المجتمع الحقوقي المصري خلال عشرية الثورة المصرية، بما فيها من "إيجابيات وسلبيات". ويقول مفرح، وهو المدير التنفيذي لمنظمة "كوميتي فور جستس"، وهي جمعية مستقلة للدفاع عن حقوق الإنسان مقرها في جنيف، إنّ "هناك إيجابيتين حاسمتين في استمرار المنظمات الحقوقية المصرية أمام التقلبات السياسية في تلك العشرية، أولاهما الاستقلالية المالية والإدارية، وهو الأمر البارز الذي كان له دور كبير في الحفاظ على المكتسبات البسيطة، التي استطاع المجتمع الحقوقي العمل على جمعها في مواجهته للأنظمة المتعاقبة خلال عشرية الثورة. فلولا الاستقلال المالي والإداري لعانت تلك المنظمات معاناة الأحزاب والحركات والتجمعات السياسية المصرية التي كانت أسيرة انتماءات مذهبية وطائفية".
أمين إسكندر: لا سبيل أمام الشعب المصري لإحداث التغيير سوى بالاعتماد على نفسه وعدم انتظار أي مساعدة من الخارج
أما عن الإيجابية الثانية، فيقول مفرح: "نستطيع القول إنّ انتماء المجتمع الحقوقي المصري إلى معايير عالمية لحقوق الإنسان جعل من تلك المعايير أداة المراقبة والمحاسبة التي نعمل من خلالها على تقييم أداء هذه المنظمات في المواقف السياسية المختلفة. بل نستطيع القول إنها هي الكاشفة لأدائها والمحافظة عليه، حين يعبث الانقسام السياسي بالمجتمع، والتي من خلالها استطاع المجتمع الحقوقي المصري أن يلفظ ما به من جونجوز (لفظ يطلق على المنظمات الحقوقية غير الحكومية التي تتبنى الخط السياسي للدولة أمام ارتكابها انتهاكات لحقوق الإنسان)".
في المقابل، يلفت مفرح إلى أنّ هناك أيضاً "سلبية في انتظار الحل، وهي المتعلقة بالسؤال حول الإسلاميين، إذ كان دائماً هذا السؤال هو الأساسي الذي يتم طرحه باستمرار، حينما تعمل المنظمات الحقوقية المصرية على النظر في مواقفها من انتهاكات حقوق الإنسان. بل أستطيع القول إنّ سؤال الأدلجة من الأسئلة التي كان لها تأثير كبير في تاريخ الحركة الحقوقية المصرية منذ نشأتها في أواخر ثمانينيات القرن الماضي. فلك أن تعلم بأنّ المجتمع الحقوقي المصري قادر على الإجابة عن أسئلة التمويل الأجنبي، والردّ عليها باعتبارها القضية الرئيسية الثانية بعد قضية الإسلاميين، إلا أنه لم يجد حتى الآن إجابة نهائية حول كيفية تعامله مع الإسلاميين، وما تم بعد الانقلاب العسكري ومجزرة رابعة العدوية وأخواتها دليل على ذلك". ويضيف: "على الرغم من هذا، استطاع المجتمع المدني الحقوقي أن يجمع شتاته، ويعود مع أواخر عام 2014 ليتسق مع مبادئ حقوق الإنسان ومعاييرها مرّة أخرى".
ويؤكد مفرح أنّ "دور المجتمع الحقوقي المصري زاد بعد أن ظهر جيل جديد من المنظمات الحقوقية المصرية، وبعد أن نما الدور الذي يلعبه الحقوقيون المصريون في المهجر، وبلغ ذروته بظهور المنبر المصري لحقوق الإنسان (مارس/ آذار 2019)، وهو تجمّع مستقل للمدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان المصريين (المقيمين حالياً في أوروبا وأميركا) الذين يجمعهم إيمانٌ لا يتجزأ بالقيم العالمية لحقوق الإنسان، ورؤية عامة مشتركة لضرورة تأسيس نظام سياسي في مصر، يقوم على احترام مبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية والمواطنة".
محمد جبريل: النظام يضمن حتى الآن أنه لا توجد جهة سياسية ولا تيار يمثل تحدياً حقيقياً لوجوده
من جهته، يجزم السياسي المصري الناصري ورئيس حزب "الكرامة" السابق، أمين إسكندر، بأنه "لا سبيل أمام الشعب المصري لإحداث التغيير سوى بالاعتماد على نفسه وعدم انتظار أي مساعدة من الخارج". ويقول لـ"العربي الجديد": "الديكتاتور المفضّل عند (الرئيس الأميركي السابق دونالد) ترامب، هو ذاته المفضّل عند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مع بعض التجميل بشأن حقوق الإنسان". ويضيف أنّ "الغرب الرأسمالي هو ذاته لم يتغيّر، فالمصالح هي التي تحكم السياسة الخارجية. ولذلك الرهان لتحسين أوضاع الديمقراطية في بلادنا على كلمة من ماكرون أو غيره هو رهان فاشل وبائس، ولا سبيل أمام الشعب المصري سوى الاعتماد على ذاته، ولا طريق سوى بناء القوة الشعبية المدافعة عن الديمقراطية والدستور ونهضة الوطن".
وحول قدرة "الحركة الحقوقية"، خصوصاً ممن لديها علاقات على المستوى الدولي، على إحداث ثورة في المجتمع، يقول الباحث السياسي المصري، محمد جبريل، لـ"العربي الجديد": "المشكلة الوحيدة مع الحركة الحقوقية المصرية ليست أنها عميلة للإمبريالية، فهذا كلام ساذج، بل إنها هي التجسيد الحقيقي للهيمنة الإمبريالية". ويضيف أنّ "الحركة الحقوقية ببساطة كانت وما زالت تمثّل انحراف اليسار وماكينته الكبرى، وهي صنعت بالتحديد من أجل تفريغ الكيانات اليسارية من كوادرها الفعالة. ولذلك، فإنه لغاية التسعينيات كانت المنظمات اليسارية تمنع أعضاءها من تولّي مناصب قيادية في المنظمات الحقوقية، وإن كانت تسمح لهم بالعمل فيها لضرورات معيشية". ويتابع: "الآن وبعد 30 سنة من العمل الحقوقي القائم على جثة اليسار، ليس هناك ميراث سياسي ولا نظري ولا تنظيمي، ولا تقاليد ثورية ولا رموز، ولا استمرارية، كل هذا الفشل السياسي الذي نعاني منه حالياً هو ثمرة انحراف اليسار ناحية العمل الحقوقي، مجرد كوادر تعيش حياة نيويوركية بالكامل، وتمثل جزءاً من النخبة المعولمة عالمياً، وعلاقتها بنا كشعب لا تختلف عن علاقة السفراء الأجانب بقضايانا"، على حد تعبيره.
وتعليقاً على المواقف الدولية التي عادة ما تدعم النشطاء الحقوقيين بينما تغضّ الطرف عن معظم المعتقلين السياسيين في مصر، وعلى سبيل المثال مواقف دول أوروبية عدة وأميركا والأمم المتحدة، المنددة باعتقال ثلاثة مسؤولين في "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، يقول الباحث السياسي نفسه: "للمرة الأولى في تاريخنا السياسي نرى نضالاً يهتم به وزير الخارجية الأميركي شخصياً، فيما يعرب الأمين العام للأمم المتحدة عن قلقه، ويتلقى هذا النضال دعماً ودعاية وتبشيراً وتبنياً من عصب المؤسسات الإمبريالية. أنا لست ضد ثقافة حقوق الإنسان، لكن هناك فرقاً بين الحقوق كمبدأ عام، وبين الأشكال المؤسساتية والإجرائية لتطبيق هذا المبدأ على الأرض".
ووفقاً لعدد من المنظمات غير الحكومية، يقدّر عدد السجناء السياسيين في مصر بنحو 60 ألفاً، بينهم صحافيون ومحامون وأكاديميون ونشطاء وإسلاميون اعتقلوا في حملة مستمرة ضد المعارضة منذ إطاحة الرئيس الراحل محمد مرسي عام 2013، الذي توفي في السجن العام الماضي.
شادي المتولي: التدخل الخارجي لا يمكنه أن يصنع ثورة بمعناها الحقيقي
وفي ظلّ حملة القمع الواسعة التي تستهدف المعارضين السياسيين، تبدو إمكانية إحداث تغيير جذري في المجتمع صعبة المنال. وفي السياق، يقول جبريل إنّ "النظام يضمن حتى الآن أنه لا توجد جهة سياسية ولا تيار يمثل تحدياً حقيقياً لوجوده، أو على الأقل يطالب بتغييرات تمثل تهديداً عليه، إلا أنّ إمكانية الاستقرار النهائي لنظام من هذا النوع مسألة خيالية، فـ 24 ساعة هي فترة طويلة وكافية في مصر لقلب قواعد اللعبة كلها". ويضيف: "أنا لست من أنصار المساواة بين النظام والمعارضة؛ إذا ما سمينا الاستياء الغامض وغير المنظم ولا المعبر عنه معارضة. ولست من هواة معارضة المعارضة بالمزايدة عليها من على يسار النظام، لكن لا هذا نظام سيستمر ولا هذه معارضة مؤهلة لقيادة عملية سياسية ضده، وفي الحالتين لا توجد أي إمكانية في الظرف القاهر الذي يسحق الأغلبية، لاستباق الانفجار الاجتماعي، لا من جهة المعارضة، ولا من جهة النظام، بما في ذلك جلب قروض من الخارج، فهذا يؤجل الكارثة، لكنه يعمّقها ويضخمها".
في المقابل، يقول الباحث السياسي شادي المتولي، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "الاعتماد على الدعم الخارجي في مواجهة نظام باطش أمر مقبول، وأحياناً يكون ضرورياً ولا بديل عنه، إذ إنه يخفف من دون شك عن العاملين في الملف الحقوقي والسياسي الذين يضطهدهم النظام بقسوة، ويمنحهم في الوقت ذاته هامشاً من الحرية يستطيعون فيه ممارسة دورهم". لكنّ المتولي يؤكد في الوقت نفسه أنّ "التدخل الخارجي لا يمكنه أن يصنع ثورة بمعناها الحقيقي، فالثورة الحقيقية يقوم بها الشعب وبقيادة النخبة المثقفة لتغيير الوضع الراهن إلى الأفضل، مثل ما حصل في ثورة الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2011 وثورة تونس".