على الرغم من أنه لا نهايات سعيدة في قصص من شاركوا في ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 في مصر، ولا معسكر واحداً ينتمون إليه حالياً، إلا أن أملاً واحداً يجمعهم في رحلة اكتشاف أنفسهم وبحثهم عن هويتهم، بعد مرور عشرة أعوام على اندلاع الثورة، وكأنهم في انتظار إشارة البدء من جديد.
"نحن جيل الفرص الضائعة والأحلام الكبرى والهزائم الكبرى أيضاً، كما أن البدايات الجديدة لا تليق بنا". هكذا وصف أحمد إبراهيم، نفسه، في تلك المحطة الفاصلة من عمره، وبالنظر إلى الوراء عشرة أعوام. يقول إبراهيم تلك الكلمات، وهو يراوده بعض الشعور بالندم بالتفريط في الثورة، لا سيما أنه كان أحد الداعمين لحملة "تمرد"، التي اتُخذت ذريعة للإطاحة بالرئيس الراحل محمد مرسي، ويحكي أن "ثورةً قامت، ثم شعباً فرط فيها".
يشعر جيل ثورة يناير المصرية بالندم اليوم لتفريطهم بها
وبصوتٍ عال، يفكر إبراهيم في الفرص الضائعة والبدايات الجديدة التي لا تليق به وبجيله، على حدّ تعبيره: "كنّا غير مؤهلين للديمقراطية فعلاً، عندما خرجت مع غيري، داعمين لحملة تمرد، ساعين لطرد الرئيس الوحيد المنتخب بشكل ديمقراطي وحقيقي في تاريخ مصر. صحيح أنني لم أكن يوماً من أنصاره، بل كنت من معارضي حكم جماعة الإخوان المسلمين، لكنني أخطأت في حقّ الثورة والبلد، لا في حقّه وحده". ويضيف: "من جاء (إلى السلطة) بالانتخابات، كان يجب أن يرحل بنفس الطريقة، أو على الأقل أن يُعزل وفقاً للقانون والدستور، لا بحملات الغوغاء التي استغلت كوننا غير مؤهلين للديمقراطية، وأن دولتنا لم تكن دولة مؤسسات، لنصل بالثورة إلى النقطة صفر مجدداً، وكأن شيئاً لم يكن".
على ناصية الندم نفسها، يقف محمد رائد، ليُراجع كشف حسابه في عيد الثورة العاشر. ويحكي رائد: "كنا مفعمين بالأمل في التغيير، وعازمين على أن نبدأ بأنفسنا. كنت أنحني لرفع القمامة من الشوارع، وأتطوع للدفاع عن صاحب أي مظلمة، وأبادر بالفعل الإيجابي ودعوة غيري للمشاركة، كنت شجاعاً بالقدر الذي يبقيني مرفوع الرأس. لكنني تأكدت من أننا هزمنا؛ يوم تملكني الخوف من فعل أي شيء، وقول أيّ كلمة حق، وتخاذلت عن كل ما عاهدت نفسي عليه، فلم أعد أصلح كسراً ولا أرفع قمامة، وألتزم الصمت في الأحاديث السياسية خشية فقد لقمة العيش".
وفي رحلة البحث عن هوية بعد عشرة أعوام على الثورة، لا يمكن لأحمد رفعت، ابن الصعيد وصاحب الصوت الجهوري، أن ينسى دوره في رفع نداء "وسّع طريق للإسعاف"، لفتح ممر عفوي وتلقائي لحمل المصابين داخل سيارات الإسعاف أو على دراجات بخارية، لتلقي العلاج اللازم في المستشفيات المتاخمة لميدان التحرير، أو المستشفيات الميدانية في قلب الميدان خلال أحداث شارع محمد محمود الأولى (أحد الشوارع المحيطة بميدان التحرير في القاهرة). ووقعت الأحداث في نوفمبر/تشرين الثاني 2011، والتي سقط خلالها عشرات الضحايا في مواجهات مع الأمن، بالقرب من مقر مجلس الوزراء المصري، حيث دارت المعارك والاشتباكات الدموية.
تكفّل رفعت، الذي فقد صديقه في أحداث محمد محمود، مع عدد من الأهل والأصدقاء، بحفر بئر في دولة غانا، كصدقة جارية على روح صديقهم، فضلاً عن تنظيم مسابقة سنوية لحفظ القرآن الكريم، مهداة إليه. هذا فقط ما تمكن ورفاقه من فعله، عندما تيقنوا أنهم لن يستطيعوا الانتصار لحقّ صديقهم الراحل، ولمبادئه التي مات عليها، في تلك المحطة من عمر الثورة المصرية وهزائمها المتتالية. يقول رفعت: "يمكن وصفه إحساساً بالعجز، أو قلّة حيلة. يمكن نكون خذلناه وفرّطنا في حقّه وحقّ كل شهداء الثورة. يمكن يكون تارنا متأجل، لكن لن ننساه".
شكّل غلق قضية أحداث شارع محمد محمود تمهيداً لقرارات وأحكام لاحقة لتبرئة نظام مبارك
كان رفعت ضمن من شاركوا في تغسيل وتكفين صديقهم الذي راح ضحية أحداث شارع محمد محمود. لا ينسى هذا المشهد مطلقاً، كما لا ينسى أنه مسؤول عن حقّ هذا الصديق ولو بعد حين، وهو لا يتمالك دموعه كلّما مرّ بتلك النقطة بالقرب من الميدان التي سقط فيها رفيقه قتيلاً برصاصة استهدفته فأصابت صدره. حينها هتف رفعت في الجموع بأعلى صوته: "وسّع طريق للإسعاف"، فكان هو المنادي والمسعف والمُغسّل والمُكّفن، والصديق الباقي على العهد.
وعلى الرغم من أن تقرير تقصي الحقائق عن أحداث محمد محمود، توصل إلى "استخدام ضباط القوات المسلحة الأعيرة النارية من مسدساتهم الشخصية، وثبت ذلك من خلال بند التسجيلات المرئية والتقارير الطبية الخاصة بالمتوفين، حيث تبين إصابتهم بطلق ناري بسلاح 9 ميليمتر"، إلا أنه في سبتمبر/أيلول 2014، تم تأييد قضية قتل عددٍ من متظاهري محمد محمود، "ضد مجهول"، لتُحال القضية برمتها لعدالة السماء.
ولم تكن تلك القضية الوحيدة لضحايا الثورة المصرية، التي تمّ غلق ملفها من دون محاسبة جنائية للقتلة وتأييدها ضد مجهول، بل كانت تمهيداً لقرارات وأحكام لاحقة لتبرئة النظام البائد الذي قامت ضدّه الثورة، من كافة الاتهامات، وخصوصاً قتل المتظاهرين. وعلى رأس تلك القضايا، القضية المعروفة إعلامياً بـ"قضية القرن"، التي قضت فيها محكمة النقض المصرية، في مارس/آذار 2017، ببراءة الرئيس الأسبق (الراحل) محمد حسني مبارك، من تهمة قتل المتظاهرين أثناء ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، ليكون حكماً نافذاً على الثورة بأكملها.