غابريال أتال على درب الرئاسة الفرنسية قبل الأوان

16 يناير 2024
غابريال أتال في الإليزيه، الجمعة الماضي (ميشال أولير/أسوشييتد برس)
+ الخط -

فتح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون معركة الرئاسة على خلافته قبل أكثر من ثلاثة أعوام على موعدها، من خلال تقديم النجم الشاب الصاعد وزير التربية غابريال أتال إلى رئاسة الحكومة خلفاً لإليزابيث بورن.

يُنظر إلى تكليف غابريال أتال بالمنصب على أنه المحاولة الأخيرة من جانب ماكرون لإنقاذ السفينة التي تغرق، وفشل رئيسة الحكومة السابقة في تحقيق إنجازات ملموسة في عدد من الملفات المهمة.

لا يحظى غابريال أتال بتأييد كبير في أوساط الرأي العام، رغم التلميع الإعلامي غير المسبوق والدعاية التي تركز عليه كأصغر رئيس وزراء في تاريخ الجمهورية الخامسة (34 عاماً)، التي أسسها الجنرال ديغول عام 1958، وإظهاره بمظهر المنقذ الذي يمتلك حلولاً سحرية للأزمات التي تفاقمت بقوة خلال الولاية الثانية لماكرون.

وأظهر استطلاع رأي نشرته وسائل الإعلام الفرنسية بعد تكليف أتال أن 52 في المائة من الذين جرى استجوابهم لا يؤيدون تسلمه رئاسة الحكومة، ويرتفع هذا الرقم إلى 58 في المائة لدى من هم تحت سن 35 عاماً.

القراءة السريعة للاستطلاع تشير إلى أن اللعب على مسألة العمر لا تخدم أتال، فثمة حالة عامة من الإحباط تجاه ماكرون الذي تسلم الرئاسة في عمر أقل من 40 عاماً، وجرى الرهان عليه بأن يكون مجدداً ومنفتحاً، ولكنه لم ينجح في ذلك، وبذلك، يميل الرأي العام إلى تولي مسؤولية الدولة من قبل مسؤولين على قدر من النضج والخبرة والتجربة، وهو ما لا يتمتع به رئيس الوزراء الجديد.

غابريال أتال والرئاسة الفرنسية

ولا تبدو مهمة غابريال أتال سهلة في ظل تحديات عديدة يواجهها على مستويات مختلفة. أولها الخصوم الذين يتربصون به داخل الحكومة وخارجها. وكلهم يعملون على إفشال مهمته في إحداث نقلة نوعية خلال رئاسة الوزارة، وقطع الطريق عليه نحو الانتخابات الرئاسية المقبلة المقررة في عام 2027.


52% من الفرنسيين لا يؤيدون تسلم أتال رئاسة الحكومة

أبرز الخصوم وزير الداخلية جيرالد دارمانان، الذي كان يحضّر نفسه لتسلّم هذا الموقع، وفوجئ حينما تلقى خبر تعيين غابريال أتال، ومن دون شك، فقد أحس بطعنة من ماكرون الذي اعتمد عليه منذ عام 2017 من أجل هندسة الأوضاع الأمنية التي ليست بأحسن أحوالها.

ويبدو أن وزير الداخلية كان ضحية لمشروعه الأمني الذي زاد من الاحتقان، ولم يضع حداً لجملة من المصاعب الأمنية، وشكّلت الاضطرابات التي اجتاحت فرنسا في يونيو/حزيران الماضي أحد مظاهر فشل وزير الداخلية الذي يفتقر إلى رؤية، ما عدا تقوية عضلات الجهاز الأمني.

وترى أوساط إعلامية فرنسية أن دارمانان أضر بنفسه من خلال تقديم قانون خاص بالهجرة الشهر الماضي، لقي اعتراضات واسعة، وأجمع معسكرا اليمين واليسار على إسقاطه في البرلمان. وجرى النظر إلى القانون على أنه بمثابة برنامج ترشح مبكر للرئاسة، وهذا ما أثار ضده المتنافسون على المنصب من شتى الاتجاهات.

تردد بعض وسائل الإعلام أن دارمانان، بدلاً من أن يهتم بأمن الألعاب الأولمبية التي ستُنظّم في باريس في الصيف المقبل، ينشغل بمعارك ذات طابع سياسي، مثل قضية الهجرة التي باتت تشكل مدخلاً مهماً إلى الرئاسة. ولذلك يجرى تداول اقتراحات للاستعانة بشركات أمن خاصة.

ويقول منتقدو وزير الداخلية الذي احتفظ بموقعه في الحكومة الجديدة إنه أمضى عشرة أشهر وهو يعمل على قانون الهجرة، ولم يتفرغ لحدث الألعاب الأولمبية الذي تنتظره فرنسا في ظل تهديدات أمنية وتوترات على أكثر من جبهة.

يعتبر دارمانان نفسه أحق بالمنصب وبالرئاسة لاحقاً، لأنه أكثر شعبية من أتال، خصوصاً في أوساط الشرطة، وهو صاحب مشروع أمني متكامل ساعده ماكرون في بنائه من خلال تجنيد قرابة 14 ألف شرطي وتخصيص موازنة للداخلية بقيمة 15 مليار يورو.

ويبدو دارمانان بالنسبة للأطراف السياسية وكأنه يستنسخ تجربة الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي (2007 ـ 2012)، الذي صعد من خلال وزارة الداخلية إلى الرئاسة لخلافة الرئيس جاك شيراك عام 2007، وذلك باستغلال الأوضاع الصعبة في ضواحي المدن، معقل المهاجرين. ومن هنا، يُعمل على قطع طريقه حتى من قبل ماكرون نفسه.


يمتلك ميلانشون أوراقاً كثيرة يمكن استخدامها في الانتخابات المقبلة وأهمها معارضة الحرب الإسرائيلية على غزة

الخصم الثاني هو زعيمة حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف مارين لوبان، التي تعد نفسها الأحق في الرئاسة المقبلة، فهي التي نافست ماكرون في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسة الأخيرة في عام 2022، وحصلت على 41.45 في المائة من أصوات الناخبين، وهي أعلى نسبة يحققها اليمين المتطرف في تاريخ الرئاسيات.

وترى لوبان وبقية أطراف اليمين المتطرف أنه حان الوقت كي يتسلموا الحكم في فرنسا، أسوة ببلدان أوروبية أخرى مثل الجارة إيطاليا، وهم القوة السياسية الوحيدة القادرة على مواجهة موجات الهجرة غير النظامية المتصاعدة، كونهم السباقون إلى ذلك ولديهم تاريخ طويل.

أوراق جان لوك ميلانشون

والخصم الثالث هو زعيم حزب "فرنسا الأبية" جان لوك ميلانشون، الذي تلتف حوله بقية أحزاب اليسار من الشيوعيين والخضر والاشتراكيين. وعلى الرغم من تراجع حجم ودور هذه الأطراف، فإنها تشكل كتلة سياسية صلبة، صاحبة المشروع الذي يقف في وجه العنصرية.

ويمتلك ميلانشون أوراقاً كثيرة يمكن استخدامها في الانتخابات المقبلة، ومن أهمها معارضة الحرب الإسرائيلية على غزة، والتي تعدّ قوة كبيرة جرى تهميشها سياسياً وإعلامياً، ويمكن لها أن تعبر عن نفسها في أي استحقاق انتخابي مستقبلي، شرط تنظيمها لتنهي المقاطعة، وتنخرط في التصويت.

ثاني التحديات التي تواجه أتال هي الأوضاع الصعبة في ظل احتقان داخلي غير مسبوق نتيجة لتداعيات داخلية، مثل الصعود المتزايد لليمين المتطرف، وخارجية تتعلق بتأثيرات حرب إسرائيل على غزة بين الجاليات وعلى مستوى الرأي العام وفي وسائل الإعلام.

ومهما يكن من أمر، يعد التعديل الوزاري والتشكيلة الجديدة تعبيراً عن فشل ماكرون في حكم فرنسا، ورغم أنه استنفد كل ما لديه خلال الولاية الأولى (2017 ـ 2022)، فإنه أصر على الترشح لولاية ثانية فاز فيها في عام 2022 ضعيفاً، من دون أكثرية نيابية تساعده على تمرير القوانين من خلال البرلمان، الذي صار في واد والرئاسة في واد آخر.

وأثار تكليف غابريال أتال وتشكيلة فريقه التي اختارها ماكرون بنفسه قدراً واسعاً من ردود الفعل، ما أظهر رئيس الوزراء من دون فريق عمل يعمل تحت إدارته. وكان تكليف وزيرة العدل في أول عهد ساركوزي الرئاسي عمدة الدائرة السابعة رشيدة داتي بوزارة الثقافة مثار انتقادات واسعة، لأنها بعيدة كلياً عن هذا المجال، ما أظهر ماكرون وكأنه يستخف بالثقافة التي تعد من أعمدة الدولة الفرنسية.

وبدا أن تكليف داتي بالحقيبة هو قرار سياسي مرتبط بمساومات سياسية متعلقة ببلدية باريس، وليس من أجل النهوض بالثقافة. والأمر الثاني هو إقالة وزيرة الثقافة السابقة ريما عبد الملك لأنها انتقدت قانون الهجرة.


يعد تقديم أتال من قبل ماكرون تعبيراً عما يفكر فيه من صورة الرئيس الفرنسي المقبل

وتبدو ولاية ماكرون الثانية وكأنها تشارف على النهاية، رغم أنه لم يمض منها أكثر من عام ونصف عام، وبقي منها ثلاثة أعوام ونصف عام. ويظهر على أدائه الارتباك والتجريب أكثر من الخبرة والاستفادة من الدروس. وليس من المستبعد أن تشهد هذه الولاية نهاية مبكرة في أي لحظة في ظل ما تعانيه الدولة الفرنسية من ضعف في الأداء المؤسساتي، انعكس عليها داخلياً وخارجياً.

وضع حاول ماكرون أن يعالجه من خلال تغيير الوجوه، ولكنه فشل. وكانت مرحلة رئيسة الحكومة السابقة مضرب مثل في الأداء الباهت الخالي من أي لمسة نافعة، وبالإضافة إلى ضعف حضورها، فإنها لم تنجح في التعاطي مع البرلمان، الذي كانت أكثريته على خلاف مع ماكرون.

حسابات ماكرون وتفرّده بالقرار

وكان أحد الحلول المطروحة من أجل تجاوز الاستعصاء حل البرلمان وإجراء انتخابات نيابية مبكرة، ولكن حسابات ماكرون ذهبت باتجاه التعديل الوزاري، الذي تعرض لانتقادات واسعة حتى قبل تشكيل الحكومة الجديدة.

أكثر ما يميز ماكرون العناد والتفرد بالقرار، وهذا ما أبعده عن عدد من المسؤولين الأكفاء، مثل إدوار فيليب الذي تولى رئاسة الوزارة خلال الشوط الأول من ولاية ماكرون الأولى، بين عامي 2017 و2020، واستُغني عنه بسبب النجاحات التي حققها، وصارت تتحدث عنها وسائل الإعلام والأوساط السياسية.

يعد تقديم غابريال أتال من قبل ماكرون تعبيراً عما يفكر فيه من صورة الرئيس الفرنسي المقبل، ولكن تجربة ماكرون تشير إلى عكس ذلك، فما تحتاجه فرنسا اليوم ليس موظفاً حكومياً ناجحاً في مجال التربية والتعليم، أو شاباً ضعيف الخبرة والتجربة، بل رجل سياسة على قدر كبير من التجربة السياسية والاقتصادية، يستطيع نيل احترام الحكومة التي يديرها، وتحقيق الإجماع الداخلي من حوله.

وقد يكون أتال ناجحاً على الصعيد المحلي، وهذا لا يكفي كشهادة تزكية للوصول إلى الرئاسة، التي تحتاج إلى شخصية توفق بين الداخل والخارج.

وهذا ما لم يكن ماكرون يتمتع به، ويحاول تكراره من خلال تقديم غابريال أتال، الذي يحاول أن يعطيه فرصة كي يجرب حظه مثل من يذهب إلى المعركة من دون خبرة في الحرب. باتت السياسة في عهد ماكرون مثل رواية أو سيناريو، أو حلقات مسلسل.

وحينما لا تكون هناك سياسة، فإن الحكم يتحول إلى عمل إداري. وهذا من شأنه أن ينتهي بشكل سيئ، ويبعد الناخبين عن ممارسة حقهم في التصويت، والنتيجة ستكون في صالح اليمين المتطرف الذي يستعد للجولة المقبلة.

المساهمون