ملفات عدة ستكون محط نقاش وانتظار، بعد فوز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أول من أمس الأحد، بولاية رئاسية جديدة، لا سيما حيال القضية السورية التي كانت حاضرة في برامج المرشحين الرئاسيين في تركيا، وعلى رأسها ملفا اللاجئين وتطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق.
وهذا الملف الأخير، ربما أحاطت به الكثير من التكهنات، لا سيما أن طرفي التفاوض، أي النظام السوري والحكومة التركية، ظلّ كلّ منهما مشككاً بنوايا الآخر تجاه العملية برمتها؛ إذ كان النظام يخطو إلى المفاوضات بكثير من المراوغة والحذر، كي لا يمنح أردوغان ورقة قوة إضافية في الانتخابات، لا سيما مع ضغط الشارع التركي لإحداث خرق في الملف، ما يفضي إلى إعادة اللاجئين البالغ عددهم في تركيا حوالي 3.5 ملايين لاجئ. من جهتها، تدرك الحكومة التركية عدم جدية النظام بالتوصل إلى تفاهمات جوهرية تفضي إلى التطبيع، إن لم تنسحب القوات التركية بشكل كامل من الأراضي السورية.
تركيا ومعضلة السلاح الكردي على حدودها
لكن هذا الانسحاب التركي يبقى مستبعداً طالما أن هناك مجموعات كردية مسلحة، وخصوصاً "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) ووحدات حماية الشعب الكردية، اللتين تصنفهما أنقرة تنظيمين إرهابيين وتعتبرهما الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني، ألدّ أعداء الدولة التركية، وليس حكومة حزب "العدالة والتنمية" الحاكم فحسب.
تدرك الحكومة التركية عدم جدية النظام بالتوصل إلى تفاهمات جوهرية، إن لم تنسحب القوات التركية بالكامل من سورية
بناء على ذلك، فإنّ المضي في مسار التطبيع الذي تدفع إليه موسكو بكل طاقتها، سيكون رهن ما يفصح عنه الطرفان خلال الأيام المقبلة. ويتوقع في هذا الصدد أن يكون أردوغان وحكومته قد وضعا خطة للأعوام الخمسة المقبلة، هي مدة الولاية الرئاسية في تركيا، للتعامل مع الملف السوري ككل، ومن بينه شكل العلاقة مع دمشق في ضوء التطورات السياسية الحالية، أي التقارب العربي مع النظام.
كما ستنتظر أنقرة ما ستفضي إليه المبادرة العربية (الأردنية) حيال ملفات إعادة اللاجئين، ومكافحة المخدرات، وكذلك الحل السياسي، الذي يبدو أن دولا عربية عدة تريده مهجناً مع القرار 2254، بما لا ينفر النظام ويدفعه للتهرب من تطبيق بعض بنوده.
شروط متبادلة بملفي الأمن واللاجئين
وتشكل إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، محطة جوهرية بالنسبة إلى الشارع التركي، خصوصاً حيال الوعود التي أطلقها أردوغان في هذا الشأن، لا سيما مع تجديد إعلانه قبل أيام من فوزه، عن إعادة مليون لاجئ من تركيا إلى الشمال السوري، وتحديداً إلى مدن وتجمعات ستبنيها الحكومة التركية بدعم من دولة قطر. وقد افتتح وزير الداخلية التركي سليمان صويلو واحدة منها الأسبوع الماضي.
لكن وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو كشف أيضاً أن المباحثات جارية مع النظام لإعادة اللاجئين السوريين إلى مناطق سيطرة النظام بأمان. وخصّ بذلك السوريين الوافدين من مناطق سيطرة النظام، غير أنه ربط تلك العودة المحتملة مع ملف الانسحاب التركي بشرط مكافحة الإرهاب وإحياء العملية السياسية للحل.
أما الملف الأمني، لا سيما من خلال انتشار المجموعات الكردية على الحدود التركية، فيشكّل من جهته عقدة يصعب حلّها، إذ لا يرغب النظام في إيجاد حل لهذا الملف للضغط على أنقرة به، فيما شددت الأخيرة على أن الانسحاب العسكري التركي من الأراضي السورية مستحيل إن لم يتم إبعاد هذه القوات عن الحدود التركية. وتعتبر أنقرة وجودها في سورية عاملاً في الحفاظ على أمنها القومي.
وكان النظام السوري صدّر موقفه نهاية الأسبوع الماضي حول "خريطة الطريق" لإعادة العلاقات بين دمشق وأنقرة، التي ترتب لها موسكو، وتؤكد أنقرة المضي في تدرجها، من خلال الرد على جاووش أوغلو عبر صحيفة "الوطن" شبه الرسمية، بأن على تركيا تقديم خطوات جديدة وملموسة، لا سيما مسألة الانسحاب من الأراضي السورية.
وكان جاووش أغلو أشار قبل أيام إلى أنه "في ختام الاجتماع في موسكو (في العاشر من شهر مايو/أيار الحالي) قرّرنا إنشاء لجنة لإعداد خريطة الطريق هذه، ومن جانبنا، ستضم اللجنة نائب وزير الخارجية بوراك أكشابار وكذلك ممثلين عن وزارتي الدفاع والداخلية وجهاز الاستخبارات". وأضاف الوزير التركي: "ستكون اللجنة رباعية الأطراف وفي الأيام المقبلة ستعقد اجتماعها وتبدأ العمل لوضع خريطة طريق".
ونقلت "الوطن" عن مصدر من النظام لم تسمه، بأنه "من المبكر الحديث عن تشكيل لجنة سورية لمتابعة إعداد خريطة طريق لتطوير العلاقة مع تركيا وفقاً لمخرجات الاجتماع الوزاري الرباعي الأخير بصيغته الوزارية". ولفت المصدر إلى أن دمشق "تتابع تصريحات مسؤولي أنقرة مشيرة إلى أن الحديث عن انعقاد اللجنة الرباعية في الأيام المقبلة وبدء العمل على (خريطة الطريق) مرتبط بخطوات جدية وملموسة من الجانب التركي".
وشدّد المصدر للصحيفة على أن "دمشق لن تتنازل عن مبادئها وثوابتها والتي تربط أي خطوة تطبيعية مع أنقرة بإنهاء احتلالها للأراضي السورية، ووقف دعم الإرهاب وعدم التدخل في شؤونها الداخلية".
مسار التطبيع بين أنقرة ودمشق لن يتوقف
وحول السيناريوهات المحتملة لمسار التطبيع بين دمشق وأنقرة ومستقبله، رأى الباحث في مركز الحوار السوري أحمد قربي، أن انفتاح أنقرة وحكومة أردوغان تحديداً على النظام، مرتبط بعوامل عدة، منها قضية الانتخابات. وأشار قربي في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى وجود عوامل أخرى، من بينها معالجة ملفي وحدات حماية الشعب الكردية واللاجئين، فضلاً عن البيئة العامة إقليمياً، المنفتحة على التطبيع مع نظام بشار الأسد. ويأتي ذلك بحسب رأيه، خصوصاً بعد ظهور توجهات أممية وغضّ طرف أميركي على مبادرة "خطوة مقابل خطوة" التي يقوم جوهرها على انفتاح الدول الفاعلة على نظام الأسد مقابل تقديم الأخير خطوات ملموسة في معالجة ارتدادات الملف السوري الأمنية والإنسانية.
أحمد قربي: ما سيختلف بعد فوز أردوغان هو سقف التنازلات التي من الممكن أن تقدمها تركيا
ومن وجهة نظر الباحث في مركز الحوار السوري فإن المباحثات في مسار التطبيع لن تتوقف بين دمشق وأنقرة بعد فوز أردوغان، لأن حكومة الأخير "سلّمت بأنه يجب أن يكون هناك تطبيع مع النظام لإيجاد مقاربات جديدة لحل الأزمة السورية، بما يتماشى مع الرؤية الأممية للحل". وأعرب قربي عن اعتقاده بأن "ما سيختلف هو سقف التنازلات التي من الممكن أن تقدمها تركيا، فقد كان النظام يبتز الحكومة التركية في مفاوضات التطبيع ولا يريد إعطاءها ورقة قوة انتخابية، لكنه على ما يبدو رضخ للضغط الروسي وقام بخطوات ممكن وصفها بـ"نصف تطبيع". "أما اليوم، بعد نجاح أردوغان في ولاية جديدة، فسيكون هامش حركة أنقرة أكبر في التعامل مع طلبات النظام، لا سيما في مسألة سحب القوات التركية من سورية، وإيقاف دعم فصائل المعارضة التي تصفها دمشق بـ"الإرهابية" وفقاً لقربي.
أما في ما يرتبط بقضية عودة اللاجئين السوريين، فيبدو بحسب قربي أن الحكومة التركية "حتى بعد نجاح أردوغان، ستستمر في التماهي مع التوجهات الجديدة المسكوت عنها أممياً التي تعيد تعريف هذه القضية "بالعودة الطوعية" التي يمكن أن تتم في ظل استمرار نظام الأسد، مع ما يعنيه ذلك من إمكانية دفع قسم لا بأس به من السوريين في تركيا للعودة سواء إلى شمال سورية أو إلى مناطق سيطرة نظام الأسد".
من جهته، أعرب الصحافي والمحلل السياسي التركي، هشام غوناي، عن اعتقاده بأنه إذا أصر النظام على التشبث بشروطه لإكمال التطبيع فسيكون هو الخاسر، لأنه الطرف الأضعف، وفق تعبيره، من منطلق أنه لا يسيطر على كافة الأراضي السورية في ظل تواجد القوات التركية والأميركية، بالإضافة إلى سيطرة المعارضة و"قسد" في الشمال والشمال الشرقي من سورية.
هشام غوناي: المباحثات والاتفاقات بضمانات روسية هي التي ستعيد للنظام المساحات التي خسرها
ولفت في حديث مع العربي الجديد" إلى أن تركيا "لن تنصاع لمطلب النظام بالانسحاب الكامل لأسباب عدة، منها: ترك الفراغ للمجموعات الكردية للتوسع مع ضعف النظام، وأيضاً في حال دخول النظام إلى مناطق المعارضة، فلن يفرق في ضرباته بين مدني وعسكري وإرهابي، ما يعني موجة نزوح جديدة نحو الأراضي التركية، وهذا ما لا تريده حكومة الرئيس أردوغان لعدم الاصطدام بشكل أكبر مع الشارع التركي".
ونوّه غوناي إلى أن النظام عليه أن يذهب للمفاوضات ولقاء الأسد مع أردوغان من دون شروط، فالمباحثات والاتفاقات بضمانات روسية هي التي ستعيد إليه المساحات التي خسرها، بالإضافة إلى تحقيق الانسحاب التدريجي بناء على تلك المباحثات. واعتبر أن ملف إعادة اللاجئين مرهون بمسألة المباحثات وتطورها، فتركيا تريد ضمانات حيال هذا الأمر، لا سيما بإعادة اللاجئين إلى مناطق سيطرة النظام. أما بخصوص إعادة اللاجئين إلى الشمال، أي مناطق النفوذ التركي من خلال التجمعات التي تبنيها هناك، فهي خطة قائمة وإن كانت ستتم بشكل أبطأ من ذي قبل، وفق رأيه.
غير أن الصحافي والمحلل التركي، إسلام أوزكان، رأى أن "أردوغان لا يزال بحاجة إلى إدارة دمشق، وأن الأمر نفسه ينطبق على النظام بالنسبة للحاجة إلى أنقرة، أي أن الطرفين بحاجة إلى بعضهما البعض".
ولفت أوزكان في حديث لـ"العربي الجديد" إلى أنه "يمكن الحديث عن عدد من العوامل الجيوسياسية والأمنية التي تفرض التقارب مع دمشق، إذ نعيش في عالم معقد حيث جميع التطورات مترابطة". وأشار إلى أن "طبيعة العلاقات المتعددة تجبر أحياناً بعض الفاعلين السياسيين على التصرف في اتجاه معين". على سبيل المثال، وفق شرحه، فإن موسكو هي التي تشجع، بل تجبر أنقرة على الاقتراب من دمشق، وهذا التقارب مع دمشق هو أيضاً مفتاح علاقات أنقرة الجيدة مع موسكو. ومن ناحية أخرى، رأى أوزكان أن أنقرة تعتقد بأن بعض التهديدات الآتية من سورية لا تزال مستمرة، ومن المفترض بالنسبة إليها أن تتعاون مع دمشق إذا ما أرادت تحقيق نصر نهائي على "الإرهاب"، معتبراً أن التطورات الجيوسياسية الأخيرة تشير إلى استنتاج هذه النقاط على الأقل.
مع ذلك، بحسب أوزكان، فإنه "في هذه المرحلة، هناك وضع يجعل إدارة أردوغان متناقضة وبالتالي مترددة، أي أن أنقرة لا تبدو مستعدة للانسحاب من شمال سورية حتى الآن دون تلقي ضمانات من دمشق، خصوصاً في ما يتعلق بوحدات حماية الشعب واللاجئين، ومن ناحية أخرى، فإن دمشق تشترط الانسحاب". واعتبر أخيراً أنه "إذا كان من الممكن حل هذا الوضع بطريقة ما، فسنرى جميعاً دخول أنقرة في عملية تطبيع سريع".