مع اقتراب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا من نهاية شهرها الأول وإصرار موسكو على شروطها لوقف إطلاق النار، وفي مقدمتها الحصول على ضمانات لحياد كييف ونزع سلاحها وعدم انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي، تعكس المؤشرات المتوافرة حتى الآن غياب رؤية واضحة لدى روسيا لمستقبل أوكرانيا ما بعد الحرب والوجود الروسي على أراضيها.
ومن اللافت أن كبار المسؤولين الروس يتجنبون حتى اليوم الحديث صراحة عن مستقبل أوكرانيا، باستثناء صدور بعض التصريحات العامة، مثل تأكيد الأمين العام لمجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف تطلّع روسيا لـ"المساهمة في التنمية الاقتصادية لأوكرانيا واستقرار حياة الشعب الشقيق".
سيناريوهان لتقاسم النفوذ في أوكرانيا
وبانتظار ما ستحمله المفاوضات المتقطعة بين كييف وموسكو وما ستؤول إليه في الفترة المقبلة، يرجح مدير عام "مركز المعلومات السياسية" بموسكو (شركة استشارات متخصصة في التحليل السياسي والعلاقات العامة)، أليكسي موخين، انقسام أوكرانيا إلى مناطق للنفوذ الروسي والغربي، على غرار تفكك ألمانيا إلى جمهورية ألمانيا الديمقراطية (اشتراكية)، أي ألمانيا الشرقية، وجمهورية ألمانيا الاتحادية (ديمقراطية)، أي ألمانيا الغربية، إثر هزيمة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945).
ويقول موخين في حديثٍ مع "العربي الجديد": "هناك سيناريوهان رئيسيان لتطور الأحداث. السيناريو الأول متعلق بوجود أوكرانيا دولة مستقلة ذات سيادة ومنزوعة السلاح ومن دون أفكار نازية (وفق قائمة الشروط الروسية)، وهو ما قد يسمح بعودة منطقة دونباس (تضمّ إقليمي دونيتسك ولوغانسك) إلى حضنها كمنطقة ذاتية الحكم أو حتى كجزء أساسي منها، على أن تكون أوكرانيا محايدة تماماً بين روسيا وأوروبا كنوع من منطقة عازلة. وعند بدء العملية العسكرية الخاصة، كنت أرجح هذا السيناريو، ولكنه لن يتحقق، على ما يبدو".
وحول رؤيته للسيناريو الثاني، يشير موخين إلى أنه يرى "صورة مغايرة تماماً وسيناريو تفكك أوكرانيا إلى مناطق عازلة، على أن يخضع الجنوب والشرق والوسط للنفوذ الروسي، وأوكرانيا الغربية لنفوذ الغرب الجماعي. ستكون هذه أشباه دول على غرار الألمانيتين الغربية والشرقية".
ويعتبر أن بدء العمل على المسار السياسي في أوكرانيا سابق لأوانه، قائلاً: "الحديث في الوقت الحالي عن مستقبل أوكرانيا سيكون بمثابة ما يعرف في الرياضة بالبداية الخاطئة. لكن على الأرجح، وبصرف النظر عن التطورات، ستحصل روسيا من أوكرانيا على ضمانات استقلالها عن التأثير الغربي الخارجي، ووقف النزاع المسلح بين مختلف مناطق البلاد. وفي حال تسنى تطهير البلاد أو جزء منها من النازيين، فسيتسنى زرع سياسي موال لروسيا أو محايد على رأس المناطق المطهرة".
طرد أحد البرامج نائباً شيوعياً بعد تشكيكه في السلطة الأوليغارشية
ومن مؤشرات انعدام الرغبة لدى السلطات الروسية في طرح قضية مستقبل أوكرانيا سياسياً على نطاق واسع، حتى على مستوى الإعلام، طُرد النائب بمجلس الدوما (النواب) عن الحزب الشيوعي دينيس بارفينوف، يوم الخميس الماضي، من استوديو أحد البرامج النقاشية الدعائية بقناة "إن تي في" المملوكة لشركة "غازبروم ميديا" (الذارع الإعلامية لشركة الغاز "غازبروم" الروسية) بعد قوله إن "روسيا يتعين عليها أن تحدد صورة المستقبل التي سيتم تقديمها للشعبين الأوكراني والروسي المترابطين".
كما شكّك في حسن نتائج إعادة إقامة السلطة الأوليغارشية. وأثارت هذه التصريحات سخط مقدمَي البرنامج اللذين اتهماه بالترويج للأجندة اليسارية لحزبه، واستدعيا أفراد الأمن لإخراجه من الاستوديو.
موسكو تريد كييف "فقيرة"
من جهته، يعتبر مدير "مجموعة الخبراء السياسيين" (منظمة روسية تضم خبراء ومحللين ومستشارين سياسيين)، قسطنطين كالاتشوف، أن موسكو لا تبحث عن أوكرانيا منزوعة السلاح فحسب، وإنما أيضاً "فقيرة حتى لا تصبح نموذجاً يحتذى بها".
ويقول كالاتشوف في حديثٍ مع "العربي الجديد": "عندما يتحدث مسؤولونا عن أوكرانيا محايدة منزوعة السلاح، فإنهم ينسون إضافة كلمة (فقيرة). ستكون أوكرانيا الناجحة نموذجاً يحتذى بها. لذلك يتم تدمير بنيتها التحتية في الوقت الحالي حتى تستمر عملية إعادة الإعمار لأطول فترة ممكنة وتكون بلداً ضعيفاً وغير مستقل".
ويضيف: "النتيجة النهائية للعملية العسكرية أهم بالنسبة إلى السلطة من رؤية المستقبل، لأن لا أحد يعلم على وجه الدقة كيف ستنتهي. لكن في الواقع، لا تريد السلطة الروسية مناقشة الأمر كثيراً، لأنها لا تملك رؤية واضحة، ولذلك تقول إن مستقبل أوكرانيا سيحدده شعبها، خصوصاً أنه لم يجرِ يوماً أي حديث رسمي عن الاحتلال وفرض جهاته للحكم، فيعتبر الكرملين أن الحديث عن مستقبل بلد آخر وسلطته ليس في محله. في المقابل، فإن السلطات الأوكرانية لديها رؤية للمستقبل، وقد أعلنت عن إعفاءات ضريبية وتراهن على الدعم الغربي".
ويقلل كالاتشوف من واقعية زرع سياسي موال لروسيا على رأس السلطة في أوكرانيا، قائلاً: "لن يتم انتخاب أو إعادة انتخاب دمية ربما، حتى في المناطق الموالية لروسيا تقليدياً، بينما سيكون فرض الدمية بالقوة بمثابة الاعتراف بنظام الاحتلال، وهو ما تسعى روسيا لتجنبه".
توقعات بتخلّي موسكو عن حلم إقامة "نوفوروسيا"
ومن اللافت أن النشطاء الموالين لروسيا في الداخل الأوكراني لم يخرجوا إلى العلن على نطاق واسع، حتى في المناطق التي قد سيطرت عليها القوات الروسية، بالتزامن مع تمرير السلطات الأوكرانية في كييف بعجالة قانوناً يعاقب المتعاونين مع روسيا بالسجن مدة تصل إلى 15 عاماً.
وفي السياق، ذكرت صحيفة "نيزافيسيمايا غازيتا" الروسية أن أوساط الوطنيين اليساريين الروس الداعمين العملية العسكرية تشهد جدلاً حول آفاقها بمشاركة بعض ممثلي الطبقات الموالية لروسيا بين سكان أوكرانيا، الذين يقولون صراحة إنهم لا يثقون في حزم روسيا لـ"البقاء إلى الأبد"، متوقعين تخليها عن "نوفوروسيا" (روسيا الجديدة) على غرار ما حدث بعد "الربيع الروسي" الحافل في عام 2014، حين ضمّت شبه جزيرة القرم الأوكرانية بالقوة، وفشلت في إطاحة السلطة الشرعية المعارضة لها في كييف.
وأوضحت الصحيفة أن حتى أشد خصوم النظام الحاكم في كييف لا يقدمون لهذا السبب على التعاون مع العسكريين الروس، ليس خوفاً على حياتهم، بل لإدراكهم بأنه سيتم تصنيفهم خونةً، ولن يحصلوا على شيء.
وحتى الآن، تبقى مقاطعة خيرسون المنطقة الأوكرانية الحيوية الوحيدة التي تمكنت القوات الروسية من السيطرة عليها بشكل كامل، وتشكيل "لجنة الإنقاذ من أجل السلام والنظام" المكونة من عدد من السياسيين والنشطاء الموالين لروسيا، ما زاد من الترجيحات بأن تصبح خيرسون ساحة للتجارب لإعادة النظر في النظام السياسي في أوكرانيا.