مدّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أول من أمس الأربعاء، حالة الغموض التي تحيط بمستقبل حكومة إليزابيث بورن، والتي تكثر التكهنات بشأن قرب انتهاء ولايتها، بعد أزمتي الاحتجاجات المرتبطة بقانون إصلاح نظام التقاعد، وتلك التي خرجت أخيراً في البلاد، احتجاجاً على مقتل الشاب نائل من أصول جزائرية، برصاص شرطي، لعدم امتثاله لقوانين المرور.
فعلى الرغم من أنه كان وعد في إبريل/نيسان الماضي، بالكشف عن تقييمه لما أسماها فترة تهدئة لمدة مائة يوم، منذ ذلك الشهر، بهدف إعادة التجديد لولايته الثانية وإطلاقها على نحو مختلف، محدداً العيد الوطني الفرنسي أو "يوم الباستيل" الذي يصادف اليوم الجمعة (14 يوليو/تموز) لذلك، إلا أن ماكرون قرّر عدم توجيه كلمة للفرنسيين في الذكرى، بل في الأيام التي تليها، علماً أن أجندته حافلة بالمواعيد الخارجية، ومنها زيارة إلى بروكسل الاثنين والثلاثاء المقبلين.
يُعتبر العيد الوطني الفرنسي نهايةً لعام حكومي وبدايةً لآخر
في غضون ذلك، يسعى قصر الإليزيه، ومعه الحكومة، إلى التركيز على البعد الأمني للتحديات التي تواجه البلاد، بعد احتجاجات الضواحي والمدن الفرنسية على مقتل الشاب نائل، مع الإعلان عن تشديد الإجراءات الأمنية في مناسبة العيد الوطني الذي يحضره رئيس الحكومة الهندية ناريندرا مودي، كضيف شرف مميز وشريك "مميز" لفرنسا، والتي وصل إليها مودي أمس.
خوف من احتجاجات جديدة
ويُعتبر العيد الوطني الفرنسي، أو ذكرى 14 يوليو، في القاموس السياسي الفرنسي، نهايةً لعام حكومي، وبدايةً لآخر، إلا أن ماكرون، الذي لم يلق خطاباً متلفزاً بالمناسبة سوى مرتين في عهده، حتى الآن، منذ تسلّمه الرئاسة في 2017، يبدو غير مستعجل لتحديد آليته المرتقبة، بعد مرحلة "التقييم" التي كان تعهد بها.
ويرى مراقبون أن الرئيس الفرنسي قد يكون أجّل خطابه، خشية اندلاع احتجاجات جديدة في الضواحي المحيطة بالعاصمة باريس، ومدن فرنسية أخرى، بعد إلقائه كلمته، وهي احتجاجات غالباً ما تخرج، مترافقة مع أعمال شغب، توجَّه أصابع الاتهام فيها إلى المواطنين من أصول عربية وأفريقية، والذين يشعرون بتهميش تاريخي، في ليل "يوم الباستيل". وبرأي هؤلاء، فإن خطاب الرئيس قد يؤجج أكثر هذه الاحتجاجات المحتملة، أو أنها قد تنسف مضمونه، ما جعل ماكرون يتأنّى في الكشف عن سياسته المقبلة، بعد عام على ولايته الثانية التي انطلقت بأجواء تصادمية مع الشارع الفرنسي.
في المقابل، تقول وجهة نظر أخرى، إن الفريق الرئاسي لا يزال مختلفاً حول مصير حكومة بورن، التي تأكد حضورها العرض العسكري اليوم في العاصمة بمناسبة العيد الوطني، بعدما كانت التكهنات قد ارتفعت وتيرتها بشأن قرب إعلان الرئاسة عن إقالة الحكومة ورئيستها، أو أقلّه عن تعديل حكومي كبير.
تمكن ماكرون من تمرير المشاريع التي يطمح إليها في البرلمان، رغم التحديات السياسية
وتزداد الخلافات كما يبدو داخل حزب "النهضة" (الجمهورية إلى الأمام سابقاً)، وهو حزب الرئيس، بشأن الإبقاء على بورن أو إقالتها، علماً أن رئيسة الحكومة الفرنسية ظلّت منذ تكليفها بالمهمة في يونيو/حزيران 2022، بمثابة الواجهة "غير الشعبية" التي يمرّر من خلالها ماكرون أجندته، وهو مشروع متواصل.
وتبدّى ذلك خصوصاً حين مرّرت الحكومة في مارس/آذار الماضي قانون إصلاح نظام التقاعد (رفع سنّ التقاعد)، من دون تصويت البرلمان، ثم التعامل مع احتجاجات الضواحي الأخيرة، بقبضة أمنية، ساهمت رغم ذلك برفع شعبية وزير الداخلية جيرالد دارمانان، الذي يطرح اسمه من بين أسماء عدة لخلافة بورن.
نجاح بفضل اليمين؟
في الأثناء، تشير وجهة نظر ثالثة، إلى أن عدم استعجال ماكرون في التوجه إلى الفرنسيين، يعود إلى أنه تمكّن رغم كل التحديات التي واجهت انطلاقة ولايته الثانية، من تمرير المشاريع التي يطمح إليها في البرلمان، وذلك رغم عدم امتلاك حزبه أغلبية مريحة داخله، وذلك بفضل دعم اليمين التقليدي (حزب الجمهوريين).
وكان ماكرون دعا في منتصف إبريل الماضي، إلى "مائة يوم من التهدئة"، بعدما أدّى مشروعه لإصلاح نظام التقاعد إلى احتجاجات نقابية واسعة، تراجعت وتيرتها ثم خمدت بعد تمرير القانون بما يسمى قوة "الاستثناء" الذي تملكه الحكومة. وقال ماكرون يومها إنه سيجري في 14 يوليو "تقييماً أولياً" للمشاريع الكبرى التي وعد بإطلاقها يومذاك لإغلاق ملف الاحتجاجات الاجتماعية.
لكن دوائر الرئاسة أعلنت أول من أمس أن الرئيس الفرنسي لن يلقي الخطاب في 14 يوليو، لكنه سيتحدّث "خلال الأيام المقبلة" في صيغة لم يتمّ تحديدها بعد. وشهدت فترة "التهدئة" التي دعا إليها ماكرون احتجاجات وأعمال شغب واسعة استمرت أسبوعاً، وأشعل فتيلها مقتل الشاب نائل (17 عاماً) في ضاحية نانتير الباريسية برصاص شرطي أثناء تفتيش مروري في 27 يونيو الماضي. وأكدت الداخلية الفرنسية أنها ستتخذ إجراءات مشدّدة بمناسبة احتفالات "يوم الباستيل"، بحسب وزير الداخلية، الذي أعلن أول من أمس، أنه سيتمّ نشر 130 ألف رجل شرطة عشية الذكرى، بالإضافة إلى تهيئة مروحيات عسكرية ووحدات شرطية خاصة، تحسباً لأي طوارئ.
وتسعى السلطة إلى إضفاء طابع أمني على المناسبة، والتركيز على الخطر الأمني أو التحديات الأمنية التي تواجه البلاد، مما يسمى "عنف الضواحي".
وتتعامل الحكومة مع الملف، بقبضة أمنية بعيدة عن معالجة الأزمة التاريخية بين فرنسا و"ضواحيها"، فيما الفرنسيون ينتظرون ما ستؤول إليه أمور أكثر جدية بالنسبة إليهم كان ماكرون قد أطلق العمل بها بعد إنهائه ملف التقاعد لصالحه، في ما وصفه حينها بخريطة طريق جديدة للولاية الثانية. وكلّف الرئيس حكومته في إبريل الماضي، بالتقدم في ما أسماها ورشات عمل متعددة، خلال "فترة التهدئة"، ورسْم "عقد جديد من الحياة في العمل"، و"تعزيز مراقبة الهجرة غير الشرعية"، وإجراء تعديلات على نظام الرعاية الصحية واتخاذ إجراءات تتعلق بالعام المدرسي المقبل.
وتقول بورن إنها بدأت العمل في هذه الورشات، وقالت صحيفة "لو فيغارو" أمس الخميس، إن رئيسة الحكومة ضربت مواعيد حتى نهاية الصيف المقبل، تتعلق بهذه الأجندة، ما يقلّص من فرضية إقالتها. من جهته، أكد مستشار للإليزيه، في حديث لصحيفة "لوموند"، أن الرئيس عليه أن يضفي الاستقرار على حكومته قبل التحدث إلى الفرنسيين، فيما يتراوح الحديث بين إمكانية حصول "تعديل حكومي تقني"، لإطاحة الوزراء الذين يواجهون تعثراً في مهماتهم، أو تعديل حكومي جذري، لتطبيق طموح الرئاسة في سياسة تمزج بين "السلطة والنظام".