مع استمرار جهود البعثة الأممية في تهدئة ميدان القتال والدفع بالعملية السياسية نحو إنتاج مرحلة تمهيدية تتولى خلالها السلطة الجديدة التهيئة لإجراء انتخابات وطنية نهاية العام الجاري، تبرز في الأثناء مسارات موازية أخرى يبدو أنها تجتهد في استباق أي نتائج قد لا تكون في صالحها، لتظهر كعراقيل جديدة في وجه جهود البعثة الأممية.
ومقابل تعثر المسار العسكري، الذي يواجه صعوبة في تنفيذ البند المتعلق بإخراج المقاتلين الأجانب، تداولت وسائل إعلام ليبية، خلال الساعات الماضية من ليل الاثنين، بيانات بشأن إعلان عدد من أعضاء مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة رفضهم اتفاق ممثلي المجلسين، المعلن عنه في أبوزنيقة المغربية السبت الماضي، بشأن مبدأ المحاصصة والمناطقية في توزيع المناصب السيادية.
وفيما لم تتأكد صحة البيانات، التي حملت في بعض نصوصها توقيع 24 عضواً وأخرى حملت توقيع 40 عضواً، في وقت صرّح فيه بعض من حملت البيانات توقيعاتهم بأن أسماءهم تم الزج بها في تلك البيانات دون علمهم، إلا أن تداولها بشكل واسع يعني وجود أطراف تسعى لعرقلة المسار الاقتصادي المرتبط في أغلبه بالمناصب السيادية، لا سيما البنك المركزي الذي تم الاتفاق على أن يكون من حصة شرق ليبيا بالاشتراك مع نائبين من الغرب والجنوب.
لكن تلك العراقيل لا يبدو أنها تسعى لاختراق المسارين فقط، بل على الصعيد السياسي لا تزال شخصيات سياسية تزور عواصم ذات أهمية في الملف الليبي، من غير أن تتضح أهدافها، لكن حراكها في هذا التوقيت قد يشي بسعيها بعيداً عن المسار السياسي الذي تراه الأمم المتحدة.
وفي وقت تكررت فيه أنباء عن سعي رئيس المجلس الرئاسي، فائز السراج، إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية بالتنسيق مع عدة أطراف ليبية، من بينها خليفة حفتر، كشفت وكالة نوفا الإيطالية، أمس الاثنين، عن وجود السراج في العاصمة الإيطالية، للمرة الثالثة، خلال شهرين، من دون أن تبين أسباب الزيارة.
بقاء السراج في السلطة؟
في منتصف ديسمبر/ كانون الأول الماضي أجرى السراج زيارة غير معلنة إلى روما، لكن وسائل إعلام إيطالية أكدت وقتها أن الزيارة على علاقة بزيارة رئيس الوزراء الإيطالي جويبي كونتي إلى بنغازي، في ذات الفترة، حيث سلم خلالها الأخير رسالة لحفتر من السراج ملخصها أن السراج عرض على حفتر اختيار شخصية مقربة منه لتولي رئاسة حكومة موحدة، بعيداً عن السلطة التنفيذية الجديدة التي يسعى ملتقى الحوار السياسي لتشكيلها.
وفي مطلع الشهر الجاري أجرى السراج زيارة جديدة إلى روما، أكد خلالها أن حكومته "سخّرت كلّ الإمكانات لتمكين المفوضية العليا للانتخابات من إنجاز الاستحقاق الانتخابي في موعده وعلى أكمل وجه"، وفق منشور للمكتب الإعلامي للسراج.
ويرى مراقبون أن تكرار السراج لتعهده بالإشراف على الانتخابات المقرر عقدها نهاية العام الجاري دليل على سعيه للبقاء في السلطة.
تكرار السراج لتعهده بالإشراف على الانتخابات المقرر عقدها نهاية العام الجاري، دليل على سعيه للبقاء في السلطة
والأحد الماضي أكد السراج أن نجاح حكومته في رعاية انتخابات بعض البلديات في البلاد "أثبت قدرتنا على الإيفاء بهذا الاستحقاق على مستوى ليبيا كلها، وهو ما نتطلع إليه بإجراء انتخابات عامة رئاسية وتشريعية في موعدها المحدد يوم 24 ديسمبر 2021".
وبحسب دبلوماسي ليبي رفيع، فإن زيارة السراج الحالية إلى روما على صلة بمساعي السراج للبقاء في السلطة، وأن زيارته هذه جاءت فقط لمعرفة نتائج الاتصالات الإيطالية الأخيرة بحفتر، الذي أبدى ميلاً كبيراً لصالح التنسيق مع السراج، لكنه طلب ضمانات للبقاء في منصبه قائداً عاماً للجيش.
وكانت وكالة آكي الإيطالية قد أفادت بأن رئيس المخابرات الإيطالية، جاني كارافيللي، قد زار حفتر في بنغازي، الخميس الماضي، وبحثا "تعزيز العلاقات الدبلوماسية"، بين الطرفين، مشيرة إلى أن الزيارة جاءت "تنفيذاً للمباحثات" التي أجراها كونتي مع حفتر في بنغازي منتصف الشهر الماضي.
غير أنه في الوقت ذاته، لا تزال حكومة الوفاق، تعبر عن تعاطيها بشكل إيجابي مع البعثة الأممية، وهي التي سارعت إلى الترحيب بتعيين الدبلوماسي السلوفاكي، يان كوبيتش، مبعوثا خاصا للأمم المتحدة في ليبيا، معلنة عن استعدادها للتعاون معه.
وقالت الوزارة، في بيان لها اليوم الثلاثاء، إن حكومة الوفاق مستعدة لدعم المبعوث الأممي الجديد لـ"إنجاح مهامه بالبعثة الأممية، وإرساء دعائم الأمن والاستقرار، وإنجاح مسيرة الحوار السياسي الليبي".
وعبرت الوزارة عن استبشارها "خيرا" بالمبعوث الجديد لـ"ما يتمتع به من سمعة دولية طيبة"، وتابعت أنه "سياسي مخضرم، عمل وزيراً لخارجية بلاده، سلوفاكيا، وأمينًا عامًّا لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ورئيسًا للجنة وزراء المجلس الأوروبي".
وأكدت الوزارة أن شغل كوبيتش "منصب رئيس لبعثة الأمم المتحدة في كل من طاجيكستان وأفغانستان والعراق ولبنان كان له آثار إيجابية في مسيرة تلك الدول نحو السلام والاستقرار".
وأعلنت الأمم المتحدة، أمس الاثنين، عن نهاية مهام كوبيتش كمنسق خاص للأمم المتحدة في لبنان، وقرب توليه مهامه بشكل رسمي في ليبيا، دون أن تحدد موعد ذلك.
تكتل داعم لبقاء روسيا
وفيما يؤكد الدبلوماسي الليبي، الذي تحدث لـ"العربي الجديد"، أن كونتي الذي يستعد للإعلان عن حكومة جديدة يذهب في اتجاه التنسيق لحكومة ليبية توائم بين الأطراف القوية، لا يبدو أن حفتر يسير في ركاب السياسة الإيطالية فقط، بل لا يزال قريبا من أهداف موسكو أيضا في ليبيا.
وبحسب مصادر برلمانية، من طبرق، فإن موسكو تعدّ للقاء قريب بين عقيلة صالح وحفتر، بهدف تذويب جليد الخلافات بينهما في إطار جملة من الاتصالات التي تُجريها مع عدة شخصيات وفصائل سياسية ليبية لبناء تكتل داعم لاستمرار وجودها في ليبيا.
ومنذ مطلع ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أعلنت وزارة الخارجية الروسية عن اتصالها بعدد من الشخصيات الليبية، من بينها السياسي الليبي المرشح لشغل منصب رئيس الحكومة في أوساط ملتقى الحوار السياسي محمد معين الكيخيا، الذي التقى نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، مطلع ديسمبر/ كانون الأول.
وفي 15 من يناير/ كانون الثاني الجاري، قالت الخارجية الروسية إن ممثلين لـ"حركة سيف الإسلام القذافي" زاروا موسكو، من بينهم عمر أبوشريدة، المتداول اسمه في أوساط ملتقى الحوار السياسي كمرشح للمجلس الرئاسي الجديد، تزامناً مع زيارة أخرى للممثل رئيس مجلس النواب في طبرق، عبد الباسط البدري.
وخلال الأسبوع الماضي قالت وزارة الخارجية الروسية إنها استقبلت عضو مجلس النواب، فتح الله السعيطي، والذي شغل أيضاً منصب رئيس جهاز المخابرات التابع لحكومة الوفاق.
ويلاحظ أن بيانات الخارجية الروسية حملت صيغة موحدة، تعليقاً على زيارات هؤلاء المسؤولين الليبيين، تشدد على سعيها لـ"التنسيق الفعال للجهود من أجل تعزيز حوار مستقر بين الليبيين بمشاركة جميع القوى السياسية المؤثرة في البلاد"، بمن فيهم أنصار نظام القذافي.
البعثة الأممية "ستتجاوز العقبات"
وتختلف آراء مراقبين ليبيين للحراك في العاصمتين، روما وموسكو، فعلاوة على العلاقة الإيطالية الروسية التي لا تتسم بالمتانة، تؤكد الناشطة السياسية الليبية مروة الفاخري أن روما كانت ولا تزال مقربة من السياسة الأميركية، وكثيراً ما نظرت إليها واشنطن كوكيل لها في قيادة الملف الليبي.
ووفق الفاخري، في حديثها لـ"العربي الجديد"، فإن وجود عراقيل تواجه مسارات الحل "أمر طبيعي، فالأزمة عميقة ومسارات الحل منذ انطلاقها تواجه عراقيل، لكن البعثة الأممية كما نجحت في نقلها خطوات إلى الأمام لن تعجز بوجود دعم دولي وراءها عن تجاوز أي عقبة".
وجود عراقيل تواجه مسارات الحل "أمر طبيعي"
ولا يشكّل الطيف السياسي الموالي للنظام السابق أي ثقل سياسي، كما ترى الفاخري، وإمكانية نجاح موسكو في استثماره إلى جانب علاقتها مع حفتر غير ممكنة، خصوصاً مع تورط شخصيات موالية للنظام السابق في محاولة انقلاب على حفتر في الآونة الأخيرة.
ومقابل تأكيد الفاخري قدرة البعثة الأممية على تجاوز أي عقبات تقف أمام جهودها، يقلل الباحث السياسي الليبي، بلقاسم كشادة، أيضاً من تحركات وزيارات السراج.
ويقول كشادة متحدثاً لـ"العربي الجديد" إنه "لم تتضح خطة السراج حول ما إذا كانت تهدف لبقائه في السلطة عن طريق حكومة يسعى لفرضها في المشهد أو عن طريق البحث عن دعم في عواصم مثل روما ليكون إحدى شخصيات السلطة الجديدة"، ولا يرى تحركات السراج أكثر من مناورة لخلق نفوذ سياسي لإقناع أطراف دولية بقدرته على قيادة المرحلة الجديدة المفضية للانتخابات المقبلة.
لكنه من جانب آخر، يرى أن حراكه قد يشكل خطورة كونه يتحرك في وسط متوتر في العاصمة طرابلس، وبشكل أكثر وضوحاً يقول "طرابلس باتت محط أنظار كل العواصم المتدخلة في الملف الليبي، ولا يعرف حتى الآن شكل خريطة السلاح فيها وقادته، لكن المؤكد أن للسراج معارضين في طرابلس".
ويُجمل كشادة آثار التحركات لخلق عراقيل في كل مسارات الحل بأنها تحدٍّ لقدرة البعثة الأممية على تلبية مصالح كل الأطراف المتصلة بالملف الليبي، فاستمرار تلك التحركات الخفية في عواصم مهمة كموسكو قد يقف أمام قدرة البعثة على فرض شرعية مخرجات الحل، لا سيما السلطة الجديدة وقبول كل الأطراف بها.