نصائح إسرائيلية من تيارات ليبرالية للالتفاف على قرار محكمة العدل الدولية

30 مايو 2024
من جلسة محكمة العدل الدولية في 24 مايو (نيك غامون/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- محكمة العدل الدولية تطالب إسرائيل بوقف هجومها على رفح، معتبرة الهجوم خطراً على حقوق سكان غزة، لكن تجنيداً واسعاً في إسرائيل يدعم استمرار الحرب.
- "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" يصدر وثيقة إرشاد للحكومة تقترح استمرار الهجوم مع تحديد العمليات العسكرية لتجنب إبادة السكان وتسهيل المساعدات الإنسانية.
- النقاش حول قرار المحكمة يكشف انقسامات داخل المجتمع والنخب الإسرائيلية، مع دعم بعض التيارات للحكومة ضد الضغوط الدولية، مما يعكس تعقيد السياسة الداخلية وتحديات القانون الدولي.

أصدرت محكمة العدل الدولية في 24 مايو/أيار الحالي قراراً أمرت فيه إسرائيل بوقف هجومها العسكري على رفح فورا، مشيرة إلى أن "الوضع الحالي ينطوي على مخاطر جديدة بإلحاق أضرار بحقوق السكان في غزة لا يمكن إصلاحها". في هذه الحالة كما حالات أخرى خلال حرب الإبادة على غزة، تجنّد المجتمع الإسرائيلي والأحزاب السياسية كافة، من التحالف الحكومي والمعارضة، لرفض تدخل محكمة العدلة الدولية ودعم استمرار الحرب والدفاع عن حق إسرائيل في الدفاع عن النفس وفقاً لادعاءاتهم. وما لفت الانتباه هو تجنّد مؤسسات وشخصيات حقوقية محسوبة على التيار الليبرالي في إسرائيل و"معسكر السلام"، في توفير تبريرات وإعطاء إرشادات ونصائح للحكومة الإسرائيلية حول كيفية الرد والتعامل مع قرار محكمة العدل الدولية وكيفية استمرار في الحرب من دون اعتبار ذلك خرقاً لقرار المحكمة. وقد كان غالبية هؤلاء من أشد المعارضين والمنتقدين لحكومة بنيامين نتنياهو في العام الماضي بسبب الخطة الحكومية لتقييد القضاء، واتهامها بالقضاء على الديمقراطية والحقوق الليبرالية في إسرائيل وتقييد مكانة السلطة القضائية.

التحايل على محكمة العدل الدولية

وبعد قرار محكمة العدل الدولية نشر "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" ما وُصف بـ"وثيقة إرشاد للحكومة الإسرائيلية"، من أجل التعامل مع قرار محكمة العدل الدولية لمنع وقف الحرب على غزة. وأوضحت الوثيقة أن صيغة القرار وفّرت هامش مناورة واسعا لإسرائيل قادرة من خلاله الاستمرار بالهجوم البري على رفح والادّعاء بأنها لم تخرق القرار. وادّعت الوثيقة، حول عملية رفح، أن محكمة العدل الدولية قررت أنه "يجب على إسرائيل أن توقف فوراً هجومها العسكري، وأي عمل آخر في رفح، من شأنه أن يفرض على السكان الفلسطينيين ظروفاً معيشية يمكن أن تؤدي إلى ابادتهم كلياً أو جزئياً". و"المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" هو "مؤسسة بحثية وتطبيقية مستقلة وغير حزبية، تعمل في الساحة العامة الإسرائيلية في مجالات الحكم والاقتصاد والمجتمع.

وتتمثل أهدافها في تعزيز القيم والبنية التحتية المؤسسية لدولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية، لتحسين أداء الهياكل الحكومية والاقتصاد، وصياغة طرق لمواجهة التحديات الأمنية مع الحفاظ على القيم الديمقراطية وتعزيز الشراكة والقاسم المدني المشترك في المجتمع الإسرائيلي متعدد الأوجه"، بحسب التعريف على موقع المعهد الإلكتروني. ووفقاً للمعهد الإسرائيلي، فإن الصيغة الغامضة لقرار محكمة العدل الدولية سمحت بمواصلة النشاط العسكري في رفح، مع اتخاذ خطوات إضافية من شأنها ضمان الاستجابة الكافية للاحتياجات الإنسانية وأمن السكان المدنيين. ودعا في وثيقته إلى أن "تحدّ إسرائيل من عملياتها العسكرية في رفح فقط إلى المستوى الذي قد تتسبب فيه العمليات العسكرية في إبادة السكان الفلسطينيين، كلياً أو جزئياً". أي أنه، بحسب المعهد، فإن على إسرائيل تسهيل إدخال المساعدات الإنسانية والأغذية والأدوية، والمحافظة على مستوى "قتل مقبول" من المدنيين، بغية الاستمرار في الهجوم في رفح. ولم يبدِ المعهد في وثيقته أي معارضة مبدئية لقتل المدنيين والدمار الهائل الحاصل في غزة.


دعت وثيقة لمعهد إسرائيلي الاحتلال للمحافظة على مستوى مقبول من القتل

وتبنّى المعهد رد إسرائيل الرسمي على قرار محكمة العدل الدولية الذي صدر في بيان مشترك لوزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي الإسرائيليين، بعد ساعات على صدور قرار محكمة العدل الدولية في 24 مايو الحالي. وذكرت إسرائيل في ردها الرسمي أنه "لم ولن يكون في منطقة رفح أي نشاط عسكري يخلق ظروفاً معيشية يمكن أن تؤدي إلى إبادة سكان فلسطينيين كلياً أو جزئياً". واعتبر "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" أن إسرائيل، بفعلها هذا، قد "أعلنت في الواقع أن عملها سينسجم مع الأمر الذي صدر في سياق القتال في رفح". وهذا هو الحال أيضاً حول معبر رفح، إذ أعلنت إسرائيل أنها "ستواصل إبقاء معبر رفح مفتوحاً، وستسمح باستمرار إدخال المساعدات الإنسانية من الجانب المصري للمعبر، وستمنع المنظمات الإرهابية من السيطرة على معبر رفح". هذا الرد، وفقاً للمعهد الإسرائيلي كاف لتقليل احتمالات الاحتكاك السياسي والقانوني من جانب إسرائيل في الساحة الدولية.

وأضاف "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" في وثيقته أنه "نظراً للقرار المتعلق بمواصلة العملية العسكرية في رفح، والتقدير بأن تفسيره وتنفيذه سيكون موضع جدل، فمن المهم أن يتم استمرار النشاط العسكري الإسرائيلي في رفح بالتنسيق مع حلفائها، مع التركيز على الولايات المتحدة، من أجل إضفاء الشرعية للادعاء بأن إسرائيل لا تتصرف بشكل ينتهك قرار المحكمة". إن أهمية هذا التنسيق لم تنبع فقط من المصلحة في عدم اتهام إسرائيل بانتهاك التزاماتها القانونية الدولية، ولكن أيضاً في ضوء الخطر المتمثل في أنه إذا اتُهمت إسرائيل بانتهاك قرار محكمة العدل الدولية فقد يكون لذلك عواقب أوسع بكثير، منها احتمال منع تصدير الأسلحة إلى إسرائيل. كما نصح المعهد إسرائيل في العمل على ضبط تصريحات القيادات السياسية حول رفح لعدم السماح بحصول محكمة العدل الدولية على إثباتات ودلائل. وتابع المعهد في وثيقته: "في ضوء الضرر الذي لحق بإسرائيل نتيجة التصريحات غير اللائقة لشخصيات عامة إسرائيلية، من المهم تجنب التصريحات التي توحي بوجود نية لانتهاك القانون. كما أن هناك حاجة لفحص هذه الادعاءات عبر أجهزة القانون الإسرائيلية. ويجب مواصلة مكافحة ظاهرة تصريحات الجنود غير اللائقة في غزة، والعمل على منع نشر مثل هذه التصريحات على شبكات التواصل الاجتماعي".

أي أن المعهد، الذي تغنّى بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، أرشد حكومة إسرائيل، بكيفية الاستمرار بالحرب والقتل، مع الاهتمام بشكل أكبر بإدخال المساعدات، وضبط التصريحات، وربما تقليل أعداد القتلى المدنيين، من دون المطالبة بوقف الحرب والقتل والدمار، بل السيطرة على حدة كل ذلك للاستمرار في الحرب. وكان لمردخاي كريمنتسير موقف معارض لما سماه تدخل محكمة العدل الدولية في الحرب على غزة. وكريمنتسير شغل سابقاً مناصب عديدة في مجال تدريس الحقوق وفي مؤسسات حقوقية، ومنها محاضر في كلية الحقوق في الجامعة العبرية في القدس، ورئيس إدارة "جمعية حقوق المواطن في اسرائيل"، وعضو إدارة "الصندوق الجديد لإسرائيل"، المصنّف بكونه "من أبرز المؤسسات اليسارية"، فضلاً عن شغله مناصب في "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية".

انتقاد جنوب أفريقيا

وأوضح كريمنتسير في مقال في صحيفة هآرتس نشر في 24 مايو الحالي، موقفه الرافض والمعارض لتدخل محكمة العدل الدولية في الحرب على غزة. وكتب: "كان الطلب الرئيسي والمخزي الذي تقدمت به جنوب أفريقيا من محكمة العدل الدولية في لاهاي، هو إصدار أمر مؤقت يلزم إسرائيل بوقف عملياتها القتالية بشكل كامل في قطاع غزة، أو على الأقل في محافظة رفح، والانسحاب من معبر رفح. وحتى أولئك الذين يعتقدون أنه من الجيد لإسرائيل أن توقف القتال في قطاع غزة مقابل إطلاق سراح جميع المختطفين، سيعارضون بشدة أن يكون ذلك نتيجة لقرار محكمة دولية يمكن أن تكبّل أيدي إسرائيل عندما تعمل على حماية نفسها وسكانها". وأضاف: "كان ينبغي رفض مثل هذا القرار بشكل كامل وباشمئزاز، باعتباره خطراً على وجود إسرائيل وأمنها. ومن شأن مثل هذا القرار أن يلحق ضرراً شديداً، إن لم يكن قاتلاً، بسمعة المحكمة".


مردخاي كريمنتسير: إسرائيل لا ترتكب ولا تنوي ارتكاب إبادة جماعية في غزة

وادعى كريمنتسير أنه "على الرغم من الأصوات غير المسؤولة (داخل إسرائيل) التي تحدثت عن الإبادة الجماعية في غزة، فإن إسرائيل لا ترتكب ولا تنوي ارتكاب إبادة جماعية في غزة. ولذلك ليس لديها سبب للخوف، وليس لديها سبب لمعارضة الأمر الذي يمنعها من فعل ما لا تنوي فعله. إن الامتناع عن ارتكاب الإبادة الجماعية لا يعني مجرد الامتثال لأشد قواعد القانون الدولي قسوة، بل هو أيضاً مطلب أخلاقي من الدرجة الأولى، ينبغي لإسرائيل، باعتبارها ضحية لهذه الجريمة قبل قيامها، أن تعتبره أمراً بديهياً لا يمكن مناقشته. ومن المثير للجدل ما إذا كان هناك أساس متين ومبرر للأوامر الجديدة التي أصدرتها محكمة العدل الدولية ولكن لا يوجد سبب وجيه بما فيه الكفاية لمعارضتها". وفي الوقت نفسه، اعتبر كريمنتسير أنه "لا يمكن لإسرائيل أن تقف مكتوفة الأيدي بسبب القرار، إذ أشارت محكمة العدل الدولية إلى انتقال 800 ألف نسمة من رفح إلى منطقة المواصي، في ظل أحوال صعبة للغاية. هذه الظروف قد تؤدي إلى وفيات على نطاق واسع. ويجب على إسرائيل أن تفعل كل ما في وسعها، وأن تساعد أيضاً الدول الأخرى، لضمان ظروف الحياة لهذا العدد الكبير من النازحين. كذلك يجب أن تهتم إسرائيل بأن تفتح مصر معبر رفح لإدخال المساعدات، والسماح بدخول لجان تحقيق وفحص تابعة للأمم المتحدة".

دور التيارات الليبرالية

تبيّن هنا أن الدفاع عن الحرب واستمرارها ورفض اتهام إسرائيل بارتكاب جرائم حرب وإبادة شعب، لم يقتصر على التيارات اليمينية المتطرفة، بل هي محل إجماع في المجتمع الإسرائيلي والتيارات السياسية. ورفضت التيارات "الليبرالية الديمقراطية" اتهام إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة، واستغربت من التوجه إلى محكمة العدل الدولية داعية للتحايل على قرارها. وأثبتت هذه التيارات أنها ليبرالية في الشكل، بينما تبنّت الرواية الصهيونية في المضمون مع استماتتها في الدفاع عن جرائم دولة إسرائيل. وقد أوضح المفكر العربي عزمي بشارة، زيف وسطحية هذه التيارات وتبنيها موقفا مدافعا عن حرب الإبادة في غزة، وذلك في تحليله المميز وتشريحه لمقال الأكاديمية الإسرائيلية إيڤا إيلّوز (التي تدعي أنها تنتمي لمعسكر السلام في إسرائيل) قبل أيام، اتهمت فيها حركات الاحتجاج الطلابية العالمية باللاسامية بسبب احتجاجهم على سياسات إسرائيل، ورفضهم لحرب الإبادة على غزة ومطالبتهم الدول الغربية سحب الاستثمارات من إسرائيل. واستغربت الكاتبة اعتبار أن "رد إسرائيل على عملية إرهابية بحجم عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وإن كان متمثلاً في قصف منطقة كثيفة بالسكان، ونتيجة له سقط ضحايا مدنيون، هو عملية إبادة". ردود التيار المسمى "ليبرالي ديمقراطي" في إسرائيل تجاه قرار محكمة العدل الدولية أوضح أن هذا الاستغراب ليس حكراً على إيلّوز، بل طاول تياراً بكامله تعامل مع كل من لا يتبنى الرواية الإسرائيلية الصهيونية، بأن له في مداميك ثقافية عميقة مواقف عدائية ولاسامية تجاه إسرائيل وتجاه اليهود.