خلال الشهرين الماضيين، لم يخلُ حديث للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي تحدث في أكثر من مناسبة، من ذكر ما حدث في الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني عام 2011، واستمر حتى الحادي عشر من فبراير/ شباط من العام نفسه، عندما أعلن الرئيس في ذلك الحين محمد حسني مبارك تخليه عن السلطة.
تذكُّر السيسي الدائم لثورة يناير ارتبط دائماً بحديث عن الخراب والدمار الذي سببته تلك الثورة من وجهة نظره، وتأكيده على أن "الله أنقذ البلاد من مصير دول مجاورة مثل سورية واليمن".
وقبل نحو شهر من ذكرى ثورة 25 يناير الحادية عشرة، قال السيسي، خلال كلمة له في افتتاح عدد من المشروعات القومية في صعيد مصر، نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي: "عرفتوا ليه بلدكم كانت ها تضيع في 2011، عرفتوا ليه كانت بلدكم ها تتخرب... أنا لن أنسى".
وتابع: "2011... لن أنساها... والمفروض يا مصريين ما تنسوهاش أبداً في كل إجراء بتعملوه، وفي كل خطوة بتتحركوها، ما تنسوش 2011... ليه؟ لأن اللي أنقذكم ربنا... ربنا وحده اللي أنقذ البلد دي من مصائر الخراب والدمار لأجل خاطر الـ100 مليون والناس البسطاء والغلابة، ولحكمة إلهية أنقذها".
وأضاف السيسي محذراً: "يبقى إحنا ها نكرر نفس المسار تاني؟ لا والله... طب الكلام ده يزعلكم؟ برضه ده يزعلكم! أني بحاجي عليكم وخايف عليكم من الضياع... تزعلوا مني؟ سواء كانوا مسؤولين أو ناس ماسكين شركات أو كلام من هذا القبيل... ده كلام برضه؟! ما تزعلش إلا من نفسك... ما تزعلش غير من أنك تكون سبب في دمار بلدك وخرابها".
يتخوف السيسي من تكرار ما حدث في 25 يناير وإطاحته من السلطة
لماذا يخوّف السيسي المصريين من ثورة 25 يناير؟
وفسر مراقبون وسياسيون تحدثوا لـ"العربي الجديد"، حديث السيسي المتكرر عما حدث في يناير 2011، بوصفه حدثاً "كاد أن يدمر مصر"، بأنه "يعكس خوفاً من تكرار ما حدث وإطاحته من السلطة".
ووفقاً لرؤيتهم، فإنه لهذا السبب دائماً ما "يكرّس السيسي الخوف والرعب من التظاهر، بوسائل متعددة، منها التحذير شفهياً من خراب البلد، أو اتباع سياسات قمعية تخويفية مثل الاعتقال العشوائي والحبس لمدد طويلة من دون محاكمة، وما إلى ذلك من إجراءات هدفها بث الرعب في نفوس الشعب، والقضاء على أي فكرة للنزول إلى الشارع من أجل التغيير".
ورأى المراقبون أن ذكر السيسي لمسؤولين في الدولة وأصحاب شركات بشكل واضح ومحدد، في سياق تحذيره من تكرار ما حدث في يناير 2011، "يشير إلى أنه يخشى من أي تحرك داخل نظامه من قبل مسؤولين بالجيش أو المخابرات أو أي جهاز أمني آخر، باستخدام رجال الأعمال وأصحاب الشركات".
وهذا السيناريو خبره السيسي جيداً، منذ أن كان مديراً لإدارة المخابرات الحربية إبان ثورة يناير. فيومها، كان يرى كيف يُدار المشهد السياسي من قبل المجلس العسكري، بالتعاون مع شخصيات سياسية ورجال أعمال ممن انضموا لما كان يسمى بـ"مجلس حكماء الثورة"، بحسب المراقبين.
ومن رجال الأعمال هؤلاء مثلاً الملياردير نجيب ساويرس، والسيد البدوي، وصاحب "دار الشروق" إبراهيم المعلم، وغيرهم من رجال الأعمال الذين حضروا جلسات كثيرة مع المجلس العسكري الحاكم آنذاك، وباستخدامهم، تم تمهيد الوضع من أجل تكريس سلطة المجلس العسكري بفرض الإعلان الدستوري وما إلى ذلك من إجراءات تالية، على حد قول المراقبين.
في السياق، قال سياسي بارز كان ضمن السياسيين الذين حضروا لقاءات المجلس العسكري مع القوى السياسية وشباب الثورة، لـ"العربي الجديد"، إن "تذكر السيسي لثورة يناير وحقده عليها وكراهيته لها، يرجع إلى أنه كان جزءاً من المجلس العسكري الذي كان مضطراً إلى تحمل اندفاع شباب الثورة آنذاك، وهو الاندفاع الذي كان يصل إلى حد إهانة المجلس العسكري وأعضائه في الجلسات".
وتابع "هذا الأمر كان غريباً على أعضاء المجلس العسكري ممن اعتادوا على التبجيل والاحترام والطاعة من كل من يتعاملون معهم".
وأضاف المصدر، مفضلاً عدم ذكر اسمه، أن "أعضاء المجلس العسكري انقسموا إلى أكثر من فريق آنذاك. الفريق الأول كان يرفض اندفاعة شباب الثورة وأسلوبهم في الحوار أثناء اللقاءات".
وأوضح أن من بين أعضاء هذا الفريق كان "اللواء محسن الفنجري، الذي شغل منصب مساعد أول لوزير الدفاع ورئيس هيئة التنظيم والإدارة للقوات المسلحة، وقائد المنطقة المركزية العسكرية، والذي اكتسب شعبيته وشهرته عندما أدى التحية العسكرية لشهداء ثورة 25 يناير، أثناء إلقائه بيان المجلس الأعلى للقوات المسلحة للشعب المصري على شاشة التلفزيون".
أما الفريق الثاني، وفق المصدر نفسه، "فكان يتبع أسلوب الصبر والاحتواء في التعامل مع اندفاعة الشباب، وكان على رأسه الفريق اللواء محمد العصار".
وتابع المصدر أنه "كان هناك فريق آخر يلتزم الصمت والمراقبة خلال لقاءات المجلس العسكري مع شباب الثورة، وكان اللواء عبد الفتاح السيسي مدير إدارة المخابرات العامة آنذاك، على رأس ذلك الفريق".
السيسي لن ينسى أبداً ما حدث في يناير لأنه كان بمثابة الصفعة الكبرى التي تلقاها النظام العسكري
وقال المصدر إنه "يبدو أن السيسي لم ينس ما تعرض له المجلس العسكري الذي كان يشغل عضويته، من ما اعتبرها إهانات وُجهت للجيش من قبل الشباب الغاضب، ولذلك يقوم الآن باسترجاع ما حصل بشكل انتقامي، بعدما تمكّنت سلطته من البلاد، وشعوره بأنه أصبح الحاكم الأوحد، وحان الوقت لكي ينتقم من كل ما يمت للثورة بصلة".
وأضاف المصدر أن "السيسي يروّج لمعادلة الخراب التي كانت ستتسبب بها الثورة، في مقابل تصديره لصورة الإنجازات، لكي يقنع الشعب بأن الثورة مرة أخرى ستضيّع الإنجازات، وهو ما يؤكد أنّ خوفاً داخلياً يسكن السيسي من احتمال الثورة عليه مرة أخرى كما حدث في 25 يناير 2011".
وبرأي المصدر، فإن "حالة الخوف التي تسكن السيسي، ويحاول دائماً تصديرها للجماهير في أحاديثه المتعددة، وتعكسها بالفعل سياسات القمع والتنكيل بالمعارضين في المعتقلات، انتقلت بدرجة أو بأخرى إلى فريق المنتمين للثورة، ما جعلهم يلتزمون الصمت تماماً بشأن الأوضاع التي تعيشها البلاد، إلا نسبة ضئيلة منهم لا تزال ترفض ذلك، وتتذكر الثورة".
وكرر السيسي حديثه عن ثورة يناير في الثاني عشر من يناير الحالي، وأكد أن "التغيير بالقوة قد يؤدي إلى خراب لا يمكن السيطرة عليه"، وقال: "في مصر كان ممكن يحصل كده! ربنا تفضّل علينا كثيراً جداً إن احنا ما دخلناش هذا المصير".
وأضاف السيسي خلال جلسة نقاشية ضمن فعاليات منتدى شباب العالم في مدينة شرم الشيخ: "دولة فيها 100 مليون كانت ها تبقى دولة أزمات ولاجئين وناس تتفرج علينا والمانحين يعطونا... نخلي بالنا كويس".
ثورة 25 يناير والصفعة للمجلس العسكري
من جهته، قال عضو في "ائتلاف شباب الثورة"، لـ"العربي الجديد"، وتحدث شريطة عدم ذكر اسمه خوفاً من التنكيل به، إنّ السيسي "لن ينسى أبداً ما حدث في يناير لأنه كان بمثابة الصفعة الكبرى التي تلقاها النظام العسكري الذي حكم مصر منذ ستينيات القرن الماضي، والذي كان السيسي بطبيعة الحال جزءاً منه".
وأضاف أن "معظم أعضاء ائتلاف شباب الثورة تركوا العمل السياسي، ويعيشون حالة من الانعزال عن كل ما يحدث؛ فمنهم من هاجر خارج البلاد، ومنهم من يقبع خلف أسوار السجن، ومنهم من يعيش داخل مصر، ولكن من دون التفاعل نهائياً مع ما يحدث".
وقال إنه "على الرغم من تراجع فكرة الثورة في وجدان الكثير من المنتمين إليها، إلا أنها لا يمكن أن تتراجع في مخيلة السيسي، ولا أي شخص أو طرف يأتي إلى السلطة".
وتابع: "لا يمكن أن يأتي أحد إلى السلطة في مصر وينسى ما حدث في يناير 2011، فحتى لو مرت 50 سنة على الحدث، سيظلّ يطارد مخيلة أي شخص في السلطة، ويذكره بأن نظاماً بقي في السلطة ثلاثين سنة، انهار في 18 يوماً نتيجة إصرار الجماهير على إنهاء حكمه".
وأشار عضو ائتلاف شباب الثورة السابق، الذي ترك العمل السياسي ويعمل الآن موظفاً بإحدى الشركات الخاصة، إنه "على الرغم من أن معظم من شاركوا في ثورة يناير نسوها، ولا يلتفتون إلى منتقديها والذين يحاولون دائماً النيل منها، إلا أنها ستظل حلماً يطاردهم، فهي اللحظة الناصعة التي تجسّدت فيها قيم العدل والحرية والكرامة في تاريخ مصر الحديث".
وأضاف أن "ذكرى ثورة يناير في المقابل، ستظلّ تلاحق الرئيس السيسي تحديداً، وتثير مخاوفه، لأنه كان شاهداً عليها منذ اللحظة الأولى وحتى انهيار نظام مبارك في لحظة".
وتابع "كما أن السيسي كان أحد أعضاء المجلس العسكري الذي خطط للقضاء على الثورة، ثم تولى هو شخصياً خطة الانقلاب عليها في الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013، عندما انقض العسكر على أول تجربة ديمقراطية في تاريخ مصر، أدت إلى انتخاب الرئيس الراحل محمد مرسي، إذ تمت الإطاحة به، واستعادة السلطة مرة أخرى بواسطة العسكر".
وبالتالي، "فإن السيسي سيظلّ يسكنه الخوف من تكرار ما حدث، بشكل عفوي وحقيقي وعبر إرادة الجماهير، على عكس ما حدث من مخطط انقلابي باستخدام الجماهير في 2013"، وفق المتحدث نفسه.
السيسي كان أحد أعضاء المجلس العسكري الذي خطط للقضاء على الثورة، ثم تولى هو شخصياً خطة الانقلاب عليها
واعتبر أن "المفترض أن تكون ذكرى الثورة بالنسبة للدول الديمقراطية نذيرة لأي سلطة لكي تلتزم بحماية حقوق الشعب وصون مصالحه، لكن ما يحدث في مصر هو العكس، إذ إن ما تفعله ذكرى الثورة في النظام الحاكم هو أنها فقط تؤرقه، وتجعله يفكر فقط في كيفية قمع هذا الشعب وإرهاقه، حتى لا يفكر في الثورة مرة أخرى".
وأضاف أن "ذلك هو المجال الوحيد الذي نجح فيه نظام السيسي، فهو قادر الآن على إسكات صوت الشعب بالخوف والقهر، كما أنه ناجح في استخدام البروباغندا، لكن الحقيقة أن لحظة الثورة تأتي من دون أي حسابات".
هكذا ظهر وجه اللواء عبد الفتاح السيسي في يناير
من جهته، روى أحد أعضاء ائتلاف شباب الثورة، والذي حضر لقاءات طويلة ومكثفة مع المجلس العسكري، لـ"العربي الجديد"، شهاداته عن تلك الاجتماعات، وتحديداً الانطباع الذي تولّد لديه بعد لقاء اللواء عبد الفتاح السيسي الذي كان يشغل منصب مدير إدارة المخابرات الحربية والاستطلاع قبل الثورة وإبانها.
علماً أن إدارة المخابرات الحربية كان لها دور خفي في ثورة يناير وما بعدها، لم يتم اكتشاف أبعاده بوضوح إلا بعد مرور وقت طويل على الحدث، بحسب المصدر.
وقال عضو ائتلاف الثورة السابق إن "المجلس الأعلى للقوات المسلحة كان يتحكم فيه بطبيعة الحال وزير الدفاع السابق المشير محمد حسين طنطاوي".
وأضاف "لكن كانت هناك داخل المجلس مراكز قوى أخرى، مثل رئيس أركان حرب القوات المسلحة الفريق أول سامي عنان، ومساعد وزير الدفاع للشؤون الدستورية والقانونية اللواء ممدوح شاهين، ومساعد وزير الدفاع رئيس هيئة التنظيم والإدارة اللواء محسن الفنجري، وكل منهم كانت له شخصية مميزة".
وتابع المصدر أن "اللواء عبد الفتاح السيسي لم يكن له حضور قوي داخل المجلس، حتى أن قيادات المجلس الكبيرة كانت تعامله على أنه أقل شأناً منها، نظراً لصغر سنه، والمنصب الذي كان يشغله".
وأكد المصدر أنه التقى هو وزملاؤه في "ائتلاف شباب الثورة"، بمعظم أعضاء المجلس العسكري، سواء في لقاءات جماعية أو في لقاءات فردية، وقال إنه التقى أكثر من مرة بالسيسي.
لعبت المخابرات الحربية تحت قيادة السيسي دوراً في إجهاض الثورة
وأشار المصدر إلى أنه "على العكس من أعضاء آخرين داخل المجلس العسكري الحاكم اتخذنا منهم موقفاً سلبياً، ترك اللواء عبد الفتاح السيسي انطباعاً إيجابياً لدى الشباب، وكان من السهل الحديث معه حول طلبات الميدان، إذ كان ودوداً ويبدو متفهماً إلى حد كبير".
ولفت المصدر إلى أن "وجه السيسي الحقيقي بدأ يظهر مع تطور الأحداث في الميدان، وتحديداً في قضية كشوف العذرية"، والتي بدأت أحداثها في 9 مارس/ آذار 2011، وتتعلق بتعرض نساء قبض عليهن في ميدان التحرير للتعذيب على أيدي عسكريين تابعين للجيش، بما في ذلك إخضاعهن لفحوصات العذرية.
فعقب إخلاء المحتجين من ميدان التحرير بالعنف في 9 مارس، قامت الشرطة العسكرية باحتجاز ما لا يقل عن 18 امرأة في الحجز العسكري، حيث تعرّضن للضرب وللصعق بالكهرباء، وأخضعن لعمليات تفتيش بعد تعريتهن، بينما قام جنود ذكور بتصويرهن، ومن ثم أخضعن "لفحوصات لعذريتهن" وهددن بتوجيه تهم البغاء إليهن.
وأشار المتحدث نفسه إلى أن "اللواء السيسي كان أول من اعترف فعلياً بإجراء كشوف العذرية"، إذ إنه أكد في حوار مع الأمين العام لمنظمة العفو الدولية سليل شيتي، في يونيو/ حزيران 2011، حصول ذلك بحجة "حماية الجيش من مزاعم الاغتصاب التي قد تلحق بالجنود بعد الإفراج عن المحتجزات".
وأضاف المصدر أنه "مع مرور الوقت، اكتشفنا الدور الذي لعبته المخابرات الحربية تحت قيادة اللواء السيسي في إجهاض الثورة".
وأوضح أن "هذا الدور بدأ منذ الأيام الأولى للثورة، عندما شن ضباط وجنود المخابرات الحربية حملة موسعة على المراكز الحقوقية، ومكاتب منظمات المجتمع المدني التي تعمل في مصر، واستولوا على جميع ما فيها من أوراق وأجهزة حاسوب، ونقلوها إلى مقرات المخابرات الحربية لفحصها والحصول منها على معلومات تخص نشطاء الثورة".