منذ العام 1986 كانت بوادر الاحتقان الاجتماعي والسياسي قد برزت في الجزائر، وأدخل انهيار أسعار النفط البلد في أزمة اقتصادية ومالية حادة. ومع تطور الأوضاع وبروز صراع بين أركان السلطة، اندلع تمرد شعبي عنيف في الخامس من أكتوبر/ تشرين الأول 1988، فشهدت العاصمة الجزائرية وكبريات المدن الجزائرية، ومن دون سابق إنذار، احتجاجات عنيفة استمرت أياماً، قُتل فيها عدد من المتظاهرين واعتُقل آخرون تم تعذيبهم في مراكز الشرطة والأمن، فيما لم تكن حينها المطالب واضحة للعيان ولم يتبنَّ أي تنظيم أو جهة تلك الأحداث التي انطلقت شرارتها من إضراب لعمال الشركة الوطنية لصناعة الشاحنات في ضواحي العاصمة الجزائرية. لكن ملابسات العنف السياسي الذي برز بعد ثلاث سنوات فقط من أحداث أكتوبر 1988، قضت على مجمل الطموح السياسي في بناء مؤسسة ديمقراطية ومجتمع مدني حر فاعل وصحافة مستقلة من كل الضغوط والإكراهات، إلا أن مجموع هذه الطموحات ما زالت قائمة، فبعد 30 عاماً يعيش الجزائريون على أحلام أكتوبر وطموحات ديمقراطية مأمولة بأدوات أخرى.
أحداث أكتوبر 1988، بدأت مؤشراتها قبلها بأسبوعين، حين ألقى الرئيس الجزائري حينها، الشاذلي بن جديد، في 19 سبتمبر/ أيلول 1988 خطاباً غير مسبوق، تحدث فيه عن مشاكل البلد والأزمة التي يعيشها، لكن الغريب أن الرئيس نفسه حرّض الشعب على الانتفاضة والخروج للمطالبة بحقوقه، وظهر لاحقاً أن بن جديد الذي كان يرغب في طرح خطط إصلاحية كان يواجه جناحاً محافظاً داخل النظام، ما دفعه إلى الاستعانة بالشعب لدحر المحافظين.
وتزيد هذه التفاصيل في غموض الدوافع الحقيقية والظروف التي اندلعت فيها أحداث أكتوبر 1988، ما إذا كانت انتفاضة حقيقية أم أنها اجتماع لعوامل احتقان اجتماعي مع رغبة جناح في السلطة في التخلص من جناح آخر. لكن المهم أنها شكّلت نقطة تحوّل في التاريخ السياسي للبلاد، إذ أنجزت تلك الانتفاضة مطلب التعددية السياسية والنقابية والثقافية والإعلام وحرية الصحافة في الجزائر، بعد إقرار دستور 23 فبراير/ شباط 1989، وهي المطالب التي ظلت مرفوعة من قِبل القوى السياسية والمعارضين في الجزائر وخارجها منذ الاستقلال عام 1962، وشهدت خلال العقود التي تلت الاستقلال محطات مطلبية عديدة، لعل أبرزها أحداث الربيع الأمازيغي في 20 إبريل/ نيسان 1980.
بعد 30 سنة من تلك الأحداث، يمكن قراءتها بهدوء، وعلاقتها بمجمل الطموحات والأحلام في إقامة مؤسسة ديمقراطية وعيش كريم. مذيعة الأخبار في التلفزيون الحكومي، صورية بوعمامة، التي كنت في فرنسا خلال تلك الأحداث، تشعر بالإحباط لعدم تطور المطالب والإصلاح السياسي والاقتصادي في البلاد، وتقول لـ"العربي الجديد" إن "الجزائر ما زالت بعد ثلاثين سنة من انتفاضة أكتوبر وكأنها تبحث عن نفسها بين الأمم، بعدما انحرف قطار الإصلاحات عن سكته في أولى محطاته، فلم تنضج التعددية السياسية، ولم يتنحَ صقور مرحلة الأحادية السياسية من المشهد، والفساد لم يتلاشَ، وتم الالتفاف على إصلاحات أكتوبر سريعاً". وتضيف بوعمامة "يسود اليوم إحساس بأن تضحيات المئات الذين قضوا في انتفاضة أكتوبر ذهبت أدراج الرياح، بدليل أن الحديث لا يزال قائماً عن الإصلاح السياسي ومدنية الدولة وحقوق المجتمع المدني والمعارضة، وكأننا نراوح في المكان والزمان، ولا نخجل اليوم ونحن نردد بأننا استبقنا أوروبا الشرقية والربيع العربي لكننا تركنا قطار الإصلاحات يفوتنا".
اقــرأ أيضاً
لكن الباحث نبيل عاشور، الذي كان في المدرسة حين بدأت الأحداث، يحمّل السلطة والمعارضة مسؤولية الإخفاق في تحقيق أي إنجاز ديمقراطي منذ أكتوبر 1988، ويقول لـ"العربي الجديد": "الحقيقة أن مطالب أكتوبر تمت دسترتها في حينها، فلا خوف على أحلام أكتوبر، لكن تكتيكات اللعب بين السلطة والمعارضة هي التي تؤجل تحقيق تلك الأحلام، فالسلطة ظلّت تمسك بمقاليد اللعبة السياسية، وبقيت أقوى من المعارضة حتى وهي متصدعة، بينما قوى المعارضة السياسية والمدنية التي تحمل مطالب أكتوبر، لم تغيّر من طريقة لعبها أمام السلطة في كل المحطات السياسية وفشلت في كسب ثقة النخب، وأخفقت في استغلال ما هو متاح حالياً من هامش ديمقراطي يمكن من خلاله تحقيق اختراق جزئي في المشهد السياسي، بدلاً من السعي لتغيير النظام بشكل جذري عبر الآلية الديمقراطية، حيث وضعت السلطة الحواجز الدستورية، كمجلس الأمة مثلاً، الذي يُسقط أي قانون يمكن أن يمرره البرلمان".
في أكتوبر 1988 كان كمال الحاسي طالباً في الجامعة، وكان من السهل ملاحظة البروز السريع للتيارات السياسية داخل الجامعات بعد الانفتاح السياسي في البلاد. يتحدث الحاسي عن تلك الفترة قائلاً "كنت في الجامعة آنذاك، الفئة المثقفة منقسمة بين الفرونكوفيين والمعربين، وبين أصحاب المشروع الإسلامي وما يسمى آنذاك الصحوة الإسلامية التي كانت في أوجها، والتيار اليساري والعلماني بصفة عامة، كما برزت بشكل خاص الحركة البربرية"، مضيفاً "كان هناك خليط من الأفكار والاتجاهات تتناطح في الجامعة، وكان يمكن أن يسمح كل هذا التدافع الفكري والسياسي بمساحات من الحرية والإبداع في كل المجالات، ويؤسس لمرحلة ديمقراطية حقيقية ويركز قواعدها، لكن تهور الإسلاميين وتطرف العلمانيين، منح الفرصة للنظام السياسي لاستعادة أنفاسه بعد انتفاضة أكتوبر، وأعطى طوق نجاة لنظام كاد شباب، لا يعرف ماذا يريد، أن يسقطه"، معتبراً أن الجزائر ضيّعت فرصة لتحقيق حلم بناء ديمقراطية قوية ومنتجة.
في الظروف السياسية التي تلت أحداث أكتوبر 1988، بدا أن هناك اشتباكاً سياسياً بين المرجعية الثورية التي تمتد إلى ثورة التحرير في نوفمبر/ تشرين الثاني 1954، وبين مرجعية أكتوبر كمنجز سياسي وتعددي. وفي هذا السياق، يقول الباحث الجامعي لحسن حرمة، الذي كان يبلغ من العمر 11 عاماً عندما اندلعت الأحداث، إنه أعاد "ترتيب بعض الأمور بشأن ما إذا كانت تلك الأحداث تعبيراً عن مخارج اجتماعية عفوية، أم تفريغاً لاحتقان سياسي، ولم أتوصل لنتيجة، لكن سياسياً وإعلامياً أهدرنا الفرصة من زوايا متعددة". ويضيف أن "الإخفاق في منجز الديمقراطية يعود لعوامل عدة، خصوصاً ما يتعلق بضعف المجتمع المدني والسياسي في الجزائر".
اقــرأ أيضاً
وتزيد هذه التفاصيل في غموض الدوافع الحقيقية والظروف التي اندلعت فيها أحداث أكتوبر 1988، ما إذا كانت انتفاضة حقيقية أم أنها اجتماع لعوامل احتقان اجتماعي مع رغبة جناح في السلطة في التخلص من جناح آخر. لكن المهم أنها شكّلت نقطة تحوّل في التاريخ السياسي للبلاد، إذ أنجزت تلك الانتفاضة مطلب التعددية السياسية والنقابية والثقافية والإعلام وحرية الصحافة في الجزائر، بعد إقرار دستور 23 فبراير/ شباط 1989، وهي المطالب التي ظلت مرفوعة من قِبل القوى السياسية والمعارضين في الجزائر وخارجها منذ الاستقلال عام 1962، وشهدت خلال العقود التي تلت الاستقلال محطات مطلبية عديدة، لعل أبرزها أحداث الربيع الأمازيغي في 20 إبريل/ نيسان 1980.
بعد 30 سنة من تلك الأحداث، يمكن قراءتها بهدوء، وعلاقتها بمجمل الطموحات والأحلام في إقامة مؤسسة ديمقراطية وعيش كريم. مذيعة الأخبار في التلفزيون الحكومي، صورية بوعمامة، التي كنت في فرنسا خلال تلك الأحداث، تشعر بالإحباط لعدم تطور المطالب والإصلاح السياسي والاقتصادي في البلاد، وتقول لـ"العربي الجديد" إن "الجزائر ما زالت بعد ثلاثين سنة من انتفاضة أكتوبر وكأنها تبحث عن نفسها بين الأمم، بعدما انحرف قطار الإصلاحات عن سكته في أولى محطاته، فلم تنضج التعددية السياسية، ولم يتنحَ صقور مرحلة الأحادية السياسية من المشهد، والفساد لم يتلاشَ، وتم الالتفاف على إصلاحات أكتوبر سريعاً". وتضيف بوعمامة "يسود اليوم إحساس بأن تضحيات المئات الذين قضوا في انتفاضة أكتوبر ذهبت أدراج الرياح، بدليل أن الحديث لا يزال قائماً عن الإصلاح السياسي ومدنية الدولة وحقوق المجتمع المدني والمعارضة، وكأننا نراوح في المكان والزمان، ولا نخجل اليوم ونحن نردد بأننا استبقنا أوروبا الشرقية والربيع العربي لكننا تركنا قطار الإصلاحات يفوتنا".
لكن الباحث نبيل عاشور، الذي كان في المدرسة حين بدأت الأحداث، يحمّل السلطة والمعارضة مسؤولية الإخفاق في تحقيق أي إنجاز ديمقراطي منذ أكتوبر 1988، ويقول لـ"العربي الجديد": "الحقيقة أن مطالب أكتوبر تمت دسترتها في حينها، فلا خوف على أحلام أكتوبر، لكن تكتيكات اللعب بين السلطة والمعارضة هي التي تؤجل تحقيق تلك الأحلام، فالسلطة ظلّت تمسك بمقاليد اللعبة السياسية، وبقيت أقوى من المعارضة حتى وهي متصدعة، بينما قوى المعارضة السياسية والمدنية التي تحمل مطالب أكتوبر، لم تغيّر من طريقة لعبها أمام السلطة في كل المحطات السياسية وفشلت في كسب ثقة النخب، وأخفقت في استغلال ما هو متاح حالياً من هامش ديمقراطي يمكن من خلاله تحقيق اختراق جزئي في المشهد السياسي، بدلاً من السعي لتغيير النظام بشكل جذري عبر الآلية الديمقراطية، حيث وضعت السلطة الحواجز الدستورية، كمجلس الأمة مثلاً، الذي يُسقط أي قانون يمكن أن يمرره البرلمان".
في الظروف السياسية التي تلت أحداث أكتوبر 1988، بدا أن هناك اشتباكاً سياسياً بين المرجعية الثورية التي تمتد إلى ثورة التحرير في نوفمبر/ تشرين الثاني 1954، وبين مرجعية أكتوبر كمنجز سياسي وتعددي. وفي هذا السياق، يقول الباحث الجامعي لحسن حرمة، الذي كان يبلغ من العمر 11 عاماً عندما اندلعت الأحداث، إنه أعاد "ترتيب بعض الأمور بشأن ما إذا كانت تلك الأحداث تعبيراً عن مخارج اجتماعية عفوية، أم تفريغاً لاحتقان سياسي، ولم أتوصل لنتيجة، لكن سياسياً وإعلامياً أهدرنا الفرصة من زوايا متعددة". ويضيف أن "الإخفاق في منجز الديمقراطية يعود لعوامل عدة، خصوصاً ما يتعلق بضعف المجتمع المدني والسياسي في الجزائر".