يذوب الثلج في الصين عن سيئات سياسة الطفل الواحد التي أطلقت عام 1978، وساهمت في تشتت أسر كثيرة بحثت عن الحياة الفضلى على حساب التنشئة السليمة للأطفال الذين لحقت بهم مشاكل كثيرة، وما زالت.
سلّطت قصة رفع الشاب الصيني ليو شيه جو البالغ الـ17 من العمر دعوى قضائية أمام محكمة مقاطعة خبي (شمال) ضد تخلي والديه عنه وعدم منحه الرعاية اللازمة، الضوء على مأساة ضحايا سياسة الطفل الواحد التي انتهجتها البلاد في نهاية سبعينيات القرن الماضي، واستمرت أكثر من ثلاثة عقود.
ويتهم ليو والديه بالتسبب بمشاكل وأزمات نفسية كبيرة له منذ أن انفصلا بسبب وضعهما المعيشي السيئ قبل 15 عاماً، حين اضطر الأب إلى بيع ابنه الوحيد إلى عائلة ميسورة كانت تبحث عن ابن بالتبني. لكن الوالدين الجديدين قضيا في حادث سير حين كان الطفل في الرابعة من العمر، فانتهى به المطاف في مركز لرعاية الأيتام.
ومع إطلاق الحكومة العام الماضي حملة لمّ شمل الأسر المشتتة بواسطة تقنية التعرّف على الوجوه التي تعتمد على قاعدة ضخمة من البيانات تحتوي على صور مئات الملايين من جوه المواطنين الممسوحة ضوئياً، قرر ليو البحث عن والديه الأصليين. وبعد أسابيع من البحث عثر عليهما بمساعدة الحكومة، لكنه تفاجأ من أنهما لا يرغبان في بقائه معهما لأن لكل منهما عائلة مستقلة، وهما غير مستعدين لمنحه الدعم المالي باعتباره يكاد أن يصبح بالغاً. ولاقت قصة ليو تعاطفاً كبيراً من رواد مواقع التواصل الاجتماعي الصينية. وتساءل بعضهم عن عدد ضحايا سياسة الطفل الواحد الذين لم يخبروا قصصهم، ولم يتح لهم المجال لإسماع صوتهم والتعبير عن أنفسهم.
دا سن وو (32 عاماً) شاب صيني يزاول التجارة في مدينة شينزن حيث عاش وترعرع في كنف جده منذ نعومة أظفاره لأن والده كان يعمل في مكان بعيد عن مسقط رأسه بمقاطعة قوانغ دونغ، بينما اضطرت والدته بعد عامين من ولادته إلى السفر إلى شمال البلاد للعمل في مدينة تيانجين، من أجل تغطية تكاليف المعيشة وتأمين حياة كريمة لابنهما الوحيد. يقول دا سن لـ"العربي الجديد": "جدّي هو كل ما أملك. إنه مقدّس في حياتي. منذ أن فتحت عيني على الدنيا وجدته في جانبي، وكنت أناديه أبي في صغري، وأحياناً أمي. ولم أدرك معنى كلمة جد إلا في وقت متأخر ربما في سن العاشرة".
وعن علاقته بوالديه، يقول دا سن: "لا أملك أي عاطفة تجاههما. لم نكن نلتقي سوى مرة واحدة كل عام، حين كنت أشعر أنهما مجرد زائرين محملين بهدايا لطفل صغير. ورغم ذلك لم تجذبني هداياهما، ولم تخلق أي عاطفة أو إحساس لدي تجاه من يفترض أنهما أبي وأمي". يضيف: "كانا في كل لقاء يبرران ابتعادهما عني برغبتهما في تأمين مستقبلي، لكن ذلك تسبب في عدم التحاقي بالمدرسة، إذ لم أحصل على التعليم اللازم مثل بقية الأطفال. ووالديّ اعتادا العيش من دوني، مثلي تماماً، فأنا لم أعرف معنى الأسرة إلا حين تزوجت قبل خمس سنوات ورُزقت بطفلة اعتبرها أجمل ما حصل لي في هذه الحياة".
فعلياً منعت سياسة الطفل الواحد ولادة حوالى 400 مليون طفل منذ بدء تطبيقها عام 1978، من دون أن تضع حداً للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية في الصين عبر تحديد النسل ومنع الأسر من إنجاب أكثر من طفل واحد. وتسبب ذلك في تشتت أسر اضطرت إلى الهجرة نحو المدن الصناعية بحثاً عن فرص عمل، مع بداية عصر الإصلاح والانفتاح في عهد الزعيم الصيني الراحل دينغ شياو بينغ. كما أدى إلى انتشار ظواهر غريبة في المجتمع، مثل عمليات إجهاض الإناث (في مجتمع ذكوري تفضل الأسر أن يكون طفلها الوحيد ذكراً)، وكذلك عملية الاتجار بالأطفال (خطف 200 مليون طفل على الأقل خلال أربعة عقود).
ويعلّق أستاذ الدراسات الاجتماعية في جامعة شيامن، لي وين جاو، على هذه القصص المأساوية بالقول لـ"العربي الجديد": "أنتجت سياسة الطفل الواحد جيلاً مشوّهاً لم ينل القسط الكافي من الرعاية والتربية، في ظل انهماك الآباء والأمهات بمعترك الحياة ومتطلباتها الاقتصادية القاسية والملحة". يضيف: "أكثر من 60 في المائة من جيل التسعينيات ما زالوا يعانون حتى اليوم من آثار هذه السياسة، فالأرقام الصادرة عن المحاكم المتوسطة ومراكز الأبحاث المتخصصة في البلاد تشير إلى تبعات مخيفة، مثل ارتفاع نسبة الانتحار بين المراهقين، وأعداد الأطفال الذين يعانون من أزمات نفسية مثل الاكتئاب والشعور بالوحدة والدونية".
ويعتقد لي بأن الخطر الأكبر يكمن في ما تخبئه السنوات المقبلة بسبب عزوف شبان الجيل الجديد عن الزواج والإنجاب خوفاً من تكرار مآسيهم مع أبنائهم، خصوصاً أن أسباب تشتت الأسر ما زالت قائمة، بل زادت مع صعود الصين الاقتصادي، وتحوّل المجتمع بكامله إلى النهج الرأسمالي البعيد تماماً عن قيم الاشتراكية التي سعى الحزب الشيوعي إلى تكريسها على مدار العقود الماضية.
وكان عدد المواليد الجدد في الصين شهد انخفاضاً حاداً خلال العام الماضي. وحدد المكتب الوطني للإحصاء معدل المواليد الجدد المسجل عام 2021 بـ 7.52 لكل ألف شخص، وهو الأدنى منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949. وتتوقع تقديرات حكومية أن ينخفض عدد سكان الصين (1.4 مليار نسمة) إلى أقل من 800 مليون نسمة بحلول عام 2100، ووصول عدد الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاماً إلى 300 مليون بحلول عام 2025.