أعلن الفاتيكان وفاة البابا الألماني المستقيل بنديكتوس السادس عشر، الذي فاجأ تنحيه العالم بأسره عام 2013، صباح السبت عن 95 عاماً. وقال مدير الإعلام لدى الكرسي الرسولي ماتيو بروني في بيان: "يؤسفني أن أعلن أن البابا الفخري بنديكتوس السادس عشر قد توفي اليوم عند الساعة 9:34 في دير ماتر إكليسيا في الفاتيكان. وسيتم الإعلان عن مزيد من المعلومات في أقرب وقت ممكن".
وكانت صحّة البابا بنديكتوس السادس عشر هشة منذ سنوات. وقد تدهورت في الأيام الماضية لكن الفاتيكان أعلن أمس الجمعة أن وضعه "مستقر" وأنه شارك في قداس من غرفته أول من أمس الخميس. وكان البابا فرنسيس قد أعلن الأربعاء الماضي أن سلفه "مريض بشكل خطير" وأنه يصلي من أجله.
ولم تنقطع أخبار بابا الفاتيكان السابق بنديكتوس السادس عشر منذ أن استقال من منصبه عام 2013، وبات البابا الثاني الذي يتخذ هذه الخطوة بعد سِلِستين الخامس عام 1294. وبصفته البابا الفخري احتفظ بنديكتوس بلقب البابا الذي يتمتع بالقداسة الأسمى في الكنيسة الكاثوليكية، واستمر في ارتداء الزي البابوي الأبيض، وانتقل إلى دير ماتر إكليسيا الذي جرى تجديده بالتزامن مع تقاعده في 2 مايو/ أيار 2013.
في 19 إبريل/ نيسان 2005 خلف الكاردينال الألماني جوزيف راتزينغر البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، الذي كان أمضى أطول فترة على رأس الكنيسة الكاثوليكية، وبات البابا الـ265 في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، وحمل اسم بنديكتوس السادس عشر.
وكان راتزينغر رُسم كاهناً كاثوليكياً عام 1951، وعمل أستاذاً في جامعات بون ومونستر وتوبنغن وريغنسبورغ.
وفي عام 1977، عينه البابا بولس السادس كاردينالاً ورئيساً لأساقفة مدينتي ميونخ وفريسينغ. وبفضل صداقته الوطيدة مع البابا يوحنا بولس الثاني أصبح محافظا لمجمع عقيدة الإيمان، وعميداً لكلية الكرادلة.
ومع تصاعد الدخان الأبيض في دولة الفاتيكان الذي يعني اختيار البابا الجديد في 19 إبريل/ نيسان 2005، بدأت ولاية بنديكتوس السادس عشر التي ترافقت مع "غيوم سوداء" لبدت سماء الكنيسة المسؤولة عن الشؤون الدينية والرعوية لأكثر من مليار ومائة مليون من الرعايا، أي نحو نصف أتباع المسيحية حول العالم.
ولم يمض وقت طويل حتى تغيّرت صورة البابا صاحب الشعر الأبيض لدى الأساقفة والكرادلة الذين عرفوه سابقاً بأنه محافظ ومتشدد، إذ أظهر مرونة في التعامل مع الضغوط والفضائح التي تسربت إلى وسائل الإعلام. وتسبب توقيعه على وثيقة اعتبرت الديانة البروتستانتية في مرتبة أدنى من "المجتمع الكنسي" باستياء ودهشة وأزمة عميقة مع أتباع هذه الديانة. كما صدم البابا بنديكتوس السادس عشر الكنائس الكاثوليكية في أميركا اللاتينية وسكانها الأصليين بإعلانه أن انتشار الإنجيل لم يرتبط بمحاولة فرض ثقافة أجنبية على أي شخص، ما خالف الذاكرة الجماعية للسكان الأصليين عن الغزاة الأوروبيين، وواقع فرضهم الديانة المسيحية وثقافتها عبر حملات تبشير انتشرت بينهم.
صدامات مع الصحافة
ولاحقاً ظهرت أزمة تصادمه مع الصحافة ووسائل الإعلام. ونقلت الصحافة الإيطالية تحديداً عن صديقه الفيلسوف والسياسي الإيطالي روكو بوتيجليون، قوله: "أنا مثل عازف التشيلو روستروبوفيتش، لا أقرأ من ينتقدني أبداً".
واكتشف الناس بعد تصريحات البابا بنديكتوس السادس عشر التي تضمنت الكثير من السجالات وردود الفعل الغاضبة أن ثمة وجها آخر لراتزينغر الذي تحدثت تقارير عن انه "بدأ شبابه كليبرالي، ثم ظهر يسارياً راديكالياً". وكتبت صحف إيطالية أن "راتزينغر انتمى إلى جيل من الشباب الكاثوليكي تحمس في مرحلة أولى للإصلاحات والانفتاح والحوار مع الأديان الأخرى، لكن تجارب السنوات التالية غيرته حين بلغ سن الأربعين، خصوصاً بعدما وجدت أوروبا نفسها تحت هزات الاحتجاجات الطلابية. وفي عام 1972 حين عمل أستاذا جامعيا في علم اللاهوت العقائدي في مدينة توبنغن الجامعية الهادئة، اضطر تحت وطأة الرعب من وصول ثورة الشباب إلى هذه الجامعة إلى العودة إلى مسقط رأسه ريغنسبورغ في بافاريا".
فضائح جنسية "بلا بداية ولا نهاية"
وقبل 4 سنوات من وصول الكاردينال راتزينغر إلى الكرسي البابوي اختاره سلفه البابا يوحنا بولس الثاني عام 2001 كاردينالاً وأستاذاً للاهوت لقيادة جهود الكنيسة في مواجهة قضية الاعتداءات الجنسية التي ما زالت تهز أركان الكنائس الكاثوليكية حتى اليوم.
وقدم الكاردينال الألماني توصياته لتغيير ما سمي بـ"التستر التاريخي عن الانتهاكات"، ثم شملت مهماته الأولى كبابا الفاتيكان عقد لقاءات شخصية، وليس عبر مندوبين، مع ضحايا الاعتداءات الجنسية، لكنه بخلاف سلفه يوحنا بولس الثاني واجه صعوبات كثيرة في التعامل مع وسائل الإعلام التي تناولت في شكل غير مسبوق ما يجري خلف أسوار الكنائس حول العالم، ونشرت تقارير عن ارتكاب قساوسة في الولايات المتحدة والدنمارك وألمانيا ودول أخرى اعتداءات جنسية على أطفال وشبان في عهد البابا يوحنا بولس الثاني وقبله، ما أثقل كاهل بنديكتوس السادس عشر.
ووصفت هذه التقارير بأنها "فضائح مروعة بلا بداية ولا نهاية، ما أضر في شكل كبير بسمعة الكنيسة الكاثوليكية، خصوصاً أن أساقفة ليبراليين ومحافظين تورطوا بها، وحصلت في بيئات عقائدية صارمة وأخرى أكثر تقدمية.
وانتقلت هذه الفضائح إلى المسّ بالبابا بنديكتوس السادس عشر نفسه حين كشفت تقارير صحافية عام 2022 أن هذه الفضائح طاولت كثيرين خلال توليه رئاسة أساقفة ميونخ بين عامي 1977 و1982، واتهم بأنه علم بوقوع هذه الحوادث، وبينها نقل كاهن "مثلي الجنس" إلى مصح للعلاج في ميونخ، وانتقدت عدم تدخله في مواجهة قرارات من كانوا أدنى منه رتبة.
وفي كل الأحوال، أثار كشف هذه الاعتداءات الجنسية نقاشات خلافية متواصلة منذ فترة بابوية بنديكتوس السادس عشر عن مسألة العزوبية بين القساوسة والكهنة. وتحدث معسكر المحافظين عن النسبية الأخلاقية التي تركت بصمتها على الكنيسة، بينما طالب آخرون ممن أطلق عليهم اسم "تقدميي الكنيسة" ولاهوتيون بصيغ واقتراحات منفتحة وإصلاحية في شأن صرامة قوانين الكنيسة الكاثوليكية الخاصة بالعزوبية، وعدم التستر على مرتكبي المخالفات.
فساد وغسل أموال
إلى ذلك، ظهرت عام 2012 فضيحة "فاتيليكس" التي كشفتها صحف إيطالية وصحيفة "لو فيغارو" الفرنسية، استناداً إلى تسريبات من داخل الكنيسة عن عمليات فساد وغسل أموال، رغم أنها لم تصل إلى مستوى الفضائح التي ضربت بنك الفاتيكان أمبروسيانو في ثمانينيات القرن العشرين.
واستجوبت مجموعة خاصة لمكافحة التجسس أنشأها البابا بنديكتوس السادس عشر أربعة كرادلة في شأن التسريبات، قبل أن ينفي المتحدث باسم الفاتيكان الأب فيديريكو لومباردي تورط كبار الأساقفة في الفساد، ومنح عطاءات لشركات بناء إيطالية تحديداً. وترافقت الفضيحة مع كشف وجود "لوبي المثليين" الذي استخدم الابتزاز لحماية أعضائه.
وفي 6 أكتوبر/ تشرين الأول من العام ذاته، دانت محكمة في الفاتيكان كبير الخدم السابق للبابا بنديكتوس السادس عشر، باولو غابرييل، بتهمة سرقة وثائق حساسة، وحكم عليه بالسجن لمدة عام ونصف العام. ودفع غابرييل لاحقاً بأنه تصرف بدافع حبه "العميق" للكنيسة الكاثوليكية والبابا الذي أصدر لاحقاً عفواً عنه، وعيّنه مسؤولاً لأحد المستشفيات قبل أن يتوفى عام 2020.
مواقف متناقضة
وفي الإجمال، اعتبر زمن ترؤس بنديكتوس السادس عشر بين الأكثر جدلاً في تاريخ الفاتيكان الحديث، وترافق مع تصرفات شخصية ومواقف عكست التناقض بين النوايا والممارسات. وعلى سبيل المثال توترت عام 2009 علاقته بدولة الاحتلال الإسرائيلي إثر رفعه "الحرمان الكنسي" عن أربعة أساقفة، من دون أن يعرف أن أحدهم كان أنكر المحرقة اليهودية (هولوكست)، وتحوّلت هذه الواقعة إلى مشكلة كبيرة تداولتها الصحافة.
مع "شبيبة هتلر"
أيضاً أتهم البابا بنديكتوس بالانتماء إلى شبيبة الزعيم النازي أدولف هتلر، ما اضطر المتحدث الرسمي باسم الفاتيكان حينها فريدريكو لومباردي إلى نفي الاتهامات، مشدداً على أن البابا شارك حين كان في سن السادسة عشرة في سرب دفاع جوي ألماني، وأن لا علاقة له بالعقائد النازية. لكن القضية لم تنته عند هذا الحد، إذ لاحقته الاتهامات الخاصة بعلاقته بالنازية، وبينها حين اقتبست صحف عنه قوله إنه "كان مجبراً على أن يكون عضواً في شبيبة هتلر خلال الحرب العالمية الثانية".
خلاف مع المسلمين
أيضاً نسفت محاضرة ألقاها بصفته بابا الفاتيكان في جامعة ريغنسبورغ في سبتمبر/ أيلول 2006، واعتبر مضمونها مهيناً للمسلمين، تصريحاته حول "حوار الأديان" والعلاقة الودية مع المسلمين، ما أحدث غضباً كبيراً في العالم الإسلامي، وكشف أن تأييده حوار الأديان مجرد شعار. ونقل البابا في المحاضرة اقتباساً عن إمبراطور بيزنطي من القرن الرابع عشر أورد أن "الإسلام لم يأت إلا بالشر للعالم، وانتشر بحد السيف".
وبعد أيام، أبدى بنديكتوس أسفه البالغ لرد فعل المسلمين على خطابه الذي قال إنه أسيء فهمه، علماً أن أكثر من 130 رجل دين مسلم تولوا الرد عليه، ودخلوا في سجالات معه، كادت أن تفجر العلاقة بين مسؤولي الديانتين. وبعد نحو شهر زار البابا تركيا لمحاولة رأب الصدع، وتضمن برنامجه صلاة في اتجاه الكعبة في الجامع الأزرق بإسطنبول، جنباً إلى جنب مع مفتي المدينة.
وفي كل الأحوال لا توضح وثائق وأرشيف الفاتيكان، بسبب السرية الصارمة، حقيقة أسباب استقالة البابا بنديكتوس السادس عشر عام 2013، فيما ربطها صحافيون مطلعون على ما يجري في أروقة الفاتيكان بالصراعات الداخلية وضعف مهاراته. وسيبقى ذلك وغيره في عهدة التاريخ القادم بعد رحيله، وربما رهن تسريبات تكشف ما لم يكشف.