يصر مسنون في تونس على العمل مهما تقدموا في العمر. تدفع الظروف المعيشية بعضهم إلى العمل من أجل تحصيل لقمة عيشهم، فيما يعمل آخرون لأنهم يحبون مهنهم التي تعلموها وأجادوها في فترات شبابهم، أو لأنهم لا يرغبون في اندثار هذه المهن، لذا يزاولونها بنشاط كبير حتى آخر رمق في حياتهم.
جلس الثمانيني علي الفطناسي على كرسي صغير، وأمامه مواد اعتاد بيعها مثل السجائر والحلوى. يقول لـ"العربي الجديد" إنه يبدأ عمله يومياً عند التاسعة صباحاً، ولا يغادر مكانه حتى السادسة مساء. يضيف: "صحيح أن المال الذي أجنيه من عملي ليس كثيراً، لكنه يكفيني لتأمين مصروفي واحتياجاتي اليومية البسيطة".
يعيش العم علي بعد وفاة زوجته مع ابنته التي يعود إلى بيتها ليلاً للنوم بعد انتهاء يومه في العمل الذي يجعله يشغل نفسه بشيء مفيد يؤمن عبره مصاريفه، لأنه لا يريد أن يكون عبئاً على أحد، علماً أنه قضى عدة سنوات من عمره كبائع متجول في الأحياء الشعبية لما يعرف بحلوى "دبوس الغول"، ثم اختار مع تقدمه في السن البيع في السوق، حيث تعرّف إلى تجار شيوخ وشباب، وشاهد عدة أحداث في السوق الذي مرّت فيه أجيال عدة. تزوج بعضهم وأصبح لديهم أحفاد، لكنهم يأتون خصيصاً لزيارته.
يؤكد أن العمل يبقى الحل الأفضل دائماً، ومصدراً مهماً لتأمين القوت اليومي، خاصة بالنسبة إلى المسنين الذين لا موارد أخرى لديهم، و"أنا سأبقى في هذه المهنة التي قضيت فيها أكثر من نصف قرن حتى آخر يوم في حياتي طالما أستطيع أن أعمل".
في سوق باب الخضراء بتونس العاصمة، اختارت السبعينية فتحية بيع الأكياس البلاستيكية، فهي تجوب السوق بابتسامة خجولة وملامح سمراء تروي وجع أم تجاهد في الحياة، بحثاً عن زبائن أثقلت كاهلهم المشتريات الغذائية من الخضر والغلال. وينتهي النهار بتجميعها "ملاليم" تعود بها فرحة، كونها أشبه بانتصار لها على واقعها الصعب.
تقول لـ "العربي الجديد": ليس لدي مورد رزق، وغالبية أبنائي عاطلون عن العمل كما لدي ابن من ذوي الإعاقة، لذا يجب أن أعمل، ولم أجد وسيلة أخرى غير بيع الأكياس لكسب بعض المال حتى لو كان قليلاً، وهذا العمل على بساطته يظل مهنة شريفة تضمن لي القليل من المال". وتشير إلى أن البعض يعطف عليها بسبب وضعها الاجتماعي الصعب، ويمنحها أموالاً إضافية تعادل عدة أضعاف سعر الكيس البلاستيكي.
من جهته، يؤكد محسن عبيد، الذي يبيع بيض السمك المجفف، أنه يعمل في هذه المهنة منذ نحو 65 عاماً، بعدما تعلمها خلال الخمسينيات من القرن الماضي عبر تجار يهود كانوا في هذا السوق. ويكشف أنه كان يبيع السمك، ثم تخصص في بيع بيض السمك نظراً إلى ندرته والطلب الكبير عليه. ورغم أنه بلغ الثمانين والتجاعيد ترسم خطوط وجهه، يصرّ عبيد على العمل للحفاظ على هذه المهنة التي يخشى اندثارها، كما يقول.
ويؤكد أنه معروف في المهنة التي حقق نجاحاً فيها، وأن مزاوليها يزورونه ليس من المحافظات التونسية فحسب، بل أيضاً من بلدان عربية وأجنبية. ويشرح أن بيض السمك المجفف باهظ الثمن ويباع في بلدان عدة بأسعار مرتفعة، أي بنحو 35 ديناراً (12 دولاراً) لكل 100 غرام.
ويلفت إلى أنه سيظل يعمل حتى آخر يوم في عمره، ولا يفكر في اعتزال المهنة والبقاء في البيت، لأنه يحب عمله.
ويرى أن تجفيف بيض السمك يتطلب دراية كبيرة قد لا يستطيع أي شخص أن يملكها بسهولة كي يحقق النجاح، لأنه لا يمكن تجفيف كل بيض السمك، ويجب اتباع مراحل معينة للحصول عليه. ويوضح أن أصحاب المطاعم الفاخرة يطلبون بيض السمك المجفف، مشيراً إلى أنه "يندر أن يعرف الشباب والجيل الحالي أسرار هذه المهنة".
في منطقة باردو، اختارت السبعينية زهرة بيع الخضر والغلال. ورغم أن هذه المهنة شاقة وتتطلب جهداً وقضاء عدة ساعات في العمل من أجل تلبية الطلبات، لكن لقمة العيش دفعت هذه المرأة المتقدمة في السن إلى العمل.
لا تملك زهرة بنية جسدية قوية، بل عزيمة قوية وإرادة صلبة، وتصر على أن المرء يجب أن يحصّل قوته بكرامة من دون أن يلجأ إلى الأهل والأحباب، "فظروف الحياة تدفع مسنين كُثراً للعمل. والمسن الذي لا دخل له ولا أبناء يؤمنون مصاريفه يظل عالة على المجتمع إذا لم يجتهد ويعمل".
وترى زهرة أن "العمل لا يعترف بسن، وأن خلف كل مسّن يعمل أو يجلس في سوق لبيع الخضر والغلال، أو يجر عربة صغيرة لبيع المواد الغذائية التقليدية، أو أي منتج مهما كان بسيطاً، هناك رحلة كفاح وقصة مليئة بالأمل والألم".