تحوّل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، إلى تاريخ مفصلي بعد عملية طوفان الأقصى، ليضاف إلى التواريخ العالمية التي تفصل الناس بين أخيار وأشرار. يحدث هذا في العالم أجمع، وفي مختلف القطاعات، ومن بينها جامعات كندا التي تمارس فيها محاكمات بحق المؤيدين لفلسطين، وبحق منتقدي السياسات الإسرائيلية، حتى الأكاديميين والطلاب اليهود منهم.
أقامت شركة "Diamond & Diamond Lawyers" دعوى قضائية بقيمة 15 مليون دولار ضد جامعتي بريتيش كولومبيا UBC وAMS (اتحاد الطلبة داخل الجامعة)، وجمعية طلاب الدراسات العليا (GSS)، واتحاد طلاب أوكاغونون (SUO)، زاعمة أنها فشلت في الوفاء بواجب الرعاية حيال الطلاب اليهود. وقدمت الشركة الدعوى نيابة عن اثنين من المدعين المجهولين؛ الأول طالب حالي في الجامعة والثاني خريج.
يقول نص الدعوى إن الجامعة واتحادات طلابها فشلت في المعالجة والتحقيق وتوفير التدريب والموارد الكافية للتعامل مع معاداة السامية، منتهكة "سياساتها وإجراءاتها في ما يتعلق بالحوادث المعادية للسامية في الحرم الجامعي.
وفي الجامعة ذاتها، وزع مقاول مستقل على صلة بـ "Hillel BC" التي تعمل على تعزيز الحياة اليهودية في الحرم الجامعي وخارجه، ملصقات "مسيئة"، كتب عليها "أنا أحب حماس"، وذيلت بتوقيع مركز العدالة الاجتماعية في الجامعة. وكتبت الجامعة أن الملصقات عرضت أعضاء مركز العدالة الاجتماعية في الجامعة للنقد اللاذع والحقد، وهو أمر غير مقبول، الأمر الذي نفوه نفياً قاطعاً.
حادثة أخرى شهدتها جامعة ألبرتا الكندية، التي عمدت إلى طرد مديرة مركز الاعتداء الجنسي في الجامعة سامانثا بيرسون، بعدما وقعت على رسالة مفتوحة صاغتها نائبة البرلمان عن أونتاريو سارة جاما، تشكك في ما إذا كانت النساء الإسرائيليات قد تعرضن للاغتصاب والعنف الجنسي خلال هجوم حماس في السابع من أكتوبر. وقّعت بيرسون على الرسالة نيابة عن مركز الاعتداء الجنسي بجامعة ألبرتا، ومضمونها أن الاتهامات بأن الفلسطينيين مذنبون بارتكاب أعمال عنف جنسي "لم يجرِ التحقق منها".
وقال رئيس الجامعة بيل فلاناغان: "أريد أن أوضح أن وجهات النظر والآراء الشخصية للموظفة السابقة لا تمثل بأي حال من الأحوال آراء جامعة ألبرتا"، مضيفاً أن "الجامعة تقف بحزم وبشكل لا لبس فيه ضد التمييز والكراهية على أساس الدين والعرق والأصل القومي والفئات المحمية الأخرى". وأوضح: "ندرك الأضرار التاريخية والمستمرة لمعاداة السامية ونلتزم بذل كل ما في وسعنا كجامعة للنهوض بعالم خالٍ من التحيز والتمييز".
لم ينجُ حتى الأطباء الذين تضامنوا مع الفلسطينيين. أُطلقت عريضة داعمة للطبيب المقيم في سنته الرابعة ييبينغ جي، الذي منع من استكمال برنامجه من قبل كلية الطب بجامعة أوتاوا، وذلك على خلفية دعمه القضية الفلسطينية على وسائل التواصل الاجتماعي، منتقداً الفصل العنصري الذي تمارسه إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني والاستعمار الاستيطاني.
وفي السادس من نوفمبر الجاري، وصفت رسالة مفتوحة نُشرت على الإنترنت، وقعها ما يزيد على 440 شخصاً من المجتمع القانوني الكندي، أي انتقام من المحامين وطلاب القانون الذين يعبّرون عن دعمهم لتحرير الفلسطينيين بأنه "مكارثية جديدة".
لكنّ ما تشهده الجامعات الكندية من تضييق على الداعمين للقضية الفلسطينية أو لتحرر فلسطين أو لمنتقدي الممارسات الإسرائيلية ليس جديداً. ففي عام 2020، على سبيل المثال لا الحصر، ألغت كلية الحقوق في جامعة تورنتو عرض عمل لمرشحة لإدارة "برنامج حقوق الإنسان الدولي" في الكلية الحقوق، استجابة لضغط قاضٍ بشأن أبحاثها وعملها المتعلق بانتهاكات الحكومة الإسرائيلية للقانون الدولي. قرار دفع رئيس اللجنة الاستشارية لكلية الحقوق بالبرنامج، وعضواً آخر في لجنة التوظيف إلى الاستقالة، تبعهما باقي أعضاء اللجنة الاستشارية بالكلية.
وكشف تقرير مؤلف من 106 صفحات، أصدرته منظمة الأصوات اليهودية المستقلة (IJV) في أكتوبر 2022، أن الأكاديميين والطلاب والناشطين يواجهون القمع والمضايقات والترهيب والانتقام بسبب آرائهم المؤيدة للفلسطينيين. ورأى عدد من الذين أجريت معهم مقابلات أن البيئة الأكاديمية في كندا غير مرحبة بأولئك الذين يعملون في مجال الدراسات الفلسطينية على وجه خاص. في عام 2009، حظرت عدة جامعات ملصقاً يُظهر طائرة هليكوبتر تحمل اسم "إسرائيل"، وهي تطلق صاروخاً على طفل صغير يحمل دمية دب مكتوباً عليها "غزة".
ويشرح أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الحديث في جامعة بريتش كولومبيا، هشام صفي الدين، كيف أصبح بعض الأكاديميين في كندا أكثر انخراطاً في السياسة. ويقول إنه "منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية، بات هناك انخراط أكبر من قبل مختلف الإدارات والمؤسسات في الدعم غير المشروط لكل من هو أوكراني". إلا أن هذا لم يأتِ من فراغ، بل سبقه تغيير في السياسة الكندية. ويوضح هنا أن كندا، وهي دولة استعمارية، على غرار كل من أميركا وأستراليا وإسرائيل، والتي قامت على طرد السكان الأصليين وتصفيتهم وإبادتهم، شهدت خلال السنوات الأخيرة اعترافاً رسمياً ببعض الممارسات التي أدت إلى قمع السكان الأصليين. في هذا الإطار، انبثقت لجنة تقصي الحقائق والمصالحة، وأصبحت هذه السياسة الجديدة التي اتبعتها الحكومة الليبرالية تطالب بتغيير المناهج وتفعيل الأبحاث المتعلقة بكشف ما تعرض له السكان الأصليون في البلاد.
يتابع قائلاً: "إن هذه السياسة أدخلت على الجامعات مفهوم معاداة الاستعمار، وخصوصاً لدى كليات العلوم الإنسانية والاجتماعية، ودفعت الأساتذة إلى إطلاق أحاديث مسيَّسة في إطار أكاديمي، عن حقوق السكان الأصليين وحقوق السود والأقليات المهمشة في المجتمع. وبالتالي، بات بعض الأساتذة أكثر انخراطاً في قضايا نضالية من باب الأكاديميا والعلم. ثم جاءت حرب أوكرانيا، وصدرت الكثير من البيانات الداعمة لأوكرانيا، وخلقت فرص عمل للأوكرانيين، وباتت هناك بيئة حاضنة ومتعاطفة، الأمر الذي خلق توقعات لدى التلاميذ في قضايا حقوق الإنسان والاستعمار والحروب وما إلى ذلك. ويشبه ذلك ما كان موجوداً في ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي". ويوضح أنه "في ما يتعلق بفلسطين، لطالما شهدت الجامعات نشاطات مقاطعة للكيان الإسرائيلي، لكن معظمها كان ضمن إطار محاضرات، إلا أنها لم تكن تعقد بالتوازي مع درجة العنف الذي نشهده الآن. لكن ما بعد 7 أكتوبر، شهدت البلاد موجة تعاطف مع الفلسطينيين، ما أثار جنون الجامعات والمنظمات الصهيونة المعنية بالأكاديميا في الجامعات والمدارس والنقابات. وكانت أحداث 7 أكتوبر الشماعة التي استخدمت لتبرير القمع. وأصدر بعض رؤساء الجامعات بيانات تدين عملية حماس، علماً أن هذا أمر غير مسبوق، إذ ليس من شأن الجامعات الإدلاء بموقف حيال حدث سياسي".
وهنا، يتحدث صفي الدين عن "استثنائية الفلسطينيين"، لافتاً إلى أن "الكثير من الليبراليين في كندا الذين يدعمون القضايا التحررية وحقوق السود والمثليين والنساء، يصمتون في ما يخص القضية الفلسطينية أو أحياناً يدعمون الصهاينة ويبررون جرائم إسرائيل. كذلك تستخدم البيانات الجامعية غزة كأحد أطراف النزاع، في محو كامل لفلسطين كأرض وشعب ومشروع دولة". يضيف: "ممنوع الحزن أو التعاطف مع المقاومة، وإلا يتهم الفرد بالإرهاب أو معاداة السامية، التي تتحول إلى أداة لقمع مناصرة القضية الفلسطينية. والشيطنة هنا تطاول حتى من يريد أن ينقل الصورة البشعة التي تشهدها غزة، منها قتل الأطفال. وفي النتيجة، فإن الرواية الإسرائيلية متبناة تماماً في كندا، ويغيب الحديث أو العمل على مناهضة العنصرية بحق الفلسطينيين".
عام 2022، كتب أستاذ علم الاجتماع في جامعة ماونت رويال في كالغاري في كندا، مهند عياش، في موقع "الجزيرة"، أن الجامعات الكندية ليست مهتمة بتسمية العنصرية المناهضة للفلسطينيين، فضلاً عن معالجتها. ليس هذا فحسب، إذ إن الجامعات الكندية تنخرط مباشرةً في العنصرية المناهضة للفلسطينيين عندما تعتبر المطالب الفلسطينية بالحرية والتحرر من خلال المقاطعة ليست فقط غير جديرة بالاعتبار، ولكنها في الأساس مطالب عنيفة ومتعصبة.