انهار التعليم الجامعي في المناطق السورية الخاضعة لسيطرة "داعش"، وكان أشد انهياراً في صفوف الطالبات، وقلة أولئك الذين تابعوا تحصيلهم الجامعي، إذ بات دون ذلك مصاعب وأهوال لا يجسر عليها إلا ندرة من الطلاب المحظوظين. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ المعاناة بدأت قبل سيطرة "التنظيم" لكنّ الأمر لم يصل درجة الانهيار.
تضرر بداية أولئك الطالبات اللواتي انخرطن في الثورة أو انخرط ذووها فيها بشكل مباشر. هند، طالبة سنة ثانية آداب من ريف منبج، تقول في حديثٍ إلى "جيل العربي الجديد": "لم أجرؤ حقيقة الذهاب لتقديم الامتحانات نتيجة خروجي بالمظاهرات، ومساهمتي بالعمل الطوعي".
أما فاطمة، سنة رابعة هندسة، فالأمر يتعلق بإخوتها. تقول: "خشيت الذهاب للجامعة فأنا من عائلة معروفة في منبج، وثلاثة من عائلتي حملوا السلاح وكان لهم قصب السبق في العمل العسكري ضد النظام"، وبقيت هذه الشريحة محدودة نوعاً ما.
ويأتي العامل المادي ثانياً؛ إذ ارتفعت الأسعار بشكل جنوني، سواء على صعيد السكن، أو على صعيد المواصلات نتيجة انقطاع الطرق، وسلوك طرق جديدة طويلة. تقول منال، طالبة أدب فرنسي من ريف حلب الشرقي:
"دخل والدي الضعيف لا يمكّنني استئجار بيت في حلب، ولا أستطيع النزول من وإلى حلب بعد ارتفاع أجرة السرفيس، فضلاً عن مصاريف القرطاسية والأقساط". ورغم ضيق الحال، استمرت معظم الطالبات بالدراسة، واقتصر ذهاب معظمهن فترة الامتحان لتخفيف العبء المادي.
ازدادت الأمور سوءاً مع سيطرة "داعش" مطلع عام 2014؛ حيث بدأت الأمور تتغيّر جذرياً، فقد بدأ "التنظيم" بالتضييق على الجميع ولا سيما الطالبات، وعدّ ذهابهن للجامعات الحكومية فسقاً ومجوناً. يقول الناشط الإعلامي أبو علي الحلبي: "بدأ "داعش" مشروعه على شكل مضايقات وتهديدات كلامية، ووعد بتعليم جامعي خاص بـ "الدولة الإسلامية"، لكننا صُدمنا لاحقاً بتعطيل المنظومة التعليمية كلها".
وبدأت هذه الممارسات والتدخلات في فرع الجامعة في الرقة؛ ما حقق مأرب النظام الذي أغلق الجامعة. تقول نجوى سنة ثالثة أدب عربي: "سُرَّ النظام و"داعش" بقرار الإغلاق، فالمظاهرات والاحتجاجات في الجامعة أرّقت التنظيم، والنظام ارتاح من عبء مالي، ودفعنا -الطلاب- الثمن".
لم يقتصر الأمر على الجامعات الحكومية، إذ لم تكن الجامعات الخاصة بمنأى عن الإغلاق، تقول هبة طالبة في جامعة الاتحاد فرع منبج: "أوقفت تعليمي عقب سيطرة "داعش" على الجامعة وتحويلها إلى سكن للمهاجرين ومقر عسكري ليقوم التحالف والنظام لاحقاً بقصفها وتدميرها، ولا أستطيع الذهاب لفرعها بحلب".
وفشلت كل وعود "داعش" للأهالي بفتح جامعات أفضل من جامعات النظام، تتابع هبة: "وكل الوعود بإيجاد البديل كانت سراباً، فالمعلمون بالمراحل الدنيا رفضوا بمعظمهم التعامل مع "داعش"، فكيف بأساتذة جامعة؟ وجامعة ابن خلدون التي قبل بافتتاحها أغلقها التنظيم بعد عدة أشهر" لعجزه عن تأمين كوادر تدريسية، ناهيك عن الهاجس الأمني والعامل المادي.
لعبت العادات الاجتماعية عاملاً معززاً في ترك الطالبات للجامعة؛ إذ إن المناطق التي يسيطر عليها "داعش" تتسم بأنها مناطق محافظة، وتخاف كثيراً على سمعة المرأة، تقول فريدة سنة ثالثة علوم من جرابلس:
"كنت أسكن في السكن الجامعي وأذهب آخر الأسبوع لزيارة أهلي وأحياناً أسبوعين، لكن بعد إخلاء السكن الجامعي رفض والدي أن أشارك زميلاتي بشقة ولا سيما أنه لم يعد ممكناً المجيء لجرابلس".
والد فريدة مثال لكثيرين أجبروا بناتهم على ترك الجامعة خوفاً عليهن وعلى سمعتهن. يقول أبو نجلاء: "لم أعد أؤمّن على أولادي الذكور في مناطق النظام فكيف بناتي، سمعنا قصص تشيب لها الولدان عن حالات اعتقال وخطف بل واغتصاب، ولا نريد المغامرة والندم لاحقاً".
وانقطع عدد من الطالبات على أمل عودة الأمور سريعاً، تقول فاطمة محمد من منبج: "كنت في السنة الثانية عندما اشتعلت المظاهرات في جامعة حلب، وبدأت حملات الاعتقال، وانقطعت على أمل صلاح الأمور لكنها زادت سوءاً، وذهبت الجامعة".
يبدو لافتاً رغبة بعض الطالبات ترك التعليم الجامعي؛ ففريال لم تكمل تعليمها الجامعي بطيب خاطر حيث خضعت لدروة تأهيل معلمين بايعت بعدها التنظيم، وباتت تعمل معه، تقول صديقتها: "تأثرت فريال بإخوتها الذين بايعوا داعش مبكراً، وقد انقلبت رأساً على عقب، فداعش تملك أسلوباً عجيباً بالإقناع والتغيير معاً".
وترتب على ذلك نتائج كارثية سيحمل المجتمع السوري مستقبلاً تبعاتها السلبية طويلاً؛ إذ بدأ الجهل يعود للمجتمع بخطوات سريعة لم يعتدْها السوريون في صفوف الجميع. يقول المربي أبو فيصل من ريف حلب الشرقي: "تمكن محمد ابني الإفلات من قرارات داعش، وعندما أشتاق إليه أذهب لزيارته كل كم شهر، أما ابنتي فلم أستطع تهريبها وإذا استطعت لا قدرة مالية لي، فمحمد يسكن مع شباب ويعمل ليصرف على نفسه".
وعادت ظاهرة الزواج المبكر، وغدا الزواج الحلم الأول لكل فتاة، فلم يعد ثمة أحلام ومستقبل يمكن أن يتحققا ولا سيما بعد انتشار ظاهرة العنوسة. وتزداد المخاطر كلما طالت الأزمة السورية، طال أمد سيطرة التنظيم، وصَعُبَ مع هذا العلاج لاحقاً.
تقول وفاء من ريف حلب الشرقي: "بعد إصدار داعش قراراً يمنع سفر النساء دون محرم، اضطر والدي للذهاب معي خلال فترات الامتحان حيث كان يوصلني ويعود أدراجه ثم يحضرني"؛ فضاقت الدائرة، وأصدر لاحقاً قراراً يمنع سفر النساء دون سن الأربعين إلا للعلاج وفق تقارير طبية مختومة ومعتمدة من داعش.
تتابع وفاء: "وعندما صدر قرار المنع التالي جلست في البيت، وأخذت حسبي الله، فالأمور خارج السيطرة" ولم يقتصر الأمر على الطالبات، بل شمل الطلاب أيضاً، فمنع من دون 45 الذهاب لخارج مناطق سيطرته إلا بموجب شروط ضيقة صعبة.
وانحصر التعليم في فئة محدودة جداً مقتدرة مادياً أو محظوظة؛ فساجدة طالبة هندسة من ريف حلب الشرقي تدرس في جامعة دمشق، لم تزر أهلها منذ ثلاث سنوات، تقول لزميلاتها: "أصبر لفراق أهلي وقريتي أفضل من ضياع مستقبلي".
وتعد ساجدة محظوظة، فلديها أخت في دمشق تسكن عندها، لكنها تقول إن "الحياة كضيفة صعبة جداً ولكن ظروفي لا تسمح لي بالعيش لوحدي سواء اجتماعياً أو مادياً" وباتت من تريد إكمال تحصيلها الجامعي البقاء في الغربة حتى نهاية المشوار الجامعي، فالسفر خارج مناطق داعش صعب جداً محفوف بالمخاطر من الجانبين سواء من داعش أو النظام الذي ينظر بعين الريبة لكل القادمين من المناطق خارج سيطرته وخاصة مناطق داعش.
تقول جميلة: "عانيت كثيراً لأني من مناطق داعش، فأسمع أشياء حقيقية عن ظلم داعش وجهلها، وأحياناً خيال لكني لا أستطيع الكلام فهاجس الخوف يربطني، وأشعر أنهم يريدون استدراجي بالكلام فألوذ بالصمت".
ولم يعد بمقدور الفتيات لاحقاً الحصول على الخيارات الصعبة آنفاً، وتحول التعليم الجامعي فعلاً لحلم بعيد المنال عقب إغلاق داعش العامين الماضيين كافة المدارس في مناطق سيطرته، فمن يريد التعليم عليه الهرب في عمر مبكر من مناطق التنظيم
(سورية)