يُسابِق السبعيني الفلسطيني رشاد الهسي الوقت لإتمام إصلاح شبكة صيد تمزقت بفعل مُلاحقة الزوارِق الإسرائيلية للصيادين في عرض البحر، في مهنة قديمة توارثها عن والده وأجداده، يُطلق عليها فلسطينيا اسم "رتل"، أو "غَزل الشبك".
ويعمل الهسي في هذه المهنة مُنذ العام 1956، وتتنوع أنواع الشِباك، المُخصصة لمُختلف أنواع الأسماك، إذ يتم تخصيص الشِباك ذات الفتحات أو "العيون الصغيرة" لصيد الأسماك الصغيرة، وتزداد فجوة وقُطر الفتحات، وفقًا لأنواع الأسماك، إذ يتم تخصيص الشباك الكبيرة لصيد الأسماك التي يتراوح وزنها من 10 إلى 15 كيلوغراماً.
وتُعتبر مهنة رتل الشبك من المِهن الفلسطينية المتوارثة مُنذ قديم الزمن، والتي لا تزال تُحافظ على رونقها كونها مهنة قديمة، إلى جانب أسباب تتعلق بتأثيرات الحِصار الإسرائيلي المتواصِل على قطاع غزة منذ 17 عاما، وفي مقدمتها اتجاه شريحة كبيرة من الصيادين إلى إصلاح الشِباك المُعطلة بفِعل المُلاحقة الإسرائيلية المتواصلة لهم في عرض البحر، ومُصادرة مُعداتهم وتمزيق شِباكهم، علاوة على منع دخول نسبة من مُعدات الصيد ما يزيد من ثمنها، إذ يصل ثمن شبكة الصيد المستوردة (حجم صغير) إلى حوالي ألف وخمسمائة شيقل. (قرابة 457 دولاراً أميركياً).
وبشكل طولي، يُمسِك الهسي بطرف الشبكة بيده اليُسرى، وينسِج الخيوط بيده اليُمنى، التي تُمسِك صنارة الغزل النحاسية، فيما يُثبِت الطرف الآخر للشبكة بأصابِع قدمه اليُمنى، في عملية مُتكاملة أساسها التركيز والمهارة والخِبرة، تُنتِج في النهاية شبكة مُتراصة "العيون" والفتحات، التي لا يُمكن أن تُخطئ سمكة.
ويقول الهسي، والذي حَدّث "العربي الجديد" عن مهنته، دون أن تزوغ عينه عن الشبكة التي يحيكها لدقة فتحاتها المُتراصة، إن مهنة رتل الشبك قديمة، وقد تعلم أسسها على يد والده، والذي تعلمها بدوره من والده الأول، فيما وَرّثها لأبنائه وأحفاده.
وبدأت صِناعة الشِباك في قِطاع غزة يدويًا، وفق قول الهسي، إذ كانت أُسر الصيادين تتجمع حول الشبكة إلى أن يتم نسجها بشكل كامل، حتى حَلّ استيراد الشبك من الخارج، وقد تحولت المهنة في الوقت الحالي إلى ترقيع الشِباك المُتأثرة بفعل العوامل الطبيعية، أو بفعل ممارسات الاحتلال الإسرائيلي ضد الصيادين ومعداتهم في عرض البحر، والتي تكون غالبًا ضمن المساحة المسموح بها، حيث تُلاحِق الزوارق الإسرائيلية مراكب الصيد ضمن حدود (6 أميال بحرية) رغم اتفاقية "أوسلو" الموقعة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، والتي تُتيح للصيادين التوغل حتى عمق 20 ميلا بحريا.
وتتنوع أحجام وأصناف الشِباك، المُخصصة لأصناف عديدة من الأسماك، وذلك وفقًا للحاجة، وحجم القوارب المُستخدمة في الصيد، إذ تحتاج القوارب الصغيرة إلى شِباك صغيرة يصل طولها إلى ستة أمتار، ويزداد الحجم وفقًا لزيادة حجم القوارب، وقد يصل بعضها إلى ما يزيد عن 60 مترًا، بعرض قد يتجاوز 200 متر، وتختلف أصناف السمك التي يتم اصطيادها عبر الشبك، وتبدأ بسمك البذرة صغير الحجم، مرورًا بسمك الطراخون، والسردين بمختلف أحجامه، والسكمبلة، والغزلان، وغيرها.
أما الفلسطيني محمد الهسي (70 عاما)، فيقول إن حكايته مع البحر بدأت عام 1968، بعد عام من الحرب، إذ اضطر لترك المدرسة لمُعاونة والده في الصيد، وفي رتل الشبك المهترئ، وقد اكتسب الخبرة الكافية ليصبح قادرًا على إصلاح أي نوع من الشبك، مهما كبر حجمه، فيما أورث خبرته إلى أبنائه، الذين يُساعدونه في العمل وقت الحاجة.
ويُبين الهسي لـ "العربي الجديد" أن غلاء أسعار الشباك يدفع الصيادين إلى إصلاح وترقيع شباكهم المُمزقة بفعل عوامل مختلفة، وذلك لعدم قدرتهم على شراء الشباك الجديدة، حيث يصل سعر الكيلو الواحد من الشبك إلى 50 شيقلاً (13 دولاراً أميركياً)، فيما تصل الشباك الصغيرة إلى 20 كيلو، ويتراوح وزن بعض الشِباك الكبيرة من 100 إلى 400 كيلو.
ويقول الصياد مازن أبو ريالة (52 عاما)، والذي يُشارك الهسي في غزل الشبك، إن مهنة الغزل مرتبطة بشكل كبير بمهنة الصيد، وتُعتبر المكمل الأساسي لعمل الصياد، فالشبك المُهترئ يُعتبر شريك الصياد في رزقه "على اعتبار أن السمك المُفلت من فتحات الشِباك، يُعتبر خسارة من قيمة رحلة الصيد".
ويتخذ النساجون من مراكبهم وأرصفة الميناء مكانًا لنسج أو غزل الشبك المهترئ أو الممزق، لإصلاحه وإرجاعه مُجددًا إلى القوارب باستخدام خيوط الحرير أو خيوط النايلون، فيما تتواصل مُحاولات إصلاح الشبك الممزق إلى ثلاث أو أربع سنوات، وهو العُمر الافتراضي للشباك المُستخدمة في الصيد، والتي يستوجب بعدها تغيير الشبك بشكل كامل.
في الإطار، يُبين رئيس الجمعية التعاونية للصيادين مروان بكر أن مهنة رتل الشبك، متوارثة، وتخدم كافة الصيادين في قِطاع غزة، وعددهم نحو 4500، ويعتمد العمل فيها على إصلاح الأعطال التي تتسبب فيها الصخور، والظروف المناخية، إلى جانب مُضايقات الاحتلال الإسرائيلي، والتي تجتمع على مُعدات الصيادين، وشِباكهم، وتُلحق بها الضرر.
ويلفت بكر لـ "العربي الجديد" إلى أن المهنة ترتكز على اهتمام الصياد بإصلاح شِباكه بشكل دوري، حِفاظًا على عمله، والذي يُعتبر مصدر رزقه الوحيد، خاصة في ظل منع الاحتلال الإسرائيلي لدخول عدد من المعدات الخاصة بالصيد، ومنها الشبك، إلى جانب الغلاء الكبير في أسعار الشِباك المستوردة.
ويستأجر بعض الصيادين أشخاصاً لرتل الشِباك المهترئة والممزقة، فيما يقوم آخرون بترقيعها يدويًا، وفق حديث بكر، الذي لم يُخفِ الواقع الصعب الذي يمُر به الصياد الفلسطيني، في ظل تواصل الحِصار الإسرائيلي على المُعدات، كذلك الطوق البحري، الذي يُلاحِقهم على مدار الوقت في قوت يومهم.