على خلاف دول أخرى بدأت تتعايش مع فيروس كورونا، لا تزال الصين منذ أكثر من عامين تتبع نهجاً متشدداً في التعامل مع الجائحة ينطوي على إجراءات صارمة تشمل إغلاقات متكررة للمدن وفرض حجر صحي على ملايين السكان، الأمر الذي تسبب في تذمر شعبي كبير وفوضى عارمة طرحت تساؤلات عن أسباب تمسك الحكومة بنهج صفر كوفيد، على الرغم من فشل هذه السياسة في وضع حد للوباء.
آخر المناطق التي ضربها الوباء في الصين هي مدينة شينزن الجنوبية التي تشهد منذ مطلع سبتمبر/ أيلول الماضي إغلاقات متكررة وعزلاً عن باقي المدن الصينية بسبب زيادة حالات الإصابة بكورونا خلال الأسابيع الماضية. وتعد هذه المرة الثانية خلال العام الحالي التي تخضع فيها المدينة البالغ عدد سكانها 17 مليون شخص، لإغلاق تام. وكانت قد خضعت في شهر مارس/ آذار الماضي للإجراء نفسه بسبب تفاقم أزمة كورونا وظهور بؤر جديدة للفيروس في أحياء سكنية عدة.
وبموجب التعليمات الحكومية، أوقف عمل وسائل النقل والمواصلات العامة في المدينة، وأغلقت جميع الشركات والمؤسسات، وأجبر الموظفون على العمل من منازلهم، بالإضافة إلى حثهم على إجراء اختبارات الحمض النووي يومياً. وشكلت لجان شعبية في كل مجمع سكني لمراقبة حركة السكان وتتبع حالتهم الصحية عبر تطبيق "ويه كانغ" المعروف باسم "كيو آر". وتظهر نتيجة فحص كورونا في اليوم التالي عبر التطبيق مصحوبة بعداد زمني يبدأ من آخر اختبار للمستخدم. وفي وقت سابق، كان يمكن للأفراد التنقل والدخول إلى جميع الأماكن المغلقة في المدينة خلال 72 ساعة من إجراء الاختبار. أما اليوم، وفي ظل الإجراءات الصارمة، يجب ألا تتجاوز مدة الاختبار 24 ساعة، الأمر الذي أدى إلى طوابير كبيرة أمام اللجان الصحية طوال اليوم، وأصبح اختبار كورونا ضرورة ملحة كي يتمكن الأفراد من قضاء حاجاتهم اليومية بصورة طبيعية.
وبحسب منصة "تساي شين" الاستقصائية في بكين، وضعت 73 مدينة صينية (تشمل 15 عاصمة إقليمية) تحت الإغلاق الكامل أو الجزئي بسبب جائحة كورونا منذ أواخر أغسطس/ آب الماضي، الأمر الذي أثر على أكثر من 300 مليون شخص من قاطني هذه المناطق. وذكرت نشرة العمل الصينية، وهي منظمة غير حكومية مقرها هونغ كونغ، وتعنى بشؤون العمال الصينيين، أنه منذ ظهور فيروس كورونا نهاية عام 2019، خضعت حوالي 250 مدينة صينية لإغلاقات جزئية أو شاملة، أي ما يمثل حوالي 38 في المائة من مدن البر الرئيس الصيني. ويقطن هذه المدن نحو 700 مليون صيني، ما يعني أن حوالي نصف سكان الصين خضعوا لحجر صحي إلزامي.
وكان العديد من السكان قد توقعوا أن تبدأ البلاد في رفع القيود على السفر ووقف عمليات إغلاق المدن المتكررة، واختبارات الحمض النووي اليومية، بعد تصريحات حكومية صدرت في شهر يوليو/ تموز الماضي، تحدثت عن تخفيف إجراءات الرقابة، وتقليص مدة أيام الحجر للمسافرين القادمين من خارج الصين، ولكن سرعان ما عادت السلطات إلى الإفراط في التشديد على المدن والمناطق التي تشهد تسجيل حالات إصابة جديدة بفيروس كورونا. في أعقاب ذلك، كثرت التعليقات والفيديوهات التي تظهر مواطنين غاضبين تحدثوا عن مبالغة الدولة في إجراءاتها على مواقع التواصل الاجتماعي، وقالوا إن الأمر يتجاوز حدود الخوف على صحة المواطنين، ويخضع لاعتبارات سياسية لها علاقة بصورة الحزب الشيوعي الصيني أمام الشعب والعالم، وخصوصاً أن دولاً غربية كانت قد انتقدت سياسة صفر كوفيد والطريقة التي يدير فيها الحزب الأزمة التي تسببت بها جائحة كورونا.
ولعل أبرز صور التذمر والاحتجاجات الشعبية برزت في مقاطعة سيتشوان جنوب غرب البلاد، إذ تعرضت المقاطعة في الخامس من سبتمبر/ أيلول الماضي لزلزال أدى إلى وفاة 82 شخصاً، وقد تزامن حدوث الزلزال مع فرض حجر صحي على عاصمة المقاطعة شنغدو البالغ عدد سكانها 21 مليون نسمة. وحين حاول عدد من السكان الخروج من المدينة بحثاً عن مكان آمن، اصطدموا بقوات الشرطة التي رفضت خروجهم التزاماً بالإجراءات الوقائية من فيروس كورونا.
على ضوء ذلك، خرج السكان في تظاهرات متفرقة للمطالبة برفع الحجر وهتفوا ضد سياسة صفر كوفيد، وكتب ناشطون على حساباتهم في موقع ويبو المعادل الصيني لموقع تويتر، أن الحكومة المحلية لا تقيم وزناً لحياة الناس، ولا تسعى إلا إلى تجميل سياسة صفر كوفيد أمام الرأي العام بما يخدم أجندة الحزب الشيوعي، ولكن سرعان ما اختفت مثل هذه التعليقات بسبب الرقابة الصارمة التي تمارسها السلطات الصينية على الفضاء الإلكتروني.
ويقول تيان شو ووي، وهو موظف في شركة تقنية بمدينة شينزن جنوب البلاد، لـ "العربي الجديد": "سئمنا الإغلاقات المتكررة والاختبارات اليومية. بات الأمر روتيناً يومياً مملاً ومزعجاً"، موضحاً أن متطلبات سياسة صفر كوفيد صارمة للغاية، وخصوصاً ما يرتبط بالاختبارات اليومية للمواطنين وعدم السماح لهم بالتنقل في حال تجاوزت المدة الزمنية للكود (رمز) الصحي الخاص بكل فرد 24 ساعة. يضيف أن ذلك يشكل عبئاً كبيراً على السكان، فهو يضطر إلى الخروج مبكراً من عمله كي يستطيع إجراء الاختبارات نظراً لطول الطوابير أمام اللجان الصحية. ويستدعي الأمر أحياناً الانتظار مدة ساعة كاملة من أجل إجراء الفحص.
ويلفت إلى أنه في إحدى المرات لم يتمكن من إجراء الاختبار بسبب ضغط العمل، ليتجاوز رمزه الصحي مدة الـ 24 ساعة. وفي اليوم التالي لم يُسمح له باستخدام وسائل المواصلات واضطر للذهاب إلى عمله سيراً على الأقدام، وعند مدخل الشركة استخدم رمزاً مزوراً للالتفاف على القواعد الصارمة من أجل مباشرة عمله.
من جهتها، تقول الناشطة الحقوقية المقيمة في هونغ كونغ شياو لين إن سياسة صفر كوفيد أشبه بالحرث في البحر، لأنها وبعد مرور أكثر من عامين لم تحقق شيئاً ولم تضع حداً لجائحة كورونا. تضيف في حديثها لـ "العربي الجديد": "يبدو أن السلطات المحلية تسارع الزمن للقضاء على العدوى بأي ثمن مع بدء العد التنازلي لمؤتمر الحزب الشيوعي في منتصف شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، ومن المقرر تمديد ولاية الرئيس شي جين بينغ لفترة ثالثة".
ولا يرغب الحزب، على حد قولها، بأن تكون هناك أي منغصات تتعلق بالحالة الوبائية، وسيسعى إلى إبقاء الأوضاع ضمن نطاق السيطرة حتى ولو كان ذلك على حساب حرية الناس وانتهاك حقوقهم كما حدث مؤخراً في مدينة شنغدو حين مُنع السكان من الفرار بسبب الزلزال لأن ذلك يتعارض سياسة صفر كوفيد الحكومية.
وتلفت شياو لين إلى أن أكثر ما يثير الاشمئزاز هو الدور الذي يمارسه الإعلام الرسمي في التسويق لسياسة الدولة، واعتبارها الطريق الأنجع والوحيد للتعامل مع الجائحة. وتوضح أن الإعلام لعب على وتر المشاعر القومية، من خلال تحميل الغرب مسؤولية انتشار الوباء، وأن ذلك يأتي ضمن خطط وحروب بيولوجية تستهدف نهوض الصين، بالإضافة إلى إجراء مقارنات مستمرة بين النموذج الصيني ونظيره الغربي وتصوير ذلك على أنه صراع بين الشيوعية والرأسمالية.
وحول مصير سياسة صفر كوفيد، يقول الباحث في معهد الدراسات والعلوم الإنسانية بمقاطعة فوجيان تشين يونغ، إن "الصين لا تزال تفرض في معظم المناطق سياسات صارمة تتعلق بالحجر الصحي والاختبارات اليومية، على الرغم من الشكاوى العامة، ما يشير إلى أنه لا مجال للتراجع عن سياسة صفر كوفيد خلال الأشهر المقبلة. ويوضح أن الأمر يتعلق بالخطوط والسياسات العريضة للدولة في إدارة الأزمات، وذلك لا يمكن أن يخضع لأهواء السكان ورغباتهم.
يضيف: "نعم هناك تذمر شعبي كبير، وقد تكون هناك مبالغات في تطبيق الإجراءات، ولكن هذا لا يعني أن الدولة كانت مخطئة على الأقل من وجهة نظر الحزب. وبالتالي، فإن إيقاف العمل بهذه السياسة منوط بتطور الحالة الوبائية ومدى تحقيق الأهداف التي وُضعت من أجلها، والمتمثلة بتصفير عدد الإصابات اليومية وعودة الحياة اليومية إلى مجراها الطبيعي".
وحول نموذج الدول الغربية في التعايش مع الفيروس، ومدى تأثير ذلك على صناع القرار في البلاد، يقول تشين يونغ: " ما يصلح في المجتمعات الغربية قد لا يتناسب مع الصين. نتحدث عن دولة قارية بتعداد سكان يبلغ 1.4 مليار نسمة، من ضمنهم نحو 300 مليون شخص تتجاوز أعمارهم 65 عاماً. بالتالي، ستكون هناك مخاطرة كبيرة على شريحة لا يستهان بها من المجتمع الصيني، فضلاً عن أن ظروف نقل العدوى في الصين أكثر خطورة نظراً للاكتظاظ السكاني، ما يعني أن أي تراجع في سياسة صفر كوفيد قد يعيد البلاد إلى نقطة الصفر كما كان الحال في مدينة ووهان قبل أكثر من عامين".