أعيش منذ ثماني سنوات متواصلة خارج بلدي مصر. لست سعيداً ولا حزيناً، لا فخوراً ولا ممتعضاً، في الحقيقة، تمر بي أحيان أجرب فيها كل هذه المشاعر معاً.
لا أستطيع أن أخفي أنني مشتاق إلى بلدي وأهلي وأصدقائي، والشوارع والمحال والمقاهي وغيرها، وربما مشتاق كثيراً، لكنني لست نادماً على المغادرة، فقد كانت شبه قسرية، وأعتقد أنها كانت الحل الأنسب لعدم الخضوع لما رفضته وقتها، وما زلت أرفضه حتى الآن.
على مدار السنوات الماضية، كنت على فترات متفاوتة أعيش مفاجأة، أو أكثر بسبب صور أو مقاطع فيديو تصلني، أو أطالعها عبر مواقع التواصل الاجتماعي. ليست للشوارع، والأماكن، وإنما للناس. أتحدث هنا عن أناس أعرفهم جيداً، بعضهم من العائلة، وآخرون من الأصدقاء والزملاء والمعارف.
غالباً ما تدهشني كثيراً تلك المشاهد، وخصوصاً رؤية علامات الزمن على الوجوه والأجساد فيها.
أتابع بحسب طبيعة عملي وطريقة تفكيري مواقف كثير من الأشخاص عادة، وبينما كنت في السابق أعبر بقسوة عن دهشتي، وأحياناً ذهولي، من تغير المواقف والآراء من النقيض إلى النقيض، أصبحت قدرتي على عدم الاندهاش لاحقاً أكبر، لم ولن أتفهم التقلبات في المبادئ وفي الأخلاق، لكنني أصبحت أفهم بشكل أوضح أن الناس لديهم القدرة على التكيف مع الوضع القائم، حتى لو كان هذا الوضع، سياسياً أو اجتماعياً، لا يعجبهم، وحتى لو كان هذا التغير إلى ما كانوا يرفضونه سابقاً.
الغربة صعبة من دون أدنى شك، وفيها الكثير من المواقف المزعجة، وفي المقابل، فإن لها الكثير أيضاً من الفوائد، ومن المزايا، لكن عدم القدرة على وداع راحل، أو تهنئة متزوج، أو حمل وليد جديد في العائلة أو المحيط شيء لا يمكن أن يدركه سوى مغترب، وهو شعور غاية في الصعوبة.
الصور ومقاطع الفيديو تمنحني أحياناً قدراً من الفرح، أو تشعرني بالقرب، حتى لو بشكل زائف، لكنها أيضاً من بين أكثر ما يزعج في الغربة، فمتى أصبح هذا الطفل يرتاد الجامعة؟ ومتى أصبحت هذه الصبية عروساً؟ أو أنجبت أطفالاً؟ لماذا فعل الزمن برفيق المراهقة كل هذا؟ ولماذا لست مثلهم، ومعهم، حاضراً خلال تلك المراحل والأحداث الكثيرة؟
مطالعة الصور ومشاهدة مقاطع الفيديو تظهر آثار الزمن الذي يتواصل مروره من دون أن ندري، أو بالأحرى، من دون أن نرغب في ملاحظة أنه يمر، أو التركيز في عدد السنوات التي مرت.
لكن كل تلك المشكلات لا تقارن أبداً بشعور الغربة داخل الوطن، أو أن تشعر أن هذا المكان الذي تعيش فيه لا يشبه وطناً كنت يوماً حريصاً على أن تشارك في تحويله إلى مكان أفضل، لكن هؤلاء الذين تفتقدهم يخالفونك الرأي، وبعضهم شاركوا في إجهاض أحلامك.