غابت الأحلام وحلّت ساعة الحقيقة. فتح سكان ولاية كهرمان مرعش، جنوبي تركيا، عيونهم على هول زلزال ضرب المدينة في السادس من الشهر الجاري، ليحول أهلها إلى مشردين أو قتلى أو عالقين تحت الأنقاض ينتظرون الخلاص.
بعد ساعات قليلة، ضرب زلزال آخر الولاية. بلغت قوة الزلزال الأول 7.7 درجات على مقياس ريختر، والثاني 7.6 درجات، ليكمل ما بدأه الزلزال الأول من تدمير للمباني المتبقية. ضرب الزلزال الأول منطقة بازارجيك في الولاية والثاني منطقة ألبيستان.
بعد الزلزال الثاني، كان المشهد مروعاً وأقرب إلى أفلام السينما، إذ انهارت الكثير من المباني، وخصوصاً في ألبيستان التي باتت مهجورة بحسب بعض الأهالي الذين تحدثوا لـ"العربي الجديد" عمّا عاشوه. المشاهد على مدار الأيام كشفت حجم الدمار، وأدى الزلزالان إلى انتهاء الحياة في الولاية ونزوح أهلها. واستمرت محاولات الإنقاذ أياماً في ظل الصعوبات الكبيرة، وخصوصاً في الأيام الأولى، في ظل انقطاع وسائل الاتصال والكهرباء والخدمات بمختلف أنواعها. كما تأخر وصول فرق الإنقاذ بأعداد كبيرة لانتشال العالقين، وهم بالآلاف، من تحت الأنقاض، وصنفت كارثة الزلازل بأنها الأكبر في المنطقة خلال مائة عام.
الولاية التي اسمها في الأساس مرعش، أضيفت إليها كلمة كهرمان التي تعني في التركية البطل، نظراً لمكانتها في حرب الاستقلال ومقاومة الاحتلال الفرنسي في جنوب تركيا، عقب سقوط الدولة العثمانية وقبل تأسيس الجمهورية. ويبلغ عدد سكانها أكثر من مليون و777 ألفاً. ويبلغ عدد سكان منطقة بازارجك وحدها أكثر من 70 ألفاً، فيما يقدر عدد سكان منطقة ألبيستان أكثر من 141 ألفاً. ويقيم في عموم الولاية قرابة 92 ألف سوري بحسب أرقام رئاسة إدارة الهجرة.
كان الوصول إلى المنطقة صعباً في البداية مع تعرض الطرقات المحيطة للتشقق والانهيار. وبات الوصول إلى الولاية يتطلب وقتاً أطول في ظل الأضرار الكبيرة، الأمر الذي أخر وصول المساعدات في اليوم الأول. نتج عن هول الكارثة دمار وجوع وبرد ودموع وآلام. وانهار عدد كبير من المباني، وكانت في مقدمة المدن التي توافد إليها السياسيون.
شهدت مناطق في الولاية انهيار عدد كبير من المباني، منها منطقة "أون إيكي شباط". وقال شهود عيان إن قرابة 90 في المائة من مبانيها منهارة، فيما ذكرت وسائل إعلام تركية أن عدد المباني المنهارة في الولاية بشكل كامل تجاوز الألف.
وفي تصريحات سابقة، كشف وزير الداخلية، سليمان صويلو، أن 120 من عناصر الشرطة هم من بين ضحايا الزلزال في كهرمان مرعش، فضلاً عن 32 من قوات الدرك. ووصف الزلزال بأنه أحد أكبر الزلازل التي حدثت في البر.
وشهد شارعا طرابزون وأذربيجان، وهما من الشوارع الرئيسية في المدينة، انهيار مبانٍ تجارية وسكنية كبيرة، وتركزت فيها عمليات رفع الأنقاض. والمشاهد التي نشرت لاحقاً كشفت حجم الدمار في المدينة.
وعرقل غياب المعدات والكهرباء في البداية عمليات الإنقاذ وخصوصاً في ساعات الليل، حيث تتحول المدينة إلى مدينة أشباح، وكانت الإضاءة فردية تقتصر على ما تحمله فرق الإنقاذ التي تمكنت من الوصول. كما شهدت المدينة حصول أعمال سرقة من المتاجر المنهارة أو المغلقة بسبب نقص وغياب المواد الغذائية الأساسية. ومع وصول الإغاثة والمساعدات والفرق العسكرية، ضبطت الأوضاع الأمنية وعادت الكهرباء وتوسع نطاق البحث والإنقاذ.
تأخّر وصول المساعدات وفرق الإنقاذ أغضب الأهالي في اليوم الأول، قبل أن تتكثف المساعدات وتصل فرق الإنقاذ في الأيام التالية. ويتحدث الناجي من الزلزال بلال دمير عما حصل معه في تلك الليلة قائلاً: "خرجنا بسرعة من المنزل بعدما استيقظنا كالمجانين. كان الاهتزاز خفيفاً في البداية، ما لبث أن تحول إلى اهتزاز عنيف جداً، وكانت الأرض تهبط للأسفل. ترافق ذلك مع أصوات عنيفة. ثم انقطعت الكهرباء والاتصالات ليصبح الواقع مخيفاً ومرعباً وسط برد شديد".
يضيف لـ"العربي الجديد": "ما إن خرجنا حتى هالنا المنظر. ومن خلال الأضواء المتوفرة، بدأنا نرى حجم الكارثة. لاحقاً، هاتفني صديقي وأخبرني أن والده ووالدته عالقان في المنزل. كانا قد تمكنا من الاتصال به طالبين المساعدة وخصوصاً أنهما شعرا بالاختناق وعدم القدرة على التنفس. ذهبنا إلى منزلهما من أجل إخراجهما من تحت الأنقاض. بعدها انقطعت الاتصالات في ظل غياب الكهرباء وسيطرة الظلام. فقدنا التواصل مع العالم. وخرجنا بملابس خفيفة ولم نصطحب سوى هوياتنا والقليل من المال".
ويوضح أنه في الأيام التالية، كان الأهالي يتنقلون بين المباني المنهارة للاطمئنان على الأحبة والأقارب. وكان لدى معظم الأحياء أقارب وأحبة تحت الأنقاض. لذلك، كانت الفترة اللاحقة هي سباق مع الزمن لإنقاذ أكبر عدد من الأرواح في ظل البرد القارس. البداية كانت صعبة من خلال قلة فرق الإنقاذ والإغاثة. لكن في الأيام التالية، تحسن الوضع أكثر".
من جهته، كان الطالب الجامعي فاتح ساهرا يمضي عطلة منتصف العام في مدينته ألبيستان، حيث يدرس في ولاية سكاريا، وقد نجا مع عائلته من الزلزال. يقول لـ"العربي الجديد": "كان أهلي يطلبون مني دائماً القدوم إليهم في أيام العطلة، علماً أنني أدرس وأعمل في وقت واحد، وقد مر وقت على عدم رؤية أهلي. فقررت المجيء وكنت بصدد العودة بعد أيام إلى الجامعة مع بداية الفصل الثاني، لكن حصل الزلزال وكانت كارثة كبيرة للأسف".
يتابع: "كنا نائمين في المنزل واستيقظنا على اهتزاز قوي جداً وأصوات قوية. تمكنت من الخروج من المنزل بسلام مع أهلي. لاحقاً، لاحظنا حصول تصدعات في جدران المبنى. وحين أشرقت الشمس، أخذنا بعض الحاجيات على عجل، وانتظرنا في الخارج في ظل البرد الشديد. وخلال الانتظار والتفكير بما يمكن فعله والخيارات المتاحة، وقع الزلزال الثاني وانهارت عشرات المباني أمام أعيننا بشكل لا يصدق. شعرنا أنها يوم القيامة، ولم نستطع سوى البكاء والدعاء إلى الله. وبعد وقوع الزلزال الثاني، قررنا مغادرة المدينة بأسرع وقت خوفاً من تجدد حدوث زلازل".
ويوضح أنه وعائلته ومن نجا من الأقرباء، انتقلوا إلى ولايات أخرى بسياراتهم، مشيراً إلى أن "أوضاعنا النفسية ليست جيدة. الزلزالان تركا أثراً كبيراً علينا. نحاول أن ننسى أهوال ما رأينا، ونحن في طريقنا للخروج من المدينة. كانت الولاية قد تحولت إلى مدينة أشباح، وتضررت الطرقات بشكل كبير وكان هناك عدد كبير من المباني المهدمة. إنه لأمر صعب أن نرى مدينتنا بهذا الشكل من الدمار والنكبة".
من جهته، يقول محمد بولوط لـ"العربي الجديد": "ما من كلمات تصف هول ما حدث. كنت في المنزل نائماً مع أفراد أسرتي. ومع حصول الزلزال، تمكنا من الخروج بشكل سريع. وبعد الزلزال الثاني، تصدع البناء بشكل كبير ولم يعد صالحاً للسكن. الأوضاع في اليوم الأول كانت صعبة جداً لأن الأطفال كانوا يعانون من البرد والجوع، وقدرتهم على الصبر أقل من الكبار، عدا عن كبار السن والمرضى والمقعدين". يتابع: "بعد يومين، شعرت بألم في رقبتي ويدي، فذهبت إلى المستشفى لإجراء الفحوصات اللازمة. كان المستشفى يعج بأكياس تضم جثث الضحايا، فيما توافد عدد كبير من الجرحى إلى المستشفى الجامعي. وكانت سيارات الإسعاف تهرع لنقل المصابين. وبسبب كثرة أعداد الجرحى، كان الأطباء على وشك إعادة الإصابات البسيطة والاهتمام بالإصابات البالغة فقط".
يتابع: "تجولنا في منطقة ألبيستان، مركز الزلزال الثاني. رأينا مدينة مدمرة بشكل شبه كامل وقد نزح أهلها عنها. شعرنا بأننا مكبلون وخصوصاً أن فرق الإنقاذ، وعلى الرغم من وجودها بكثافة لاحقاً، إلا أنها لم تكن كافية في ظل الدمار الكبير ومساحة الكارثة. ولاية كهرمان مرعش هي مركز الزلازل، وتضررت القرى والممتلكات بشكل كبير، عدا عن التشققات التي حصلت في التربة. الرقعة الواسعة للزلزال واضحة جداً من خلال الشقوق التي تمتد من ولاية كهرمان مرعش وصولاً إلى ولاية غازي عنتاب".