كلما اقترب موعد الانتخابات الرئاسية أو التجديد النصفي للكونغرس في الولايات المتحدة الأميركية يتكرر الجدل السياسي حول ملفات ساخنة أهمها الهجرة، وتوضع غالباً في صندوق واحد فيختلط الحابل بالنابل.
لم يتردد حاكم ولاية تكساس غريغ أبوت في استخدام المهاجرين واللاجئين القادمين إلى الولاية كورقة سياسية، أو التعامل معهم كأنهم "أشياء"، ووضعهم في باصات و"شحنهم" إلى ولايات أخرى، من دون التنسيق مع سلطاتها. وبدا ذلك جزءاً من الدعاية السياسية والتحريض شملت إرسال بعضهم فعلياً إلى العاصمة واشنطن، وإرسال آخرين في باصات إلى مدينة نيويورك أيضاً. وطالبو اللجوء المعنيون بهذه التدابير دخلوا بشكل غير قانوني عبر الحدود مع المكسيك.
وأورد بيان أصدره مكتب أبوت، الذي سيخوض معركة تجديد انتخابه في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، ويعتبر أحد المرشحين البارزين للحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية المقررة عام 2024: "تعد مدينة نيويورك وواشنطن العاصمة وجهتان مثاليتان للمهاجرين للحصول على خدمات وفيرة وسكن"، وهو ما يفخر به عمدة نيويورك إريك آدامز من خلال وصفه المدينة بأنها "ملاذ آمن"، المصطلح الذي يطلق على المدن والولايات التي اتبعت سياسات ترحيب بالمهاجرين "غير القانونيين"، ورفضت التعاون مع الشرطة الفيدرالية لتسليمهم خلال فترة حكم الرئيس السابق دونالد ترامب. وتابع البيان: "آمل أن يفي آدامز بوعده، ويرحب بجميع المهاجرين بأذرع مفتوحة كي تستطيع مدننا الحدودية المكتظة الشعور بالراحة". وردّ المتحدث باسم آدامز فابيان ليفي بسرعة على تصريحات أبوت قائلاً: "استمرار استخدام البشر كأحجار سياسية في لعبة شطرنج أمر مثير للاشمئزاز".
ولا بدّ من الإشارة إلى أن الجدل الحالي المسموم حول الهجرة بين السياسيين الأميركيين يفرضه أيضاً واقع أنّ الولايات المتحدة تعد بين أكبر الدول التي تستقبل مهاجرين في العالم. ويعيش فيها اليوم حوالى 40 مليون شخص ولدوا خارجها، وجرى تجنيس قسم كبير منهم.
وفي المعدل، تستقبل الولايات المتحدة حوالى مليون شخص سنوياً يقدمون طلبات للهجرة أو اللجوء أو العمل بتأشيرات مختلفة.
وتشير إحصاءات رسمية إلى أن مئات الآلاف من المهاجرين يحصلون على الجنسية الأميركية سنوياً، علماً أن البلاد استقبلت منذ ثمانينيات القرن العشرين أكثر من ثلاثة ملايين طالب لجوء، وتطبق برنامجاً خاصاً بهذا الإجراء يجلب لها فوائد كبيرة على صعيد الكفاءات العالية التي تصلها من كل أنحاء العالم، أو العمالة الرخيصة وغيرها. لكن ذلك لا يمنع مواجهة الولايات المتحدة تحديات كثيرة تتعلق بالهجرة وتعقيداتها.
وتشير تقارير إعلامية ورسمية إلى أن سلطات ولاية تكساس تضع الباصات في خدمة المهاجرين وطالبي اللجوء القادمين غالباً من دول أميركا اللاتينية، وتوفر لهم تذاكر سفر في اتجاه واحد إلى نيويورك أو واشنطن.
ووصل في الأسابيع الأخيرة فقط حوالى 4 آلاف مهاجر وطالب لجوء إلى نيويورك. ويقول مسؤولوها إن "الارتفاع المفاجئ وغير المنسق يهدف إلى الضغط على نظام المدينة ومؤسساتها المعنية بتقديم الخدمات، علماً أن ملاجئ المشردين تعاني أصلاً من ازدحام شديد وتحديات، وقد اضطررنا إلى فتح عدد من الفنادق كملاجئ للمشردين، من أجل التعامل مع الأعداد الكبيرة للمهاجرين وعائلاتهم".
وفي جلسة عقدها مجلس مدينة نيويورك أخيراً، وصف مفوض شؤون المهاجرين في المدينة مانويل كاسترو الخطوات التي أقدم عليها حاكم ولاية تكساس أبوت، بأنها "مثيرة للاشمئزاز وقاسية وجبانة".
وفي مقابلة إذاعية، قال كاسترو إن "عدداً من طالبي اللجوء الذين وصلوا إلى نيويورك يحتاجون إلى رعاية صحية طارئة مثل مرضى سكري بعثتهم السلطات في تكساس من دون الأدوية اللازمة مثل الإنسولين، واستغرقت رحلة نقلهم على متن باص من تكساس إلى نيويورك نحو أربعة أيام".
وتحدث هؤلاء المسؤولون عن "وصول بعض الذين نقلوا من تكساس بلا ماء وطعام، إذ لم تزودهم سلطات الولاية بهذه المستلزمات الحياتية الضرورية التي لم يكونوا يملكون أيضاً المال لشرائها"، وذكروا أن "بعض القادمين لا يريدون البقاء في نيويورك، ويرغبون في الانضمام إلى أقارب يسكنون في مدن وولايات أخرى، بعضها قريبة من تكساس نفسها مثل شيكاغو ونورث كارولاينا، لكن تسييس قضيتهم ومحاولة استغلال مسؤولي تكساس لها من دون تنسيق مسبق معنا وضعهم في هذه الباصات التي شحنتهم إلى نيويورك، وذلك بهدف افتعال أزمة، واستغلال الموضوع في الانتخابات القادمة".
سياسات التعامل مع المهاجرين مختلفة في ولايات أميركا
لم يتردد مسؤولو ولاية نيويورك في زعم أن "إدارة حاكم ولاية تكساس فرضت على شركات الحافلات التي تقل المهاجرين عدم التبليغ أو إعطاء معلومات عن مواعيد وصولها، في سبيل زيادة الضغط على النظام، وافتعال أزمة غير ضرورية"، وأصرّوا على أن غضبهم من الأحداث الأخيرة "ليس لأن نيويورك غير معنية باستقبال المهاجرين، بل لأنه يجري استغلال أوضاعهم سياسياً".
عموماً، تطبق نيويورك سياسة منفتحة مع المهاجرين، بينهم طالبو اللجوء أو حتى أولئك الذين يعشون فيها من دون امتلاك أوراق ثبوتية، وقد تمنحهم، بلا محاسبة، خدمات عامة تشمل مجالات الصحة والسكن من خلال ملاجئ المشردين، والتعليم، ومساعدات أساسية أخرى لا تخضع لقيود تتعلق بكون الشخص مهاجراً وعدم امتلاكه أوراقاً ثبوتية، أو قدم طلب لجوء يخضع للدرس.
لكن هذه الخدمات تبقى محدودة نسبياً، وتقتصر على مساعدة العائلات في توفير مقومات النجاة، من دون أن تضمن عيشاً كريماً لأفرادها وإمكان تقدمهم، ما يجعل تحقيقهم "الحلم الأميركي" أمراً صعباً إذا لم يكن مستحيلاً لغالبيتهم الساحقة التي خاطرت بالقليل الذي لديها للوصول إلى الولايات المتحدة.
ورغم أن متوسط معدل الدخل في مدينة نيويورك يعتبر أحد المعدلات الأعلى في الولايات المتحدة، فإنّ تكاليف الحياة الأساسية، مثل السكن ولوازم الطعام والتنقل باستخدام المواصلات العامة وشراء الملابس، أعلى بكثير من المعدل القومي. وتتطلب غالبية الوظائف ذات الدخل العالي تعليماً جامعياً، وتكون غالباً في قطاع الاقتصاد، في حين يعمل طالبو لجوء كثيرون في قطاع الخدمات العامة مثل المطاعم ذات معدلات الدخل المنخفضة نسبياً.
واللافت أن نسبة الفقر لدى سكان مدينة نيويورك تعتبر الأعلى في الولايات المتحدة. وأفاد تقرير سنوي أصدرته أخيراً منظمة روبن هود غير الربحية، بأنّ "1.4 مليون من أصل حوالي 8.5 ملايين شخص من سكان المدينة يعيشون في فقر حالياً، وبينهم واحد من كل خمسة أطفال".
"الحلم الأميركي" بات بعيد المنال
ويحدد التقرير نفسه معدل الفقر في نيويورك بضعفي المعدل الوطني تقريباً "ما يؤثر بشكل غير متناسب على سكان نيويورك من الأقليات، كالسود والمهاجرين من أميركا اللاتينية والآسيويين، التي تعتبر نسب الفقر بينهم أعلى من معدلها مقارنة بالأميركيين البيض من أصول أوروبية، علماً أن هذه الأرقام لا تشمل هؤلاء الذين يعيشون قريباً من خط الفقر، ونسبتهم مشابهة للفقراء، ما يعني أن نحو 40 في المئة من سكان المدينة فقراء، أو قاب قوسين أو أدنى من الوقوع في قبضة الفقر".
ورغم استغلال حكام جمهوريين في ولايات قضايا اللاجئين والمهاجرين ومحاولتهم الإفادة منها لخدمة مصالحهم السياسية، ترى منظمات غير حكومية في نيويورك أن "عمدة المدينة آدامز ومسؤولين آخرين لا يقدمون للسبب ذاته معلومات كافية تتعلق بخلفيات الأشخاص الجدد الذين يتوجهون للحصول على خدمات في ملاجئ المشردين". لكن هؤلاء يبررون تصرفاتهم بضرورة "تجنيب هؤلاء الخوف من الحصول على الخدمات إذا كانوا غير قانونيين".
وتحدد إحصاءات رسمية عدد المشردين في نيويورك بأكثر من 80 ألفاً، تعيش نسبة قليلة منهم (حوالى 3 آلاف) في الشارع. أما غالبيتهم، وبينهم عائلات وأطفال، فيعيشون في مراكز إيواء في ظل ظروف معقدة وصعبة.
ورغم أن نسبة لا بأس بها من المشردين في نيويورك يملكون عملاً، إلا أن أجورهم لا تكفي لضمان أدنى مقومات العيش الكريم لهم مثل السكن، باعتبار أن نيويورك بين أغلى المدن في الولايات المتحدة على صعيد غلاء المعيشة وإيجار الشقق.
ومهما كان مصير اللاجئين الذين يصلون إلى الولايات المتحدة بعد ويلات الجرائم والحروب والفقر التي عاشوها في بلادهم، واضطرارهم إلى ترك كل شيء خلفهم والجري وراء "الحلم الأميركي" البعيد المنال بالنسبة إلى غالبيتهم، توضح التطورات الأخيرة واستغلال حكام ولايات تكساس وأريزونا للقضية لأهداف سياسية، أن الموضوع سيصبح أكثر سخونة مع اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، والانتخابات الرئاسية المقررة بعد نحو سنتين.