قبل أكثر من عشرين عاماً، اختارت لمياء مبروكي العمل كسائقة سيارة أجرة في العاصمة تونس. من يومها، تبدأ عملها عند الساعة السادسة صباحاً لتقلّ الناس إلى وجهاتهم المختلفة، ولا تعود إلى بيتها قبل الثامنة مساء. وعلى الرغم من كل ما شهدته البلاد من احتجاجات واضطرابات وأحداث أمنية، في الفترات السابقة، لم تتوقف عن العمل يوماً. وحتى مع ذروة تفشي فيروس كورونا الجديد، لم تملك خيار البقاء في المنزل ولو لفترات محدودة، بسبب ضرورات الحياة، وعلى الرغم من خوفها من الإصابة بالعدوى.
في البداية، لم يتقبل المجتمع اختيارها هذه المهنة، التي ما زالت تعدّ حكراً على الرجال في العديد من البيئات والمجتمعات. ولم تكن البداية سهلة أبداً بالنسبة إليها على الرغم من مساندة عائلتها لها. تقول: "في بداية عملي، كنتُ أرى الدهشة في عيون الناس، وأسمع كلماتهم الساخرة. وعمد البعض إلى تخويفي من احتمال أن أتعرّض للتحرّش أو المضايقات أو الاعتداءات لكوني امرأة. لم تخفني كلماتهم ولا تعليقاتهم، لأنّني لا أعتبر أن أي مهنة مرتبطة بجنس الشخص. كما أنه لا فرق بين قيادة الرجل والمرأة". تضيف: "لم أتوقف عن العمل على الرغم من تعرضي في العديد من المرات للمضايقات أو السخرية". وتذكر أن بعض الرجال كانوا يرفضون الصعود معها أحياناً لعدم ثقتهم بقيادة امرأة لسيارة أجرة، "علماً أنني لست المرأة الأولى أو الوحيدة التي تعمل في هذه المهنة".
لم تتوقف لمياء عن العمل حتى بعد تفشي كورونا الذي أثّر على الكثير من المهن، خصوصاً تلك التي يضطرّ فيها الموظف أو العامل إلى الاحتكاك بعدد كبير من الناس يومياً. لكن بالنسبة إليها، فإن التوقف عن العمل ليس خياراً لأنها مسؤولة عن إعالة عائلتها.
في مارس/ آذار عام 2020، فرضت الجائحة في تونس، على غرار بقية دول العالم، ضرورة اتخاذ تدابير وقائية للحد من تفشي الوباء. وفُرِض الحجر الصحي الشامل بأمر رئاسي. في المقابل، حافظت الدولة على استمرار العمل في العديد من القطاعات الحيوية على غرار الصحة والنقل والمصارف ومحلات بيع المواد الغذائية وغيرها من المهن، التي كانت فيها الكثير من النساء حاضرات في الصفوف الأمامية. وخلال الأيام الأولى لتفشي كورونا، برزت بعض أسماء النساء العاملات في القطاع الصحي، من بينهن رئيسة اللجنة العلمية لمجابهة فيروس كورونا الطبيبة نصاف بن علية، والطبيبتان أنيسة بوعسكر وريم عبد الملك وغيرهنّ من طبيبات الاختصاص اللواتي عمدن إلى توعية المجتمع من خلال وسائل الإعلام التقليدية ومواقع التواصل الاجتماعي، للوقاية من الفيروس. علماً أن آلاف النساء الأخريات في العديد من القطاعات لم تمنعهنّ الجائحة من العمل حتى خلال فترة الحجر الصحي الشامل، وكنّ عرضة للإصابة بالعدوى بسبب مخالطتهن الكثير من الناس يومياً بحكم عملهن.
تقول لمياء لـ "العربي الجديد" إنّه "خلال فترة الحجر الصحي الشامل، فُرِض على آلاف النساء العمل من بيوتهنّ، في وقت كان على أخريات مواصلة العمل مع الالتزام بالإجراءات الصحية الوقائية، ومنها التباعد الاجتماعي. بدوري، لم أتوقف عن العمل. طبيعة عملي كانت تفرض علي نقل عشرات الأشخاص يومياً إلى أعمالهم. ورغم التقيّد بارتداء الكمامة، وإصراري على نقل فقط من يلتزم بارتدائها، إلا أن ذلك لم يبدد مخاوفي من احتمال الإصابة، وخصوصاً في ذروة تفشي الوباء". كانت لمياء تقلّ العشرات يومياً إلى وجهاتهم في مناطق مختلفة، ما قد يزيد من احتمال الإصابة "لكن ما في اليد حيلة".
تضيف: "خلال ذروة تفشّي الفيروس، منع نقل أكثر من شخص واحد في سيارة الأجرة. رغم ذلك، بقيت خائفة من الإصابة بالفيروس ونقله إلى عائلتي خلال عودتي إلى المنزل يومياً. لكن لا خيار لدي، فيجب أن أعمل. وحرصاً على سلامة أفراد عائلتي، كنت أتجنب الاقتراب منهم أو عناقهم".
وكما سعت لمياء إلى توفير كل ما تحتاجه أسرتها من خلال عملها، كانت تحرص أيضاً على القيام بالأعمال المنزلية من تنظيف وطهي والعناية بأفراد العائلة، لتضطر إلى العمل حتى منتصف الليل في بعض الأحيان. وبالكاد كانت تنام ساعات قليلة.