لا يردد أطفال مدينة القدس في فلسطين كلمات "سميرة، سميرة، أتت سميرة يا شباب" لمناداة فتاة تحمل هذا الاسم، بل لدى رؤيتهم مركبة تستخدمها شرطة الاحتلال الإسرائيلي ضدهم لقمع احتجاجاتهم. وتقذف مركبة "سميرة" المحتجين عشوائياً بمياه عادمة مليئة بالأوساخ، وتستهدف المحال التجارية والبسطات في منطقة "باب العامود" وساحة المصرارة بمدينة القدس، وكذلك الأزقة والحارات الضيقة في بلدات مثل العيسوية وشعفاط وسلوان.
يتحدث المقدسيون بسخط وغضب عن "سميرة"، ويدركون جيداً أن حظهم سيكون سيئاً جداً إذا مروا في مكان وجودها أو قربها لأنها تلقي مقذوفاتها في كل اتجاه، ما يحتم ركض الأطفال والفتية بعيداً عنها حين يرونها، ويحذرون بعضهم بعضاً بالصراخ: "سميرة أتت، سميرة يا شباب".
في باب العامود، أصيبت انتصار الواوي باختناق مع ابنتها من المياه المتسخة التي أطلقتها "سميرة" عليهما لدى عودتهما إلى منزلهما، في حين ألحقت "سميرة اللعينة" كما يصفها التجار، أضراراً مادية كبيرة بالمحال والبسطات المنتشرة بأعداد كبيرة عند مدخل باب العامود، وعلى امتداد ساحة الشهداء، حيث تطلق المياه العادمة بقوة وكثافة.
يقول أحد أصحاب البسطات سائد مسودي لـ"العربي الجديد": "اضطررت خلال مواجهات استمرت أسبوعاً في منطقة باب العامود إلى رمي كميات كبيرة من الخضار والفواكه، بعدما أغرقتها المركبة بالمياه العادمة، واشتريت ملابس جديدة مرتين، بعدما تخلصت من تلك التي كنت أرتديها بسبب التصاق مياه القاذورات بها".
ودفع استخدام شرطة الاحتلال الكثيف لـ"سميرة" إلى مطالبة لجنة تمثل المقدسيين قيادة الجهاز بالتوقف عن استخدام هذه المركبة بالطريقة التي تعتمدها منذ أشهر لقمع الاحتجاجات. ونددوا بالتصرفات العنصرية ضدهم عبر رشهم بمياه القاذورات، في مقابل رش المركبات ذاتها المياه الملونة النظيفة في مواجهة احتجاجات المتدينين اليهود. كما طالب المحامي مدحت ديبة في كتاب رفعه أخيراً إلى وزارة الداخلية الإسرائيلية بإلزام الشرطة التوقف عن استخدام المركبة "سميرة" لقمع الاحتجاجات السلمية، "لأنها تلحق أذى وأضراراً بأبرياء".
ويؤكد تجار البلدة القديمة في القدس أن "استخدام هذه المركبة على نطاق واسع، خصوصاً في ذروة الحركة التجارية، أضعف الأعمال داخل أسواق البلدة القديمة للقدس، في ظل عزوف المواطنين عن التوجه إليها"، علماً أن التدابير الأمنية التي تطبقها سلطات الاحتلال في محيط البلدة القديمة للقدس أضرت في الأصل بمحلات تجار كُثر وأعمالهم. ومنذ عام 2016، زادت المحلات التي أغلقت أبوابها في أسواق البلدة القديمة بنسبة 5 في المائة، وصولاً إلى نحو 400.
ويقول جواد الرشق الذي يملك متجراً في سوق المصرارة المتاخم لباب العامود لـ"العربي الجديد": "لحقت خسائر كبيرة بعشرات المحال في السوق بعد قذفها بمياه عادمة أتلفت كميات كبيرة من البضائع. والاستخدام اليومي للمياه العادمة ضد الأسواق أدى إلى هجرها بسبب الروائح الكريهة الناتجة عنها، وما تتركه من أضرار صحية وبيئية".
وكانت المياه العادمة استخدمت للمرة الأولى ضد الفلسطينيين في قريتي نعلين وبعلين غربي رام الله وسط الضفة من أجل قمع الاحتجاجات على بناء الجدار الفاصل عام 2008، حين حمل الجنود أوعية على ظهورهم، ورشوا المتظاهرين بها، ما شابه حينها إجراء تجربة أولية لسلاح جديد. وفي قطاع غزة، قصفت طائرات مسيّرة من طراز "شوكو" المحتجين بأكياس تحتوي على هذه المواد.
أما في القدس، فبدأت شرطة الاحتلال في استخدام المياه العادمة عام 2014، حين رشتها على منازل السكان وسياراتهم ومحلاتهم، ما تسبب في انبعاث روائح كريهة استمرت أياماً، وإصابة أشخاص بحالات قيء وتشنج وحروق أحياناً.
وتصف شرطة الاحتلال مركبات "المياه العادمة" بأنها "سلاح غير قاتل مخصص لتفريق التظاهرات". وتفتخر بقدراتها التكنولوجية التي طوّرت هذا السّلاح، ووضعت إسرائيل على خريطة مصنعي "الأسلحة غير الفتاكة". وبين ميزاته أنه غير مكلف على المدى البعيد، ويحقق هدف تفريق المتظاهرين والتنكيل بهم، مع ضمان عدم قتلهم، وهو ما لا تفعله أسلحة أخرى.
وبعدما ظهر السلاح للمرة الأولى عام 2008، نقل تقرير نشرته صحيفة "هآرتس" العبرية عن رئيس قسم "تطوير الوسائل التكنولوجية" في شرطة الاحتلال ديفيد بن هروش قوله إن "تطوير السلاح استغرق وقتاً طويلاً، لأن معايير كثيرة اتبعت تمهيداً للحصول على الموافقة الطبية لاستخدامه".
من جهته، قال الجيش الإسرائيلي في بيان نشره على موقعه في أغسطس/ آب 2009، إن "استخدام سلاح المياه العادمة لا يتطلب إصدار تعليمات صارمة للجنود، لأنه غير قاتل مقارنة بأسلحة الرصاص المطاطي أو الحي أو القنابل، ما يعني أن الجندي المسؤول عن تشغيل مركبة المياه العادمة يستطيع استغلالها كيفما يشاء من دون أي رادع".
وفي أغسطس/ آب 2014، طالبت جمعية حقوق المواطن في إسرائيل قائد لواء شرطة الاحتلال في القدس، يوسى براينتى، بتوضيح تفاصيل استخدام مركبة المياه العادمة في القدس الشرقية، وبتقليص استخدامها في المناطق السكنية والتجارية المكتظة، ومنع ذلك ضد المتظاهرين.
وقالت الجمعية في رسالتها: "إضافة إلى الرائحة الكريهة والشعور بالغثيان اللذين تسببهما المياه العادمة، يمكن أن يؤدى احتكاك السائل بالعينين والجلد إلى ألم واحمرار وتحسس. وقد يتسبب بلع السائل بألم في المعدة يستدعي عناية طبية".