في غرفتها في دار "نانا" للمسنّين، تصرّ راضية على الاحتفاظ بجزء من أثاث بيتها وحتى تلك الأدوات التي تستخدمها للزينة، بعدما قرر أبناؤها وضعها في الدار، بسبب وجود أبنائها في المهجر وعدم قدرة عائلتها على الاعتناء بها بعدما فقدت القدرة على الحركة بشكل طبيعي.
واعتادت راضية على حياتها الجديدة في الدار. وتحوّل العاملون فيه إلى أسرة ثانية، ولا تجد أيّ حرج من تكرار طلباتها أو حتى الغضب حين يمنعونها من التنقل بمفردها. راضية التي تتحدث الفرنسية بطلاقة، تقول لـ"العربي الجديد" إنها كانت موظفة في إحدى الدوائر الحكومية وأنها سعيدة بوجود مديرة الدار والعاملين فيه الذين تحولوا إلى أسرتها الجديدة منذ قدمت إلى الدار قبل عامين.
تذكر أنها كانت في 18 من عمرها حين شاركت في تظاهرة نسائية عام 1952. ويعد وضع المسنين في دور الرعاية أحد أبرز التغيرات التي أنتجها تحوّل العلاقات داخل الأسر التونسية خلال السنوات الأخيرة. وتشهد هذه الدور زيادة في الطلب على إيواء كبار السن الذي يذهبون إليها طوعياً أو بقرار من أبنائهم وعائلاتهم.
وتؤكّد صاحبة دار الرعاية الخاصة سناء العريبي لـ"العربي الجديد" أن مشروعها لم ينجح في بداياته عام 2016، ولم تتلق أي طلب إيواء لمدة 9 أشهر قبل أن يشكل دخول أول مسنّ نقطة تحوّل في مسيرة مشروعها. تضيف: "اليوم، أجد صعوبة في قبول كل طلبات الإيواء وأضع بعض الأسماء على لائحة الانتظار"، واصفة مهمة رعاية المسنين بالإنسانية وإن كانت شاقة.
وتقول العريبي إن المسنين قد يجدون الرعاية الصحية والإحاطة في دور المسنين، لكن تعلقهم بأسرهم وافتقادهم إلى ذويهم يؤثر عليهم سلباً، خصوصاً إذا ما تأخرت عائلاتهم في زيارتهم. تضيف: "في البداية، تواجه عائلات المسنين في دور الرعاية حرجاً اجتماعياً يعوّضونه بالزيارات اليومية لذويهم. إلا أن وتيرة الزيارات تتراجع معظم الأحيان بمجرد تجاوز مرحلة الحرج تلك.
تُصرّ العريبي على أن مشروعها إنساني قبل أن يكون مصدر دخل لها، لافتة إلى أنها تسعى إلى خلق جوّ أسري بين المقيمين في المركز الذي تشرف عليه وعددهم 14، وباتت تحفظ أسرارهم. تضيف أن جلهم يعانون من الألزهايمر وأمراض الشيخوخة التي تجعلهم في حاجة إلى المساعدة الدائمة للقيام بأبسط احتياجاتهم.
علاقات الصداقة والألفة في الدار تخفف من الشعور بالغربة بحسب العريبي. وتقول إن المسنين يتألمون بسبب غياب الأهل. وهؤلاء الذين أصيبوا بالألزهايمر أو فقدوا الذاكرة يصيرون أكثر تعلقاً بتفاصيلهم الصغيرة والمحيطين بهم.
خلال السنوات الأخيرة، تسجّل وزارة المرأة وشؤون الأسرة والمسنين زيادة في سحب مستثمرين لكراسات الشروط المتعلقّة بفتح دور رعاية خاصة لكبار السن تزامناً مع ارتفاع الطلب من الأسر على الخدمات التي تقدمها هذه الدور التي نظمها المشرع التونسي بكراس شروط منذ عام 2004.
بيانات رسمية لوزارة المرأة وشؤون الأسرة والمسنين تفيد بأن دور الرعاية الخاصة بلغت 12 مؤسسة تتمركز جلها في إقليم تونس الكبرى (العاصمة وضواحيها)، باستثناء دار رعاية وحيدة في مدينة المكنين من محافظة المنستير (الوسط الشرقي). وتؤكد المديرة العامة للمسنين في وزارة شؤون المرأة والأسرة والمسنين إيمان بالشيخ، لـ "العربي الجديد"، أن الطلب يزيد على مثل هذه الدور، مؤكّدة حرص الوزارة على مراقبة دور الرعاية الخاصة وضمان استجابتها للشروط التي تحددها. وتتحدث عن التحولات داخل العائلات في ظل تقبل المجتمع وضع المسنين في دور الرعاية. وتقول: "سابقاً، لم يكن الأمر مقبولاً. أما اليوم، فلم يعد يواجه الرفض ذاته". وتؤكد أنه عادة ما يتخذ الأبناء قرار إيداع أهلهم في دور الرعاية بحجة عدم قدرتهم على الاعتناء بهم، مضيفة أنه عادة ما يكونون من ميسوري الحال وبالتالي قادرين على تأمين المصاريف التي تتطلبها دور الرعاية الخاصة. لكنهم لا يملكون الوقت أو القدرة على توفير الرعاية اللازمة للمسنين.
وتتراوح كلفة الإيواء في دور الرعاية الخاصة ما بين 500 دينار (نحو 184 دولاراً) و2500 دينار (نحو 920 دولاراً)، وذلك بحسب حالة المسن الصحية واحتياجاته ودرجة الرفاهية في مركز الإيواء.
ويوزع كراس شروط دور الرعاية الخاصة إلى نوعين: الأولى هي الدور التي لا يتجاوز عدد المقيمين فيها 12 مسناً، والدور التي يتراوح عدد المقيمين فيها ما بين 13 و30 مقيماً. وتشهد علاقة التونسيين بالمسنّين منهم تغيرات متسارعة باتت تبيح ما كان يعد تابو سابقاً أو ما كان يواجه برفض مجتمعي كبير. ويمثل المسنون، بحسب آخر تعداد عام للسكان الذي أعد عام 2014، نحو 11 في المائة من التونسيين مع توقعات بارتفاع هذه النسبة إلى 15 بالمائة عام 2025 وبلوغها 20 في المائة عام 2034. ويتوقع أن يشيخ المجتمع التونسي، وهو ما يستدعي العمل على تحسين الظروف للعناية بكبار السن في ظل تراجع دور الأسر وتغير العلاقات داخلها.