يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقاً إنسانياً وشخصياً ومجتمعياً، رهيفاً وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازياً مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضاً من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعاً في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.
(29 نوفمبر)
ركبتُ الباص من رفح إلى دير البلح. وهذه المرّة الأولى منذ وصلت إلى الجنوب الذي أركب فيها مواصلات حقيقية، وأجلس على كرسي وحدي، وأستمتع بمشاهد الطريق، وهي تعبر عن جانبنا، ونحن نسير وهي تسير خلفنا أو تأتي نحونا. كان الباص الأبيض الصغير ينتظر عند الكراج، والسائق ينادي الركّاب الراغبين في التوجّه إلى خانيونس أو دير البلح أو النصيرات. وهذه كلّها للمفارقة شمال رفح التي هي آخر شيء في الجنوب. ثمّة شمالٌ لكل جنوبٍ وجنوبٌ لكلّ شمال. أما الشمال الذي نقصده، فلم يعد بإمكاننا حتى اللحظة أن نصل إليه. امتلأ الباص ولم يعد هناك كراسي شاغرة، لكن السائق واصل مناداة مزيد من الرّكاب الذين أخذوا يصعدون ويقفون في صالون الباص. كدنا نختنق لكثرة الركّاب، لكن لا مناص، فالمواصلات شحيحة، والسائق كما يقول يدفع الكثير من المال مقابل السولار الذي يشغّل به باصه الصغير. انطلق السائق، متوكّلاً على الله.
بدا أنّ الشباب الواقفين في صالون الباص نازحون من غزّة وشمالها، فبدأوا يتبادلون الحديث عن أوضاع الشمال، وما حلّ به من خراب، ويتناقلون ما وصل إليهم من أخبار عبر من بقوا هناك من الأهل والأصدقاء، عن البيوت وعن الشهداء وعن الدمار. قال شابٌّ منهم من باب الدعابة: "اللهم أرزقنا صلاة في غزّة"، ويقصد أنّ أقصى طموحنا بات أن نعود إلى غزّة، وأن ننعم بالبقاء فيها. أما خالته "انتصار"، فقد قرّرت أن تغيّر اسمها لـ"هدنة"، لأنّ الهدنة الآن هي الرائجة. وكان في تعليقاته تلك حسّ فكاهيٌّ ونقديٌّ واضح، ضمن سياق المفارقات التي تقترحها. أخذ أحدُهم يتحدّث عبر الجوال مع شخصٍ آخر. كان صوتُه متعباً، وهو يقول: حسن؟ ومين كمان استشهد؟ خليل ولطيفة ومين كمان؟
بدا الحوار عادياً، لأنّ الموت شيء عادي في الحياة، ولأن وقوعه لم يعد صادماً، فالشاب يتلقى أخبار موت الأهل برتابة سماع نشرة الأخبار ذاتها، ويسأل أيضاً عمّن مات منهم كأنه يسأل عن الطقس أو حالة الطريق أو نتيجة مباراة كرة قدم. ردّدتُ إحدى رباعيات عيزرا باوند: "تلك الوجوه في الحشد". كان باوند يتحدّث عن الوجوه المرهقة في المترو التي بدت بالنسبة إليه كبتلات زهرة ذابلة، فيما وجوه الشبّان والسيدات والأطفال في الباص تبدو من شدة الإرهاق مليئة بالحديث وبالقصص وبالذكريات والآمال. يتّجه الباص شمالاً، والشاب يقول للسائق: هل يمكن لك أن تعبر بنا الوادي؟ ويقصد أن نتّجه نحو غزّة. يبتسم السائق الذي يطلب من الشاب الواقف بجواره أن لا يدخّن، ويقول: "الله كريم". لم ينزل أحدٌ من الباص حتى وصلنا إلى دوار بني سهيلا، حيث يمكن للمسافرين أن يتوجّهوا شرقاً إلى بني سهيلا وعبسان وخزّاعة أو غرباً إلى مدينة خانيونس ومخيّمها.
كان على الباص أن يتوقّف خمس دقائق للسماح بمرور شاحنات نقل المساعدات الوافدة من معبر رفح. عشر شاحنات، كلّ واحدة من مقطورتين تعبر بوهن الطريق، محمّلات ببضائع ومساعدات مختلفة. اثنتان منها تحملان فرشاتٍ للنوم، وثالثة معلّبات فول وتونا، ورابعة مواد تنظيف، وخامسة صناديق مساعدات متنوعة، وهكذا. سِرنا خلف الشاحنات التي استدارت عند القرارة، حيث مخازن وكالة الغوث. بعد ذلك، مررنا بجوار محطّة تعبئة الغاز، حيث يصل طابور الانتظار إلى أكثر من كيلومترين. يضع بعض المنتظرين فرشات نوم بجوارهم، لأنّهم يدركون أنهم لن يتمكّنوا من التعبئة اليوم، وسينتظرون إلى اليوم التالي، وعليه، سينامون بجوار جرارهم. الطابور على الجانبين. بعض النسوة يحاولن أن يوجِدن طابوراً خاصاً بهن. استغرقنا الأمر عشر دقائق، ونحن نحاول أن نعبر من هذا المقطع من الشارع، بسبب الزحمة وكثرة الناس.
قال شابٌّ من باب الدعابة "اللهم أرزقنا صلاة في غزة"، ويقصد أنّ أقصى طموحنا بات أن نعود إلى غزّة، وأن ننعم بالبقاء فيها
كان فكرتي أن أذهب لزيارة صديقي الصحافي أحمد سعيد في دير البلح، ثم أذهب لزيارة عيشة، أختي التي نزحت في شقّة هناك، مع بقية عائلة زوجها. نزلتُ عند مدخل المدينة التي يشير اسمها إلى المساحات الشاسعة من النخيل المزروعة حولها. سرتُ خمس دقائق قبل أن أصل إلى منزل أحمد. ... أحمد أحد أبرز الصحافيين في غزّة، وربما الأكثر شعبية واسمه الأكثر انتشاراً بين الناس العاديين، ما يعود إلى برنامجه الشهير" نبض البلد" الذي كان يقدّمه عبر إذاعة صوت الشعب، وهو البرنامج الذي سبّب له مشكلاتٍ كثيرة مع السلطات في غزّة، كما مع بعض الشركات الخاصة بسبب نقدِه استغلالها المواطنين، وأيضاً مشكلات مع إدارة الإذاعة، ما اضطرّه إلى ترك الإذاعة، وعمل برامجه الخاصة عبر صفحته على "فيسبوك". وبذلك حافظ أحمد على حضوره ومصداقيته وحبّ الناس له، وأنا منهم، إذ تربطنا علاقة قوية بشكل مميّز. قال لي، في البلكونة، إنه حزين على رحيل صديقنا المشترك بلال. ابتسم وهو يدخّن سيجارته، وقال إنه انتقد بلال، آخر مرّة، لكنه تقبّل الأمر بصدر رحب.
سرنا، أنا وأحمد وياسر، في الشوارع الخلفية لحارتهم في المدينة، وصلنا إلى ما قال عنه "مخيم نزوح خاص"، أقامه صديقه الكابتن أبو يامن في ملعب كرة القدم الذي يملكه. وأبو يامن لاعب كرة قدم قديم أقام ملعباً ومرافق رياضية مختلفة على أرضٍ يملكها، وصار يؤجّرها للفرق والأندية المختلفة من أجل التدريب فيها أو إقامة المباريات داخل الملعب. فور وقوع الحرب، قرّر تحويل الملعب ومرافقه إلى مركز إيواء، يضم الآن أربعمائة نازح من مدينة غزّة. سألت: "بتعرفهم كلهم؟". ... هزّ رأسه، وقال إنه لم يكن يعرف أحداً منهم قبل ذلك. نصب لهم خياماً داخل الملعب، ووضع لهم مواقد في الأرض الزراعية المقابلة للملعب، وترك مساحة أخرى، ليلعب فيها الأطفال ويلهون، وأحضر لهم بعض الألعاب. ساعده أحمد في ترتيب أمور لوجستية كثيرة في المخيم الصغير. جلستُ مع بعض النازحين في المخيم الملعب، وتحدّثنا عن همومنا المشتركة. كان الشاي يفور فوق النار، حين قلت إنني مضطرٌّ إلى المغادرة، لأنني سأزور أختي قبل أن يدهمنا الليل، وكان الليل قد دهمنا فعلاً، قبل أن نصل إلى البيت الذي تقيم فيه في شارع يافا في دير البلح. أوصلني أحمد بسيارته "الكيا" الحمراء التي تعمل على جرّة الغاز. ضحكتُ، وقلت: إمبراطور من لديه جرّة غاز. ... ابتسم وقال إنّ السيارة هكذا قبل الحرب، وقرّر أن لا يستخدمها للبيت. ابتسمتُ وأنا أذكّر نفسي بأن بغلتك العرجاء تُغنيك عن فرس السلطان. قفز أطفال عيشة فرحاً، خصوصاً شوقي حين رأوني ورأوا ياسر. كنتُ أحمل في جيبي بضع حبات شوكلاته وعلبتين من "الفستقية" اشتريتهما من رفح. مكثتُ خمس دقائق فقط، إذ عليّ أن أتوجه إلى النصيرات، وكان أحمد سعيد قد أصرّ على انتظاري حتى أنتهي، حتى يأخذني بسيارته إلى هناك.
واصلنا، في الطريق، أنا وأحمد، الحديث في هموم البلد. البلد التي لم يعُد لها نبض إلا السؤال عن الهدنة وانتهاء الحرب وعودة النازحين. كان أحمد يسوق بحذر، فالشارع بلا إنارة، وكان القمر كبيراً يطلع من خلف أشجار النخيل قرب مخيم المغازي ونحن نعبر، وهو يبتعد عنا في الأفق.
تتشابه المخيمات بشكل كبير. الطرقات نفسها والأزقّة نفسها وكذا المساحات الضيقة ومسارب الماء على جوانب البيوت. الألفة التي تغمر النفس رغم ذلك كله، والإحساس الجارف بالطمأنينة
سرتُ من شارع صلاح الدين باتجاه شارع النصيرات العام. منزل الدكتور سعيد الصفطاوي، صديقي وزميلي في العمل التنظيمي، قريب جداً لحسن حظنا. قلتُ لياسر: نضع حقيبة اللابتوب عنده ونتمشى باتجاه منزل الصديق ناهض زقوت، ثم نتمشّى في شارع النصيرات العام، قبل أن نعود للسهر عند سعيد والنوم هناك.
يعيش في منزل سعيد قرابة 300 من أبناء عمومته الذين نزحوا من غزّة والشمال. وحيث إنّ سعيد يعيش في بيت مجاور لبيوت إخوته الستة، ستة بيوت منفصلة في زقاق خاص بهم، فإنّ وجود العائلة الممتدّة التي اضطرّت إلى العيش المؤقّت كان أكثر راحة. محظوظون هؤلاء الذين لديهم أقارب في الجنوب، خصوصاً أقارب من الدرجة الأولى، حيث لا يضطرون إلى النزوح للمدارس ولا لمراكز الإيواء في الأندية أو الساحات والمخيّمات الجديدة. ولمّا كانت لدى شقيق سعيد كافتيريا كبيرة وحديقة بجوارها كان يقدّم فيها المشروبات الساخنة والأراجيل وبعض الطعام الخفيف سابقاً، توزّعت العائلة بين البيوت الثلاثة والكافتيريا. ومع ذلك، صار على سعيد أن يرعى كلّ هذه العائلة بمتطلباتها ومستلزماتها.
سِرنا في أزقّة مخيّم النصيرات، أنا وياسر. بدا المخيم موحشاً. اشتقتُ لجباليا: قلت لياسر، وأحسستُ بغصّة في صدري، وأنا أنظر حولي، كأني أستعيد حياتنا هناك في أيام الحرب الـ46 التي عشناها في المخيّم قبل التوجّه جنوباً.
بعد مدينة غزّة وشمالها، مخيّم النصيرات أكثر الأماكن في القطاع تعرّضاً للقصف والتدمير. بشكل عام، المحافظة الوسطى، خصوصاً مخيّماتها، النصيرات والبريج والمغازي، الأكثر تعرّضاً في الجنوب للقصف والاستهداف. وفي المحافظة الوسطى نصف عدد المخيمات في القطاع الذي فيه ثمانية، فإلى جانب هذه المخيّمات الثلاثة هناك مخيّم دير البلح. في الشوارع، يمكن ملاحظة حجم الدمار والبيوت التي قُصِفَت، ويمكن أيضاً ملاحظة ما حلّ بوسط المخيم من خراب، خصوصاً بعد قصف بعض المحال الهامة فيه، مثل "مول أبو دلال" التجاري، وهو الأكبر في المنطقة، وبعض المخابز في الشارع العام. يبدو النصيرات قطعة مصغّرة عن دمار حدَث أو دمار قادم. حتى إن شبكة الاتصالات ما زالت معطلة في المنطقة رغم الهدنة، ورغم تحسّنها في أماكن أخرى، مثل خانيونس وبعض مناطق رفح.
الحياة صورة أخرى عن صور سابقة، وهي صورة للحظاتٍ قادمة لا يعرف عنها أحدٌ شيئاً
ناهض مثقّف وباحث وناقد أدبي متخصّص في الرواية والسرد الفلسطيني، يعيش في منزل العائلة في مخيم النصيرات. أظنّ أنه أوّل شخص وقعت له رواية لي، إذ كان معي في ذلك اليوم من صيف العام 1996، حين صدرت روايتي "ظلال في الذاكرة"، وذهبت لتناول نسخي من دار الأمل للطباعة والنشر في منطقة الفواخير في غزّة قرب المقر السابق لاتحاد الكتّاب. تناول أوّل نسخة ووقعتها له، ونحن نسير نحو الاتحاد، لنقابل الصديق الراحل الشاعر مروان برزق. ... يجلس النازحون من أفراد العائلة في ممرّات البيت وصالونه. انتقل ثمانون نازحاً للعيش في البيت كما قال لي ناهض. في مكتبته الشخصية، أقابل أصدقائي الكتّاب من خلال رواياتهم الموجودة على رفوفها. أسماء أعرفها وقرأت لها، وأخرى قابلتهم في مسيرة حياتي. شعرتُ قليلاً بالراحة أنني، في نهاية المطاف، في سياق عادي، فقد بدا هذا اللقاء عادياً، رغم العتمة الشديدة التي تبدّد القليل منها "لدة" (لمبة صغيرة) مشبوكة على بطارية بحجم كفّ اليد، يضعها ناهض على الطاولة أمامه، مثل الروايات التي يقرأها ويكتب عنها رغم القصف والدمار. تحدّثنا نصف ساعة، وشربنا الشاي قبل أن أتحرّك. مشي معي ناهض قليلاً في شوارع المخيّم، ثم عاد، وواصلنا طريقنا، أنا وياسر، نحو وسط المخيّم المدمّر. لا شيء يمكن شراؤه من أجل أن يأكل ياسر.
فور وصولنا إلى بيت الدكتور سعيد الصفطاوي، جلسنا حول كانون النار. وجاء ابنه بلفائف الفلافل، ووضعها على النار من أجل التحميص. ثم جاء بعض الأصدقاء وسهرنا حتى العاشرة، تحت شجرة الجوز العالية أمام البيت.
صحوتُ على صوت سعيد يوقد النار في الخارج. بعد نصف ساعة، وأنا أجاهد لأعاود النوم فيما أسمع طقطقة الخشب والنار تلتهمه. قال لي إنه سخن لي ماءً حتى أستحم. فرحتُ وقفزت للحمام. كانت تلك المرّة الأولى التي أستحم فيها من تسعة أيام، ربما إذ كان آخر حمام أخذته قبل يومين من انتقالي إلى الجنوب. حتى فكرة "الحمّام" لم تعد قائمة في بالي، كأني نسيتُ أن الإنسان يجب أن يستحم. متطلبات الحياة وقسوة إيقاعها تجعل موضوع الأولويات يسير ضمن نسقٍ مختلف. تذكّرت الآن أنني فعلاً لم أستحمّ. شعرت بوشوشة الماء لجسدي بالحديث والهمس الدائر بينهما، وشعرتُ بفرحة شعري بالماء وأنا أفركه لينتعش. كان حمّاماً من العمر وللعمر. خرجت وكان الدكتور سعيد قد جهّز ماءً ساخناً لياسر أيضاً. بعد ذلك، جلسنا حول النار الملتهبة، تناولنا فطورنا وشربنا الشاي الساخن، ثم جلسنا في الزقاق، حيث الشمس تبدو فتيّة، ويبدو الدفء مغرياً بعيد يومين من البرودة والقليل من المطر.
لأنّ الحياة قائمة طويلة من الانتظار، لابد للمرء أن يمشي فيها كل الممرّات الصعبة من أجل الوصول. وحين يصل يقف في محطّة انتظار جديدة
ذهب سعيد لتعبئة الماء، وهذا يومٌ مرهقٌ بالنسبة إليه، لأنّه يعني الوقوف ساعات وحمل الغالونات والدلاء والصعود بها إلى سطح المنزل. لكنه واجبٌ لا بد منه حتى تستمرّ الحياة. يتحدّث أحمد ابن سعيد مع صديقه عبر الهاتف، ويقول متفاجئاً: "نمت هنا"، على ما يبدو أنه يتحدّث معه عن طابور تعبئة الغاز، لأنه سيسأل بعد ذلك: "نايم نايم راح أجيبلك جرّة وحطها جنب جرتك"، ثم سيقول: "في الليل حتى لا يرانا أحد".
اليوم يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني، رغم أنّ الجميع ينسى أنه اليوم الأسود الذي أصدرت فيه الجمعية العامة قراراً بتقسيم فلسطين إلى دولتين، واحدة لليهود وأخرى للعرب. وعليه، طُردنا من فلسطين، والعالم يقول إنّه يتضامن معنا. اللهم ارزُقنا صلاة في يافا.
(30 نوفمبر)
سرتُ في طرقات المخيذم وأزقته أبحث عن المدرسة التي تقيم فيها أختي حليمة. تتشابه المخيمات بشكل كبير. الطرقات نفسها والأزقّة نفسها، وكذا المساحات الضيقة ومسارب الماء على جوانب البيوت. الألفة التي تغمر النفس رغم ذلك كله، والإحساس الجارف بالطمأنينة. هبطتُ الطريق نحو كلية الأقصى، حيث تقع مدرسة عبد الله أبو ستة التي تقيم فيها حليمة وعائلتها. المدرسة مكتظّة بشكل كبير، وبعض النسوة والشبّان مشغولون بإيقاد النار بإشعال أغصان رفيعة وقطع كرتون وريح تشرين تهبّ باردة، فتحول ساخنة، فتزيد مهمتهم صعوبة. تصنع امرأة الخبز على الصاج فوق نار متّقدة نجحت في إيقادها، ربّما بعد جهد كبير، وثانية تحرّك الطبيخ في طنجرة مليئة بالشّحبار. يتوقف بائع الفلافل عن صنع الأقراص وإسقاطها في المقلاة التي يفور زيت القلي فيه، لينشغل بإيقاد النار بوضع مزيدٍ من الخشب، ليزيد ارتفاع اللهب حول المقلاة. الطفلة التي تبيع الكسترد تهشّ النعاس عن عينيها، منهكة متعبة من جلستها، ربما ساعاتٍ على الطبلية الصغيرة، تضع للزبائن كستردها الملوّن في صحون بلاستيكية بيضاء. كلّ شيء يقول إن الحياة هنا طارئة، وإن المؤقت فيها مقلق، ومنهك للجميع، خصوصاً سحب الدخان التي تنتشر من مواقد النيران في نواحي ساحة المدرسة المختلفة، والملابس المعلقة على نوافذ الفصول والبؤس في وجوه الرجال والنسوة، وهم يتذكّرون أيام الماضي الجميل الذي فقدوه خلف الوادي في الشمال.
لم تكن حليمة في المدرسة. كانت قد خرجت لتوّها مع زوجها إسماعيل إلى السوق. تجوّلت قليلاً من ابنها محمود في المدرسة. ذرعْنا الساحة الضئيلة التي لا يشغلها النازحون جيئة وذهاباً. كان واضحاً حجم تذمّره من الانتقال إلى الجنوب، فالوضع في الشمال كان أفضل. قال: حتى المدرسة التي نزحوا إليها في الشمال كانت أفضل. الحياة بشكل عام هناك أفضل. ... أشار إلى غلاء الأسعار غير المبرّر وغير المنطقي. قلتُ: يحاول الكلّ في الحرب أن يكسب. ... لم يكن هذا تبريراً لكني أردتُ للفتى الذي لم يبلغ السادسة عشرة أن يعرف أن قسوة الحياة جزء من طبيعة البشر. كانت الشمسُ قد غابت واختفت خلف غيماتٍ كثيفة هي جزءٌ من مشهد تشريني معتاد. قلت إني سأعود مرّة أخرى لأرى والدته. لم يكن مجدياً الانتظار أكثر، فلا أحد يعرف متى يمكن أن تعود. كانت النسوة الأخريات عائدات من جهة مخزن التموين، يحملن المعونات التي حصلن عليها من هناك. يبدو الكلّ مشغولاً في البحث عن الحياة، والكل يبحث عنها بجدّ وتعب. سرتُ في الطريق نفسها التي جئتُ منها. كانت العتمة تحمل معها قلق الليلة عن فرص تجديد الهدنة من عدمها، فالليلة تنتهي الهدنة ولا يوجد أخبار عن مستقبلها. وعليه، كان الجميع يتحدّث عن الهدنة إذا ما كان سيتم تمديدها. كنتُ أستمع للناس، ونواصل، أنا وياسر، سيرنا المتعب في الطريق المتعَبة مثلنا.
وصلت إلى مستشفى ناصر. جلستُ على الفرشة بجوار سائد السويركي وفاتنة الغرّة. سائد شاعر مبدع وجميل، يعمل مراسلاً لقناة روسيا اليوم، ويغطّي بشكل متواصل الأحداث في غزّة بشكل مبدعٍ وقوى. يكتب القصيدة بجزالة وقوة وبلاغة، منشغلاً بتفاصيل الحياة وقلق الفرد. وفاتنة العائدة لزيارة غزّة من بلجيكا وجدت أنّ عليها أن تعيش الحرب، حتى تظل بجوار عائلتها، خصوصًا والدها ووالدتها. تكتب أيضًا الشعر اللافت أيضاً. كان مستشفى ناصر صورة أخرى للمستشفيات في غزّة قبل أن تغزوها الدبّابات من جهة الاكتظاظ ونزوح المواطنين إليها. الحياة صورة أخرى عن صور سابقة، وهي صورة للحظاتٍ قادمة لا يعرف عنها أحدٌ شيئاً.
شعرتُ بالبرد وأنا أتخيّل النار التي تلتهم الكتب والأطفال الذين يأكلون الأرغفة المخبوزة على كلمات الشعراء ووصف الروائيين وما تفتحت به عقول الفلاسفة والمفكرين
نمنا في الليل ونحن لا نعرف إذا ما كان سيتم تمديد الهدنة أو لا. لم يكن من الممكن أن ننتظر حتى الحادية عشرة ليلاً، حيث اجتماع الكابينت الإسرائيلي. صحوتُ عند الخامسة صباحاً تفقّدت الرسائل الإخبارية أبحث عن شيء عن تمديد الهدنة. لم يكن ثمّة ما يقول إنه سيتم تمديدها، بل يدور الحديث عن اللحظة الأخيرة، أي انتظار آخر دقيقة قبل أن تنتهي، فربما يتم التوصل إلى اتفاق بشأن التمديد. حاولت أن أعود إلى النوم من دون فائدة. كانت الرسائل تتحدّث عن خلل يعوق إتمام اتفاق التمديد. عند السابعة إلا ربعاً، أي قبل ربع ساعة من إعادة اندلاع نيران الحرب، جرى التوصل إلى اتفاق يقضي بالتمديد. وكنتُ أفكّر كم مرّة سنظل نعيش اللحظة نفسها، وكم مرّة سنظل نترقب التمديد والاتفاق؟
يوم هدنة جديد. يوم راحة جديدة. يوم انتظار جديد. فما إن يرحل الصباح، حتى نبدأ بالتفكير في اليوم التالي ومستقبل الهدنة فيه. حتى بات الحديث عن الهدنة أول ما يتبادر إلى ذهن الواحد منا، وهو يتحدّث مع الآخرين. والجميع يفترض أنّ هناك من يعرف أكثر منه، لذا لا يملّ السؤال: فيه هدنة بكرا؟ وهو سؤالٌ نمطيٌّ في الحياة، ويعكس هذا القلق وهذا الانتظار. سيمضي اليوم وسيمضي يوم غد وسيمضي زمن ونظل ننتظر، لأنّ الحياة قائمة طويلة من الانتظار، لابد للمرء أن يمشي فيها كل الممرّات الصعبة من أجل الوصول. وحين يصل يقف في محطّة انتظار جديدة.
ذهبتُ في المساء إلى مبنى الهلال الأحمر في حيّ الأمل في مدينة خانيونس. يضمّ المبنى مستشفى الأمل التابع للهلال الأحمر، ومركزاً مجتمعيًا وثقافيًا، وهو، بالتالي، مجمّع كبير ضخم، وجد نازحون كثيرون فيه ملجأ لهم، بعد أن اضطرّوا إلى ترك منازلهم في المناطق الشرقية وفي مناطق شمال غزّة وغربها. يذكّرني منظر الهلال كثيراً بمشهد مستشفى الشفاء قبل أن تهاجمه قوات الاحتلال. الناس والخيام المنتشرة في كلّ مكان والباعة والحلاقون الذين يضعون كرسياً ليحلقوا للزبائن.
استذكار الماضي مؤلم، خصوصا ذلك الماضي الذي يضطر المرء لتركه خلف ظهره مقهورا
جلست أنا وهاني السالمي وأشرف سحويل. هاني روائي، كتب للفتيان وللبالغين، لديه كشك لبيع القهوة والمشروبات الساخنة، بعد أن ضاقت به السبل في ظلّ البطالة العالية في غزّة. كنت قد زُرته قبل أسابيع من الحرب، وشربت القهوة على الرصيف معه. أخبرني أنه اضطُرّ إلى حرق جزء من مكتبته من أجل أن يوقد النار لتحضير الخبز والطعام لأطفاله. "حتى الآن حرقت 200 كتاب" كما قال. ابتسم وهو يشرح أنه يحاول تأخير حرق الكتب التي يحبّها حتى لا يندم. في المحصلة، لا يوجد ما نندم عليه، فالمرء حين لا يجد الطعام ليأكل لا تهمّه الكلمات. في البداية، جمع الحطب واشترى بالقدر الممكن بعضًا منه، لكنه لم يعد قادراً على توفيره بأي طريقة. لذا لم يكن عنده من سبيل إلا حرق الكتب حتى يعيش. ... مرّةً، كدتُ أحرق كتباً لغسّان كنفاني وكتاب "فلسطيني بلا هوية" حين كان الجيش يداهم البيوت في المخيم خلال الانتفاضة الأولى. أوقدت النار، ولحسن الحظ دخل الجيش قبل أن أتمكن من جلب الكتب التي كنت أخبئها في خزانة الملابس، وركل الجندي الغاضب النار لينثرها علينا وفي حوش الدار، وخرج وقد "فشّ" خلقه. كان الاحتفاظ بتلك الكتب تهمةً عقوبتها السجن ستة أشهر. شعرتُ بالبرد وأنا أتخيّل النار التي تلتهم الكتب والأطفال الذين يأكلون الأرغفة المخبوزة على كلمات الشعراء ووصف الروائيين وما تفتحت به عقول الفلاسفة والمفكرين. شعور قاهر بالبرد، سأعرف في الليل أنني فعلاً كنت أشعرُ بالبرد، وأنني سأُصاب بالأنفلونزا في تلك الليلة، إذ سأظل أرجف طول الليل من شدّة البرودة.
أما أشرف سحويل، فهو فنان تشكيلي ومدير واحد من أهم المراكز الثقافية في مدينة غزّة، مركز غزة للثقافة والفنون. وهو عضو فاعل في الاتحاد العام للمراكز الثقافية، وتربطنا علاقة قوية على أكثر من مستوى. جرى تدمير مرسم أخته رفيدة الشخصي، وضاعت لوحات كثيرة عملت عليها سنوات. كذلك فإنّ غاليري "لقاء" الذي يشرف عليه أشرف مع الفنانين محمد الحواجري ومحمد أبو سل تمّ تدميره، وذهبت عشرات اللوحات ضمن الحطام والركام. تحدّثنا في قضايا وهموم كثيرة، وكان البحث عن المستقبل وعن القلق الذي ينتظرنا يأخذنا بعيداً، ونحن نبحث عن الاستقرار.
فنّانون وكتّاب كثيرون الآن في خانيونس بعد نزوحهم من غزّة ومن الشمال. في نهاية المطاف، في هذه المدينة التي صارت مكتظة حتى آخر رمق فيها يوجد كثيرون يعرفهم الواحد منّا في مناطق مختلفة من ذاكراته، ولهم في حياته تقاطعات مختلفة.
سرتُ مع ياسر في شوارع خانيونس. وكالعادة، سندخل المنطقة من جهة مستشفى ناصر، لأنني أعرف كيف أصل إلى منزل مأمون من هناك، ولمّا كان الأمر كذلك، صار جزءاً من روتين العودة إلى البيت، حين ننام عند مأمون، أن نعرّج على المستشفى، ففيه، يمكن لياسر أن يستخدم الإنترنت بفعل ما يوفره لنا الصديق الشاعر سائد السويركي من السماح لنا بالدخول على الشبكة الخاصة بالقناة الفضائية التي يعمل مراسلاً لها، كما أمضى بعض الوقت مع سائد وبقية الأصدقاء هناك. وسيكون طبيعياً أن أقف دقائق مع صديق من غزّة أو من الشمال أقابله مصادفة. أحاديث اللحظات الأخيرة في غزّة والشمال قبل النزوح جنوباً واستذكار الماضي بألمٍ كثير. استذكار الماضي مؤلم، خصوصاً ذلك الماضي الذي يضطر المرء إلى تركه خلف ظهره مقهوراً. أنظر في المستشفى وفي مرافقه المختلفة، وأحاول أن لا أعقد مقارنة بين الوضع الآن هناك في خانيونس والوضع في غزة قبل دخول الدبّابات. كل شيء يبدأ بصورة عابرة، ثم تصير صورة راسخة.