يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقاً إنسانياً وشخصياً ومجتمعياً، رهيفاً وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازياً مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضاً من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعاً في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.
(5 ديسمبر)
باتت رفح تستوعب العدد الأكبر من سكّان قطاع غزّة، وتحوّلت من بلدةٍ صغيرةٍ إلى أكبر مدن فلسطين ربما من حيث تعداد السكّان، فكثيرون من سكان خانيونس بدأوا النزوح جنوباً نحو رفح. وصل سكّان المنطقة الشرقية من خلال شارع صلاح الدين، فيما وصل سكّان المدينة والمخيم عبر شارع البحر (شارع الرشيد)، وتدفّقوا بالآلاف، يبحث معظمهم عن مدرسة أو مكانٍ فارغ، حتى ينصب عليه خيمتَه، وسيكون محظوظاً إن فعل. أمّا من لديه معارف أو أقرباء في البلدة، فعليه أن يتحمّل العيش مع أكثر من مائة شخص ممن سبقوه من الأقارب يقيمون في البيت نفسه. الوضع صعبٌ وحياة الناس تتحوّل إلى كابوس أسوأ مما كانت عليه في اليوم السابق.
منذ دخول الحادي والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) حتى اليوم الرابع مع ديسمبر (كانون الأول)، دخلت قطاع غزّة عبر معبر رفح 3610 شاحنات مساعدات، أقلّ من نصفها مساعدات غذائية (حوالي 1416)، فيما تتوزّع البقية على المياه والأجهزة الطبية ومواد التنظيف والخيام وغير ذلك. ولا يشكّل هذا كلّه إلا نسبة ضئيلة مما يحتاجه الناس، في ظلّ ما يتعرّض له القطاع. اشتكى مسؤول التنسيق في الهلال الأحمر من أنّ المنظمّات الدولية لا تُدخِل المعونات إلى المنطقة الوسطى ولا إلى خانيونس، فيما يبدو أنّه تنفيذ لقرارات الاحتلال، الأمر الذي يعني تشجيع إخراج السكّان من تلك المناطق كما يريد الجيش، واقتصار عمليات التوزيع على رفح. صاح وهو يرتشف الشاي: "وين بدنا نودّي كل المساعدات". يقصد أن رفح لا تتحمّل كلّ هذا التدفق. قلتُ إنها فرصة الناس أن تشعُر بالفائض على اعتبار أنه سيكون هناك فائض. ابتسم وهو يقول: ويموت الآخرون في الوسطى وخانيونس.
المنظمّات الدولية لا تُدخِل المعونات إلى المنطقة الوسطى ولا إلى خانيونس، فيما يبدو أنّه تنفيذ لقرارات الاحتلال، الأمر الذي يعني تشجيع إخراج السكان من تلك المناطق كما يريد الجيش
قد لا يبدو هذا الموقف غريباً عن منظمّات الأمم المتحدة التي لا يمكن أن تقوم بأيّ شيء لا يقبله جيش الاحتلال، فهي التي امتنعت أيضاً في السابق عن إرسال معوناتٍ إلى غزّة والشمال خلال الهدنة، حين كانت تعليمات الجيش بذلك. واليوم يرفضون إيصال المساعدات إلى خانيونس والوسطى. في نهاية المطاف، قال مسؤول الأمم المتحدة لمسؤول الهلال: "يمكنك أن ترسل الشاحنات على مسؤوليّتك"... يعني أنّ حياة السائقين قد تتعرّض للخطر، والمسؤول عن هذا الخطر لن يكون الجيش، بل من أرسلهم. صارت الحركة بين رفح وبقية مناطق قظاع غزّة صعبة. ما زالت بعض السيارات تعبر الطرق المكسّرة، خصوصا في منطقة المواصي غرباً، لكن السير في الطرقات محفوفٌ بالمخاطر، وقد يتم قصف السيارات في أي لحظة، لا ضمان لأحد. يستهدف الجيش ما يشاء وقتما يشاء وكيفما يشاء، ويجب أن يكون المواطن حذراً وينتبه، فموته قرار بيده، فكل تصرف يقوم به قد يودي بحياته، لأن الجندي وقائد الطائرة قد يفهمان أي شيء كيفما يشاءون. وعليه، سيُحرم سكان تلك المناطق من المساعدات، من دون أدنى اعتبار إنساني.
جلسنا في الليل في الخيمة عشرة أشخاص، نتحدّث في أمور شتى، وكان صوت طائرات إف 16 يثير ضجيجاً عالياً، وصوت القصف يدكّ خانيونس يثير قلقنا على الأهل هناك. قال أحدنا: "ليلة صعبة على خانيونس. طوال الليل، ونحن نحاول أن ننام. لم يتوقف القصف بالمطلق حتى طلع الفجر". قلتُ لفرج إنّ هذه الليالي تشبه تلك التي قضيناها في جباليا. هزّ رأسَه غير موافق، إذ لا شيء يشبه الرعب الذي عِشناه في بيته في جباليا. صحيحٌ أنّ الوضع هناك صار صعباً، وصار القصف ليل نهار وفي كلّ ساعة، إلا أنّ ما عشناه في جباليا لا يقارَن بأي وضع. كان الموت قريباً إلى الدرجة التي كنّا نفلت من مخالبه بصعوبة. كان الجوّ بارداً، والريح خفيفة وصوت الطائرات يأكل كلّ بحثنا عن ليلةٍ عادية، نسهر فيها مجموعة أصدقاء وأقرباء جمعتنا اللحظة. خفتت النار خارج الخيمة، وبدا الشاي الذي أعدّه جمعة ثقيلاً من كثرة ما غلى وفار وهو على النار. ارتشفتُ أول رشفة من كأسي. لم يكن ساخناً بشكل كبير. قلت: شاي النار يبرد بشكل سريع.
في الصباح الباكر، استيقظ محمّد وإبراهيم، وبدآ إيقاد النار قرب خيمة محمّد. كانت الساعة الخامسة والنصف، واستغرقهما الأمر نصف ساعة، حتى قامت النار واشتعلت. كان الموقد الذي اشتراه أخي محمّد يوم أمس "علاّقة" من الصفيح لإطعام الدجاج يجرى ملؤها بالحطب والكرتون، ويوقد من الفتحة الجانبية. جهّزا الشاي وبدأ النهار وكان بارداً. أولاد أخي محمّد يلعبون ويلهون حول الخيمة، وكنت أنظر إلى طفله أحمد ابن الأربعة أعوام، وهو يشد بوتد الخيمة ويضحك، وأتخيّل أن جدّه (والدي) كان في مثل سنّه حين بدأ المخيّم يتكوّن.
أخبرتني عيشة أنّ أطفالها يفتقدون الخبز فلم يأكلوه منذ أربعة أيام. لا يوجد طحين ولا يوجد خبز ولا أيّ شيء. يأكلون الأرز فقط، لكن الأطفال يريدون الخبز، لأنّ لا طعام بدون خبز. حاولت أن تشتري طحيناً بأي ثمن من دون فائدة، فلا طحين للبيع حتى بأسعار مرتفعة. اقترحتُ أن أرسل إليها بعض الأرغفة غداً. قالت إنّ الوضع صعب وسيكون مجازفة أن ياتي أي شخص. سألتُها عما إذا كانت تفكر بالقدوم إلى هنا. قالت إنها لا تعرف. لا ينامون ولا يغمضون أعينهم دقيقة من شدّة الانفجارات، والحياة باتت صعبة جداً، ولكن أيضاً فكرة الخروج لم تنضج بعد. مع ما في تلك المكالمة من "سمّة بدن" وقلق، إلا أنّها على الأقلّ طمّنتني عليهم، فلم أتحدث إليها منذ ثلاثة أيام.
طوفان من الناس يتحرّكون في شارع صلاح الدين من جهة خانيونس باتجاه رفح. اضطرّ الآلاف لترك بيوتهم في المنطقة الشرقية بعد القصف العنيف الذي تعرّضت له طوال الليل. الشارع الذي كسرته الطائرات بعد قصفه في أكثر من محور يعجّ بالناس الباحثين عن النجاة. الوجوه القاتمة والأطفال الناعسون والأجساد الرخوة المنهكة يشقّون الطريق سيراً على الأقدام بعد أن أعياهم البقاء والصمود، وشاهدوا الموت يخطف من يحبّون بلا رحمة. تنتقل الحياة من الشمال إلى الجنوب، ومن كلّ مكان إلى رفح. وعلى مقربةٍ من رفح، تمكن مشاهدة الحدود مع مصر، السلك الشائك والتلال المنخفضة التي يعني أي عبور لها نكبة أخرى.
على مقربة من رفح، تمكن مشاهدة الحدود مع مصر، السلك الشائك والتلال المنخفضة التي يعني أي عبور لها نكبة أخرى
مع كلّ ما حدث، ما زلنا في فلسطين، ويظلّ الانتقال إلى ضرورات النجاة داخل البلاد نفسها ممكناً، أما الخروج إلى ما بعد الحدود فنكبةٌ جديدة. يخاف الكلّ من اللحظة المقبلة، ومع تدفّق السكّان إلى رفح، ظلّ السؤال بشأن التهجير مشروعاً ومقلقاً في الوقت نفسه. هل سيُستكمل مشروع التهجير ودفع المواطنين نحو مصر؟ لا أحد يعرف، ولا أحد يريد، والكل يقول: لن نخرج أبعد من ذلك... تتحوّل رفح إلى معتقل كبير يفد إليه الناس مدفوعين بالموت الذي يطاردهم، آملين أن ثمّة نجاة مرتقبة رغم ذلك.
طوفان آخر من الناس يفدون من جهة شارع البحر بعد أن اضطرّوا لترك بيوتهم في خانيونس المدينة وفي المخيم. كان كثيرون منهم نازحين قبل أيام من الشمال وغزّة، وها هم ينزحون من مكان نزوحهم الجديد إلى المجهول الجديد. السيارات والأشخاص والجماعات، الكلّ يتنفس الصعداء حين يدخل رفح، لا يعرف هل هي فرحة النجاة أم صعداء المكروه الذي ينتظرهم. يتوافد الناس إلى المدينة من جهتين، فتمتلئ عن بكرة أبيها بشرقها وغربها، بشمالها وجنوبها، وتتحوّل، مع الوقت، إلى سجن أكبر مما كانت عليه، خصوصًا أنّ منظر البوابة الحدودية يعطيها هذا الشكل المكروه للمكان الذي لا يستطيع أحدٌ الدخول إليه أو الخروج منه.
فيما كنتُ أنتظر سيّارة تقلّني إلى وسط المدينة. توقفت سيارة فجأة ونزل منها صديقي عماد الآغا. عانقني وهو يسأل عن الأحوال وعن الصحّة والمآل. عماد الذي كان يترأس جامعة غزّة قبل سنتين اضطر لترك بيته في وسط خانيونس بعد تساقط القذائف عليه. حمل أولاده وزوجته وبعض ما يستطيع عليه في سيارته الصغيرة، وتحرّك عن طريق البحر وجاء للمكوث في بيت صديقٍ له. أخبرني أنّ في البيت عشرات جاءوا قبل ذلك لمشاركة الصديق نفسه المنزل، ولكن فكرة أنّ وجود بيت يسكن فيه الشخص بحدّ ذاتها إنجاز كبير، وهو سعيد بذلك. قال: "شايف لوين وصلنا". قلت: "بتتحسّن".
يخاف الكلّ من اللحظة المقبلة، ومع تدفّق السكّان إلى رفح، ظلّ السؤال بشأن التهجير مشروعاً ومقلقاً في الوقت نفسه
من الصعب أن تجد مواصلة في رفح الآن، فالسيارات تذهب وتجيء مليئة بالركّاب، فالسيارات الموجودة في المدينة لا تستوعب كلّ هذا الكم من السكّان الجدد. عليك الانتظار أكثر من ساعة من أجل أن تجد مكاناً تقف فيه فوق شاحنة أو في ممرّ باص أو على طرف عربة أو ربما تتشعلق بإحدى ركائز سيارة نقل. أي شيء، المهم أن تنتقل من حيثُ أنت إلى المكان الذي تريد. بعد ساعة، مرّ باصٌ مكتظٌّ بالسكان فيه أكثر من ضعف ما يمكن أن يحمله من ركّاب. دسسْتُ نفسي بالعافية بين الناس، وظلّ جزءٌ من يديّ معلّقاً في الهواء. سار الباص ببطء غير قادر على الطريق التي تصعد قليلاً قبل الوصول إلى وسط البلد. وهناك سرتُ بين الجموع. بالكاد يستطيع المرء أن يجد موطئا لقدمه. حاولتُ الاتصال بوالدي فلم أفلح. وفشلت محاولاتي للاتصال بمأمون، للاطمئنان عليه بعد الليلة العصيبة التي مرّت بها خانيونس. واجهت أيضا صعوبة بالاتصال بأختي سماح التي بتّ قلقاً عليها، فهي كانت تقيم في مدرسة قرب مدينة حمد التي جرى إفراغها من سكّانها بسبب شدّة القصف. لا يمكن التواصل مع حليمة أيضاً. قصة التواصل والقلق المصاحب له أحد مظاهر هذه الحرب. تمكّنت فقط من التواصل مع ياسر ابني الذي فضّل، ليلة أمس، أن يبيت عند جدّه وجدّته في المستشفى الأوروبي. سألني متى سآتي لأخذه. قلت في آخر النهار. قال المهم ألا ينام هنا. كالعادة، واجهت صعوبة في أن أجد مواصلة من وسط البلد إلى خربة العدس، حيث مقرّ الهلال الأحمر. في النهاية، أخذت مواصلة إلى الطريق العام، حيث سيكون عليّ أن أواصل المسافة سيراً باتجاه الهلال. كان هذا يعني نصف المسافة. أمرٌ مرهق، ولكن لا مناص من ذلك، ولا خيار آخر. وصلت مرهقاً من حمل الحقيبة. كنتُ وأنا أتوجع أفكر في جدوى ذلك كله. جدوى حمل الحاسوب من أجل الكتابة ومواصلة متابعة ما يجري. أمرٌ مرهق، وفكرة الاستمرار في أي شيء تصير مع الوقت أمراً مرهقاً لا يعود الواحد منّا قادراً عليه.
يتجمّع الناس أيضاً اليوم أمام مقر الهلال في خربة العدس. يفد مزيد من العائلات إلى المنطقة من جهاتٍ مختلفة. صار مبنى الهلال في طابقيه، الثاني والثالث، ملاذاً لبعض من عائلات العاملين في فروعه المختلفة. تزيد الحركة وتضيق المساحات. تحوّلت الغرفة التي نجلس فيها إلى غرفة طوارئ بعد اضطرار الطواقم العاملة في فرع خانيونس لترك المقر الكبير هناك. ثم تحوّلت القاعة إلى قاعة اجتماعات وطوارئ، حيث جرى نصب جهازي تلفزيون وشاشات كمبيوتر، وتحوّل المكان الذي كان شبه فارغ قبل عشرة أيام إلى خلية نحلٍ لا يتوقف فيه الطنين والحركة. كما أنّ الشارع أصابته العدوى من ذلك، فصار مكتظّاً مليئاً بالناس والسيارات.
(6 ديسمبر)
دخلت الحرب شهرها الثالث، والقتل والتشريد والتدمير مستمرّة. يزداد الخوف من المجهول الذي يبدو أكثر قرباً كلما مرّ الوقت، وأكثر قسوة ورعباً كلما اقتربنا منه، أو كلما دفعنا نحوه بغير رغبتنا. ما زال ناسٌ كثيرون يصلون إلى رفح، خصوصا من مناطق خانيونس. العمليات العسكرية تتواصل في مناطق قطاع غزة كافة، تتكثف أكثر في جباليا والشجاعيّة وخانيونس. يريد الجيش إفراغ جباليا والشجاعية من السكّان، حتى يواصل تدميرهما، فيما يحاول في خانيونس فرض حصار على المدينة والمخيّم وقصفها من الداخل، بغرض تهجير سكانها وتسهيل مهمّته في مواصلة التدمير والقصف في داخلها. الحرب تواصل أكلنا والتهامنا من دون توقف. الحرب التي يظنّ العالم وهو يشاهدها على التلفاز أنه يشاهد مجرّد نشرة أخبار. لقد تحوّلنا إلى خبر في نشرات الأخبار أو جزءاً من شريط الأخبار العاجلة لا ينظر إليه أحد. صِرنا روتيناً في التفاصيل اليومية، وصار موتُنا مجرّد خبر عادي، مثل نتائح مباراة في الدوري الإسباني، وتحوّلنا إلى أرقامٍ تجرى تلاوتها برتابة النعاس، وهو يغادر الجفون. لا شيء يثير قلق العالم، فنحن نموتُ بهدوء، ونحن نمضي بلا ضجيج، لأن هذا الضجيج لا يصنعه صراخ الضحايا، بل الضمير الميّت. العالم مستمتع، وهو يقنع نفسه بأن كل شيء على أفضل ما يرام، وأن كل شيء عادي جداً، وأن الأمور تسير في أحسن حالةٍ يمكن أن تكون عليها.
تم، أمس، تسجيل الدبكة الفلسطينية على لائحة التراث العالمي، في جهد كبير قامت به الوزارة في العاميين الماضيين. كان يجب أن أكون في بتسوانا للمشاركة في اجتماعات اللجنة الحكومية للتراث الثقافي غير المادي التابعة ليونسكو، إلا أنني لم أتمكّن بسبب الحرب من مغادرة غزّة والمشاركة، وكان يجب أن نشارك بوفد كبير يضم، إلى جانب كادر الوزارة، فرقة فنّية تقدّم عرضًا فنيًا أمام اللجنة، لم يتم ذلك، فأوضاع الحرب تجعل أي احتفال وأي مهرجان أمرًا غير مرغوب، كما أنّ لا طاقة للإنسان للفرح في أوقات الدم والقتل. كنت أنوي تنظيم احتفالات وحفلات دبكة في كلّ المحافظات، احتفاء بهذا الإنجاز الكبير، وحضّرت طواقم الوزراة خلال ستة أشهر لذلك كلّه، لكنه لم يتم. شعرتُ بالفرحة العامة بأننا تمكّنا من عملية الإدراج. وهذا العنصر الثاني الذي تسجله دولة فلسطين بعد انضمامها إلى يونسكو وإلى الاتفاقيات 2005 و2003، بعد تسجيلنا عنصر التطريز الفلسطيني على القائمة نفسها قبل عامين. فور تسلمي مهامّي، نظرت وما زلت بأهمية كبيرة إلى موضوع التراث الوطني، والحفاظ عليه وتظهيره. لم يكن هناك تسجيل على اللائحة بشكل رسمي بالمطلق. قبل سنوات طويلة، سجّلت منظمات المجتمع المدني عنصر الحكاية، ولم تكن هناك لائحة، بل كان الأمر يتم ضمن ترتيبات أخرى. ومع ذلك، بعد توقيع اتفاقية 2003، جرى تحويل عنصر الحكاية ضمن اللائحة التي باتت تضمّ التطريز والدبكة. وسنحتفل العام المقبل بالصابون البلدي، المعروف حالياً بالصابون النابلسي، بعد إغلاق المصابن في المدن الأخرى، خصوصا في يافا التي كانت فيها 11 مصبنة. الملف جاهز وهو في طور الإقرار. التراث مكوّن أساس في صياغة الهوية الوطنية، ولا يمكن تخيّل الحياة الاجتماعية الفلسطينية منذ آلاف السنين من دون الدبكة، فالفلسطيني لا يقيم حفلاً لا تكون الدبكة جزءاً منه ومن طقوسه، فحتى فلسطينيو أميركا اللاتينية الذين هاجر أجدادهم من البلاد قبل قرن ونصف ما زالت الدبكة، وما زال التطريز، جزءاً من حياتهم.
يزداد الخوف من المجهول الذي يبدو أكثر قرباً كلما مرّ الوقت، وأكثر قسوة ورعباً كلما اقتربنا منه، أو كلما دفعنا نحوه بغير رغبتنا
ثمّة قصة متداولة في المخيّم سمعتُها في طفولتي، فبعد النكبة بأشهر، جمع مسؤول أممي يعمل في قطاع الإغاثة رجال المخيّم، وسألهم عن مطالبهم الحياتية، وما يمكن لمنظمته أن تقدّمه. لم يكن قد مرّ على النكبة إلا بضعة أشهر. وكان الناس في الخيام فوق سوافي الرمال، ولم تكن حتى وكالة الغوث قد تأسّست. هناك من طلب ماءً نقياً، ومنهم من رفع يده يحتج على عدم وجود أدوية، وطالب آخر بتوفير التعليم. وقف رجل من قرية برير، وقال إن الأرض هنا رمال، وهي لا تصلح للدبكة، وطالب بـ"تسوية" قطعة أرض وتغطيتها بالإسمنت، حتى يستطيع الرجال أن يدبكوا.
بات مقرّ الهلال الأحمر أكثر اكتظاظاً، فلم يعد للمتطوعين من كلّ فروع الهلال في القطاع مكانٌ غير مقر خربة العدس، فكثيريون اضطرّوا لترك فرع الهلال في خانيونس، وقدموا إلى هنا، ما أحدث اكتظاظاً كبيراً في المقر الصغير الذي كان مخصّصاً لخربةٍ بحجم هذه الخربة في منطقة رفح الحدودية. يتكدّس عشرات المتطوّعين في المقر، وضجيج من كلّ مكان وأحاديث في كلّ زاوية. المكان، الذي ظننتُ أنه يمكن لي أن أمضي فيه يومي بهدوء، واقرأ وأكتب فيه، لتوفر شبكة الإنترنت والكهرباء، تحوّل إلى خلية تطنّ وتزنّ، ولا تتوقف الحركة فيها. حتى الإنترنت صار بطيئاً، والكهرباء باتت تُقطع كل فترة وأخرى، بسبب ضعف الطاقة الشمسية، بسبب عدم سطوع الشمس، فالجوّ غائم بشكل شبه دائم. كما أنّ الناس تزداد كل يوم أمام المقرّ طلباً للمساعدات، حتى إن بعضهم يرغب بالإقامة في المقر، كما يقيم مواطنون كثيرون في المستشفيات والمباني العامة طلباً للحماية. أوضح لهم مدير الإمدادات في الهلال، محمود، إنّ المكان ليس للإقامة، بل لإدارة عمليات إدخال المساعدات. ولذلك سيعيق إشغال المكان هذه العمليّات، وسيحرم بالتالي الآلاف من وصول المساعدات إليهم. سيقدّم الهلال كلّ مساعدة ممكنة لهم، من توفير أغطية وخيام وطعام، ولكن لا يمكن أن يتحوّل المقر الصغير إلى مركز إيواء، فهذا يعطّل مهامه. والناس معذورة في ما تفكّر، فهي لا تجد مكاناً تنام فيه، ولا تجد ما يسترها. لذلك ترغب في أي شيء يمكن أن يكون سكناً. ومن يسير في الشوارع، خصوصا في المناطق الغربية لرفح، يشاهد مئات الرجال والنساء مشغولين بنصب الخيام وتنظيف الأماكن والزوايا والمداخل، وكل ما قد يصلح لنصب خيمة عليه. تنتشر خيام في كل مكان. تتحول رفح إلى مدينة الخيام وإلى مخيم ضخم، ربما يكون الأكبر في تاريخ النكبتين، السابقة والحالية. لذلك، يحاول الناس كلّ يوم اقتحام مقرّ الهلال للإقامة فيه، وهو ما يهدّد استمرار تقديم الخدمة، فعلى الهلال مسؤولية تنسيق دخول شاحنات المساعدات من مصر إلى قطاع غزّة، ومن ثم توزيعها على المنظمّات والجهات المختلفة التي توزّعها على النازحين.
أخبرتني هناء أنّ بيت أهلها تم تدميره جزئياً، إذ هدمت القذائف جدران المنزل الخارجية، وسقطت في الصالون وفي الغرف. حمدنا الله أننا أخرجنا الحاجّة والحاج من هناك، وأننا استطعنا نقلهما إلى المستشفى الأوروبي. لا مكان آمناً في غزّة، والأمر مثبط أكثر في السياق والوقت الذي جرى البحث فيه عن هذا الأمن. ما يحتاجه الإنسان أن يكون آمناً لحظة وقوع الخطر، لا أن يكون آمناً دائماً. تتواصل هناء مع عمّها ممدوح الذي لم يغادر بيته، ويعتقد أن البيت المنزوي بين البيوت الأخرى قد يكون أكثر أمناً وبعداً عن الخطر. ولذلك بقي في البيت. اقتربت الدبابات من البيت، ووقفت في الشارع، وقصفت كما تفعل بشكل عشوائي، ولم يصب بيته بأذى. أخلى الجميع المنطقة، فعمها منصور وزوجته ونجله وبقية العائلة كلهم انتقلوا للمكوث في المدرسة طلباً للحماية. يتحدّث الجيش عن محاصرة جباليا، وأنا عاجز عن الاتصال بوالدي والاطمئنان عليه. بات الجيش داخل جباليا، وشوراع قليلة لم تصل إليها الدبابات، ولكنها كلها تحت بطش القناصة وعصف القذائف. ظلّ البيت واقفاً ولم يسقط، وسقطت الجدران وصار البيت عارياً. قالت هناء بحسرة: الحمد لله، المخازن في الطابق الأرضي لم تتأثر، حيث يمكن لوالديها أن يقيما فيها بعد الحرب. على الأقل يجدون مكاناً يؤويهم... حين تنتهي الحرب قصة أخرى. فكّرت في والدي وبقية العائلة، مثل أخوي إبراهيم وخليل، وما إذا كانوا سيجدون مكاناً يؤويهم.
التراث مكوّن أساس في صياغة الهوية الوطنية، ولا يمكن تخيّل الحياة الاجتماعية الفلسطينية منذ آلاف السنين من دون الدبكة
الملل مرهق. الشعور بالعجز مرهق. القلق مرهق. البحث عن الحياة مرهق. كل شيء حولنا مرهق. الحياة نفسها مرهقة. التفكير في الأهل مرهق. استذكار الماضي واستحضار من رحلوا في الحرب مرهق. التفكير في المستقبل مرهق. كل شيء يبدو مرهقاً وقاهراً ومثيراً لمزيد من الخوف. الانتظار مرهق. والصمتُ مرهق والحديثُ مرهق. كل ما يقوم به الإنسان مرهق مرهق مرهق. تعبتُ بشكل كبير. جسدي وعقلي وروحي، وكلّ شيء فيّ، تتألم. ما زلتُ أعاني كثيراً من الوجع في ظهري جهة اليسار، خصوصا حين أجلس مدة طويلة على الكرسي. كما أنني أشعر بالوجع نفسه حين أنام على الفرشة الرقيقة، فأتقلب يميناً وشمالاً محاولاً إراحة ظهري من دون فائدة. لذلك صرتُ أفيق صباحاً قبل طلوع الشمس، وأجلس على الفرشة في انتظار أن يفيق الجميع. أجلسُ أتأمل الصباح وهو يخرُج من شرنقته، والشمس وهي تسطع في الأفق طازجة ناعمة.
في رفح، حيث ينحني البحر، يبدو شروق الشمس وغروبها مختلفين، فهي تشرق من الشرق، ثم لأن البحر والمكان ينحنيان عند حافّة آسيا القارّة قبل الولوج في أفريقيا، فإن الشمس تبدو للمواطن وكأنها تغرب من الجهة المجاورة، فيبدو الغروب بجوار الشروق. يطلق المواطنون على هذه المنطقة، بسبب هذه الظاهرة، المنطقة المسحورة، ظنّاً منهم أن الأمر مثل السحر، فيما في الحقيقة فقط انحناء البحر والأرض هو ما يُحدث هذا الوهم.
زرتُ مساء أمس أختى حليمة التي نجت من مذبحة استهدفت المدرسة التي كانت تنزح فيها في خانيونس. في المذبحة، قتل ستون مواطنا ممن هربوا من الموت في غزّة والشمال، ليواجهوه في الجنوب. نجت هي وأطفالها، وهربت إلى رفح. نصبوا خيمتهم في منطقة الخيام مقابل بركسات الوكالة، وها هم ينتظرون مصيرهم. تقع خيمتهم على مسافة خمس دقائق مشياً على الأقدام عن مكان خيامنا. تعانقنا وكانت فرحة اللمّة كافية لأن تُضفي بعض المرح على النصف ساعة التي أمضيناها قبل أن تسير معي حليمة في الشارع الترابي مودّعة، وأنا أعود أدراجي إلى الخيام، حتى تبدأ السهرة في الخيمة التي أقيم فيها. ففي كل ليلةٍ بات التجمّع في خيمتي، حيث نمضي الوقت نتحدّث ونتسامر ونتبادل ما سمعنا من إشاعات أو أخبار أو أي شيء. لا تعرف حليمة إلى أين المستقرّ المرّة المقبلة. تجنّبت أن أنظر جهة الحدود، وأشرتُ إلى الشمال، وقلت: ستعودين إلى الشمال. قالت: "إنشاء الله" بشكلٍ شلع قلبي من مكانه، لأن العودة إلى الشمال باتت رغبةً لا تُقاوم. لقد عاني الناس كثيراً خلال عملية النزوح، وعانوا بعده من قسوة الحياة وشظف العيش وقسوة الطقس وقلة الطعام. تفاصيل قاهرة حوّلت حياتهم ولحظاتهم الجديدة إلى جحيم. ليس المكان الجديد أفضل وليس أسوأ بالنسبة له، فكلّ شيءٍ خارج البيت صعبٌ ولا يُحتمل. وحدَه البيت المكان المريح الوحيد.
الشاب الذي يحضّر لنا ما نحتاجه في مقرّ الهلال، عبد، أبكم. وصار عليّ مع الوقت أن أتحدّث معه بلغة الإشارة. متعاون بشكل كبير، ودائماً يبتسم وهو يقوم بواجباته. فور أن أصل، صار يضع زجاجة الماء فوق الطاولة. لا قهوة بشكل مستمر، ولا خدمات كثيرة يمكن القيام بها. وحده الماء، وربما مرة واحدة القهوة، فهي باتت عزيزة، الحصول عليها صعب. الآن، مع تدفّق العشرات من المتطوّعين، والازدحام الذي يشهده مقرّ الهلال، تضاعف عمل عبد الذي عليه أن يعتني بالجميع.