يقف المتتبع لواقع الهجرة الأفريقية إلى الجزائر على حالات إنسانية لم تفلح الجهود المبذولة شعبياً وحكومياً في وضع حد للصعوبات التي تمرّ بها يوماً بعد يوم. هو واقع مفروض عليهم، هم الهاربون من مشاكل بلادهم والعالقون في مشاكل أخرى.
تقدّر وزارة الداخلية الجزائرية عدد المهاجرين غير الشرعيين، من الدول الأفريقية، خصوصاً مالي والنيجر، بما بين 25 ألفاً و30 ألف مهاجر، لأسباب يأتي في مقدمتها الفقر والوضع الأمني المتأزّم. بعضهم يدخل البلاد بنيّة الاستقرار النهائي، فهي تبدو لهم، بالمقارنة مع بلدانهم، مثلما تبدو أوروبا للجزائريين. والبعض الآخر يتخذ منها معبراً إلى دول شمال المتوسط.
يعيش المهاجر الأفريقي أوضاعاً إنسانية صعبة، تبدأ بالخطوة الأولى المتمثلة في دفع مبلغ مالي كبير لشبكات التهريب، لا يقلّ عن 1000 يورو، مروراً بفخاخ الطريق المحفوف بمخاطر الإرهاب وقطّاع الطرق والملاحقات الأمنية وتخلي المهربين عنه. كثيراً ما عثر على عشرات المهاجرين، إمّا موتى عطشاً في الصحراء الكبرى، وإمّا في الرمق الأخير، وصولاً إلى مكابدات العيش خفية داخل الجزائر.
بالجرم المشهود
"العربي الجديد" كانت هناك. تنطلق بنا الحافلة ليلاً بين مدينة بشار التي تبعد عن الجزائر العاصمة 1000 كيلومتر جنوباً، ومدينة أدرار على مسافة 600 كيلومتر عنها. تتوقف عند الحواجز الأمنية الستة للتفتيش الذي كان يتوجّه كليةً إلى ركابها من الشبان الأفارقة. بعضهم اقتيد إلى محطات المراقبة، من غير رجعة، والبعض جرى تفتيشه داخل الحافلة. الأسئلة التي وجّهها رجال الأمن الجزائريون إلى هؤلاء تتعلق بالمكان الذي جاؤوا منه ووجهة الاستقرار، والطريقة التي قادتهم إلى الجزائر، والأعمال التي يشتغلون فيها، وعن علاقاتهم بأفارقة آخرين داخل الجزائر. لم ينجُ من التحقيقات إلا مَن يحملون جوازات سفر قانونية، مرفقة ببطاقات جامعية، فالجامعات الجزائرية تستقبل سنوياً مئات الطلاب الأفارقة، في إطار اتفاقيات شراكة، منها الجامعة الأفريقية في مدينة أدرار.
في الحافلة نفسها، يكشف أحد الجنود المنتمين إلى ثكنة "311 مشاة" في مدينة عين صالح الصحراوية، أنّ تخوفات الأمن الجزائري تبررها جملة من النشاطات غير القانونية التي يقوم بها المهاجرون الأفارقة. يذكر لـ "العربي الجديد" بعض هذه النشاطات، ومنها "تزوير الوثائق والعملات الأجنبية، وممارسة السحر والشعوذة".
يقول: "مرة لاحظنا أنّ أحد الأفارقة توسع تجارياً، بالرغم من مرور عامين فقط على دخوله البلاد. أوصلتنا تحرياتنا إلى أنه يتزعم عصابة لتزوير الوثائق التي تتيح الهجرة إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا بطريقة سهلة. أذهلنا المستوى المتطور للآلات التي كان يستخدمها في العملية".
تزوير وخوف
لا يغفل الجندي الإشارة إلى أنّ "تزوير الوثائق، لا يستفيد منه الراغبون في مواصلة طريق الهجرة، أو البقاء في الجزائر فقط، بل يتعدى ذلك إلى المهربين وبعض أفراد الجماعات الإرهابية الناشطة". في السياق نفسه، يقول أحد رجال الشرطة الذين كانوا يطاردون مجموعة من الشباب النيجيريين الذين خرجوا طلباً للطعام في الضاحية الشرقية لمدينة أدرار، لـ "العربي الجديد": "أعيش، وأنا أطاردهم، صراعاً بين صوتين، أحدهما إنساني، إذ أعلم أنهم بشر مثلنا، وما كانوا ليغادرون بلدهم لو وجدوا الرغيف والأمن فيه. والآخر مهني يفرض عليّ حماية المجتمع من المشاكل التي يتسببون فيها".
تمكنت دورية الشرطة التي ينتمي إليها هذا العنصر من القبض على خمسة شبان من المجموعة النيجيرية، وحشرتهم في مركبة خاصة، فيما تمكن آخران من الاختفاء خلف فندق قريب. نجحت "العربي الجديد" في التحدث إليهما بعد محاولات عديدة بسبب خوفهما من عناصر الشرطة المتخفية بالملابس المدنية. يكشف الشاب عثمان (23 عاماً) لـ "العربي الجديد"، أنه جاء من منطقة ديفا في غرب النيجر. وبعدما خسر مبلغ 1300 يورو ككلفة للنقل، تمكن من الوصول، بعد 27 يوماً، إلى مدينة تامنراست في الجنوب الجزائري، حيث كان في انتظاره بعض الأصدقاء الذين سبقوه في الهجرة، ويشتغلون في الحفر والبناء.
يقول بفرنسية مكسّرة: "ضموني إليهم، وكنا نبيت في نفس ورش البناء، لكنني مللت من الوضع، لأنني كنت أتلقى مالاً أقل بكثير من الجهود التي كنت أبذلها، فلا يبقى منه الكثير إن أطلقت يدي في الإنفاق على نفسي. كان معظمنا يقتات على الخبز والحليب، ليوفر جزءاً من المال يرسله إلى أهله في منطقة أنهكها الجفاف". يتابع عثمان أنهم اتفقوا مرة مع أحدهم على إنجاز بيت له، مقابل مبلغ إجمالي دفع لهم منه الثلث. وبعد انتهاء الأشغال، هددهم بإخبار الشرطة عن مكان تواجدهم إن هم طالبوه ببقية المستحقات.
يعلق: "هو تحايل صريح، كثيراً ما يتعرض له الأفارقة، وكذلك المغاربة المتخصصون في الزخرفة، في بعض المدن الجزائرية التي يقيمون فيها، وأمام تلك التجربة القاسية، قررت دخول مدينة أدرار، لأنني سمعت أنّ الأوضاع فيها أفضل". في المقابل، جاء بوبكر من مالي قبل فترة طويلة. يعمل اليوم مشرفاً على المشوى الأفريقي في الفندق نفسه الذي اختبأ خلفه الشابان. يقول: "لم أشعر يوماً أنّي غريب عن المكان وأهله، حتى أنّي تعلمت العربية، وأتواصل مع جميع الزبائن الذين يعاملونني بشكل لائق".
"ليس عنصرياً"
من جهتها، تقول شافعة، الممرضة في مستشفى أدرار، إنّها تتفهم قلق الجزائريين، من رؤيتهم آلاف الأفارقة يجوبون شوارع مدنهم، من غير أن يعلموا إن كانوا قد خضعوا لمراقبة صحية، عند عبورهم الحدود أم لا. تتابع: "كيف يكون شعورك وأنت تتوقع أنّ هذا الإنسان قد جاء من بيئة تعشش فيها أمراض فتاكة مثل الإيدز والإيبولا؟". تؤكد أنّ كلامها لا ينبع من منطلق عنصري، بل هي تدعو فقط إلى إخضاع المهاجرين إلى فحوص دقيقة قبل السماح لهم بالدخول إلى الجزائر: "في ما عدا ذلك، كلّ المهاجرين الأفارقة مرحب بهم، خصوصاً أنّهم في حالة حرب. وقد سبق لهم أن احتضنونا أثناء ثورة التحرير في خمسينيات القرن العشرين. ورئيسنا الحالي نفسه (عبد العزيز بوتفليقة) يلقب بعبد القادر المالي، لأنه كان ممثل جبهة التحرير في دولة مالي".