الولع بالملكية ليس بالأمر المستغرب. معظم الناس يسعون في هكذا اتجاه. لكننا على الأغلب نجهل الدافع العميق وراء ذلك، أو ربما نبرّره بطرق شتّى، متجاهلين مساوئ ننجر إليها مع تفضيلنا لنمط عيشٍ تفرضه نزعة مادية متمادية.
ربما ينشأ الاستلاب النفسي المعاصر من وراء هذه النزعة التي تزيد من الشرخ المجتمعي وتبني حواجز تفصل بين الناس على أساس قيمة الملكية وحدها دون سواها من القيم الأساسية. كما أنها تباعد بين أناس يعانون من مشاكل وأزمات متشابهة، إذ تدفعهم إلى الأنانية وحب الذات؛ الأمر الذي يتحول إلى عماء اجتماعي يحول بين الناس ورؤية بعضهم بعضاً على صورهم الحقيقية.
يكاد يُختصر الإنسانُ المعاصر ببُعدٍ واحدٍ، هو ما يملكُ لا ما يعطي. عندما يتعارف أناسٌ جددٌ بعضُهم إلى بعض، مثلاً، سرعان ما يبرزون الراتب الذي يحصلون عليه نهاية كل شهر. بهذا فقط يمكنهم تقديم أنفسهم.
يبدو الهرب من الضائقة إلى ملاذ مالي آمن على رأس أولويات حياتنا. غير أننا إذا ما نظرنا تحت هذه الطبقة الحاجبة، نجد أنفسنا وحيدين ومعزولين، فمقتضيات الأمان، إذا ما توافرت، تلغي غيرها من احتياجاتنا، ومع مرور الوقت نعتاد على هذه الحال، ولا نعود نتذكر الجوهري من حياتنا.
لا شكَّ أن الحاجة إلى الأمان فطرة أساسية، ولا يمكن لنا الخطو إلى ما بعدها من دون استقرار وشعور بالطمأنينة. غير أن بقاءنا رهنَ هذه الفطرة ينزل بنا إلى منزلة الغريزة البيولوجية، فنبقى أحياء لمجرد أننا أحياء ونرغب في الاستمرار لا غير. وعلى هذه الحال تكون قمة أحلامنا غارقة في قاع حياة بدائية.
لكن إلى أين يمكن أن تقودنا الحاجة البيولوجية بعدما تغلَّفت وتعقَّدت؟ ألا يمكن أن تكون فخاً يترصدنا، أليست هي حالة شبيهة بمجتمع القنص والصيد، ألا توحي أصلاً بشعورٍ مضطرب وحالة غير مستقرة!
لا يمكن للرضى المالي عن طريق حس الملكية وحده أن يمنحنا الشعور الحقيقي بالهناء والانتماء إلى مجتمع منسجم، وبهذه الحالة فإن الشعور العام هو المدخل السليم إلى تحصين الأفراد، سواءٌ كانوا ممن يملكون الكثير أو القليل.
يقول كثيرون إن الأمر فُرض عليهم نتيجة تغيرات اقتصادية اجتماعية، أو بسبب ما بات يُعرف بـ "صنع حاجات غير حقيقية"، تحت تأثير الدعاية ورواج أنماط استهلاك يُجبَر الناس على تغيير عاداتهم القديمة التي اتسمت بالبساطة.
إن الأنماط الجديدة لا تفرض تغيرات سطحية وحسب، بل إنها بسبب هذه التغيرات، وما تلزمه من مظاهر عيش ولباس وأكل، تكسبنا طرق تفكير لا نعود معها نشبه أنفسنا، فنصير متعددين رقماً متشابهين جوهراً، وهذا ما يجعل منا عائمين داخل بُعدٍ واحدٍ أشبه بسجن متنقل.