ليل القدس المحتلة في رمضان: حياة وأمل ومعاناة
العربي الجديد
ليل القدس في رمضان أجمل من النهار، والشهر الفضيل كما يقول مقدسيون، مناسبة لا يعادلها مناسبة. تسترد المدينة طابعها العربي والإسلامي، وتنبض الحياة في قلبها المثقل بالاستيطان وإجراءات التهويد التي تجعل المقدسي هدفاً يومياً لمنعه من التنقل بحرية، أو عرضة لملاحقة قوات الاحتلال، واقتحامات للأحياء والبلدات، واعتقال الأطفال، وتدنيس المقدسات.
في رمضان، تتنفس القدس هواء عروبتها، حسب مدير نادي الأسير في القدس، ناصر قوس، والذي يرصد على مدار الساعة ما يحدث في المدينة المقدسة، وما يعانيه المقدسيون تحت الاحتلال.
طقوس رمضان الخاصة تبدأ قبل دخول الشهر بتزيين الحارات العتيقة بالأضواء، وتتسابق الحارات في ذلك، من "باب حطة" الحارة الأشهر في البلدة القديمة، أو حارة "السعدية"، وهي امتداد للحارة الأولى، وكذلك الأمر في شارع "الواد" شريان الحياة والطريق المفضي إلى الأقصى، وأيضاً في عقبات الخالدية والسرايا والشيخ ريحان، لتبدو القدس في ليلها مدينة أضواء تسر الناظرين.
يقول ناصر قوس، لـ"العربي الجديد، إن شهر رمضان يشهد تعزز أخوة المسلمين والمسيحيين، حيث يجتمعون على مائدة إفطار واحدة، ويتبادلون الزيارات، "أجواء لا تجدها إلا في القدس، ويضفي عليها رمضان رونقاً خاصاً".
بالقرب من "باب الساهرة"، أحد الأبواب الرئيسية للبلدة القديمة، يتخذ راغب بدوي، مكاناً دائماً كل يوم ليبيع المشروبات والعصائر المفضلة للمقدسيين تحت اسم "عصائر أبو الراغب، وتضم "العرقسوس"، و"الخروب"، و"اللوز"، و"الليمون"، و"التمر هندي".
منذ خمسة عشر عاماً أو يزيد، يمارس أبو الراغب واثنان من أبنائه هذه المهنة، وفي ذات المكان كما يقول راغب لـ"العربي الجديد"، مضيفاً: "أنا وأخي نساعد والدنا في مصروف البيت. نحن عائلة مكونة من 4 بنات وولدين، أما الوالدة فمتوفاة. الحياة صعبة في القدس، ووالدنا لا يمكنه أن يؤمن معيشتنا وحده. الناس تقبل على عصائرنا من اللوز والعرقسوس، لكن المشروب المفضل في أيام الحرّ هو الخروب، ورمضان هو أكثر المواسم أهمية لنا حيث تحل علينا بركاته وفضائله".
تتحدر عائلة أبو الراغب من واحدة من خرب بلدة دورا بمحافظة الخليل جنوب الضفة الغربية، وانتقلت من هناك قبل عقود لتستقر في حي واد قدوم، من أراضي بلدة سلوان جنوب المسجد الأقصى.
في هذا الحي نشأ راغب وشقيقه محمد، وأيضاً شقيقاتهما الأربع، وهو واحد من الأحياء الفقيرة الواقعة على تخوم البلدة القديمة جنوب الأقصى، وفيها كثافة سكانية عالية، وأغلب السكان نازحون من مناطق مختلفة، وانضموا للحي إلى جانب أهله الأصليين من أبناء بلدة سلوان.
في شارع صلاح الدين، وهو من أهم المراكز التجارية خارج أسوار البلدة القديمة، تنتعش الحياة في رمضان، ويزدحم بالرواد من أبناء المدينة يرتادون محلات السكاكر والعصائر الطازجة والبوظة، بينما تندفع النسوة قبل العيد إلى هناك للتسوق وشراء ملابس العيد لأطفالهن، قبل زحام ليلة العيد، كما تقول حنين الرشق لـ"العربي الجديد".
حنين، هي أم لثلاثة أطفال من حارة السعدية بالبلدة القديمة، وتقول وهي تقف أمام أحد المحال التجارية في شارع صلاح الدين: "الأفضل لربات البيوت أن يشترين ملابس لأطفالهم مبكراً، ليلة العيد يكون الكل مشغول، بتنظيف البيت وتجهيز الكعك وحلويات العيد، عدا عن أن هذا الوقت لا يوجد فيه زحام كما في ليلة العيد".
مطعم "أبو حسن" في شارع صلاح الدين، وهو أشهر مطاعم الحمص في القدس المحتلة، وإلى جواره يجلس عشرات الشبان في فناء ساحة مفتوحة أسفل "مول الدار"، بعضهم يدخن النرجيلة وآخرون يشربون الشاي، تعلو أصوات موسيقى وغناء شعبي فيندفع بعض الجالسين لرقص "الدبكة" الشعبية التقليدية.
يقول الشاب محمود الشلودي لـ"العربي الجديد": "يحلو السهر في رمضان، رمضان في القدس غير"، ويقول زميله تامر الدجاني: "نأتي إلى هنا منذ أول رمضان لنسهر ونشرب النرجيلة ونسمع الموسيقى، الأجواء هنا حلوة، ونظل حتى موعد السحور، ثم نذهب للمسجد الأقصى فنتناول السحور ونصلي، ويعود كل منا إلى بيته".
في البلدة القديمة من القدس، يبدو المشهد أكثر جمالاً كلما اقتربت من المسجد الأقصى، أو نزلت إليه عبر درج حارتي السعدية وباب حطة، من هناك تمر قريباً من منزل الشهيد بدوي كاشور، ومن جوار منزل الأسير المقدسي رجائي الحداد، الذي أمضى، حتى الآن، تسعة عشر عاماً في سجون الاحتلال، ومن المقرر الإفراج عنه العام المقبل متمماً مدة محكوميته.
يقول شقيقه الناشط المقدسي علاء الحداد، لـ"العربي الجديد": "رمضان غير من دون رجائي، قريباً سيكون معنا، لن تجد أجمل من حارة السعدية في رمضان".
والتقى "العربي الجديد"، بالمنشد أبو عمار سدر، أشهر منشد ديني في حارة باب حطة بالبلدة القديمة، لنحل بعد ذلك ضيوفاً عليه في منزله في باب حطة، ولم يخف سدر، فخره بأبناء حارته، الذين يتفوقون في تزيين حارتهم عن سائر شباب الحارات الأخرى، لتبدو الحارة وحتى مدخل الأقصى كأنها نهار يملأ المكان.
وإضافة إلى كونه منشداً دينياً وعضواً مؤسساً في فرقة الإنشاد المقدسي، فهو أيضاً من أشهر مؤذني الأقصى، ويقارب صوته صوت القارئ المصري الراحل محمد رفعت، والذي لا يخفي إعجابه بصوته في الأذان وقراءة القرآن.
يقول سدر: "قبل أربعين سنة احترفت النشيد الديني، وكنت وقتها شاباً صغيراً، وخلال ذلك تعرفت على كبار المنشدين المقدسيين مثل المنشد المعروف بالإسكافي، وصابر الجندي، وكلهم من عشاق الصوفية والطريقة النقشبندية".
يعد أبو عمار سدر من معالم القدس في رمضان، فما أن يعلن عن ثبوت رؤية هلال الشهر الفضيل، حتى ينطلق في مسيرة من منزله في باب حطة إلى المسجد الأقصى ومنها يعود إلى شوارع البلدة القديمة".
يرى سدر، أن الإنشاد الديني جزء أصيل من تراث القدس وأهلها، ومعاناة الشعب الفلسطيني عموماً، ولذلك تحضر في أناشيده معاناة الأسرى في سجون الاحتلال، وأنين المسجد الأقصى ومعاناة رواده، وحتى حياة الفقراء من أبناء حارته ومدينته.