مقابل 30 دولاراً سمح أحد الجنود العراقيين لفريق "العربي الجديد" بالدخول إلى مناطق لم يدخلها أي صحافي من قبل في الموصل القديمة، إذ تنتشر الجثث، والمباني لا تزال غير آمنة، ويعتقد أن أعضاء من تنظيم "داعش" يختفون في سراديب أسفلها، ما يعوّق وصول القوات العراقية حتى الآن إلى حالة من الاطمئنان إلى أن المنطقة باتت مؤمنة بالكامل.
وفي حي النجيفي، آخر معاقل تنظيم "داعش" في الموصل القديمة، الذي يفضي إلى نهر دجلة، كانت عشرات العائلات تخرج حتى صباح اليوم الأربعاء من مخابئها، بعضها التجأ إلى حفر وبعضها الآخر إلى سراديب، وكانت القوات العراقية تتخذ حيالها إجراءات مختلفة، فتلزم الرجال بخلع ملابسهم والبقاء بسراويلهم الداخلية، وتطلب من النساء مسح أجسادهن أمام الجيش، للتأكد من أن أيا منهن ليست انتحارية.
الماء كان أول مطالب تلك العوائل التي بدا عليها الجوع واضحا من الأجساد الهزيلة والوجوه الشاحبة. وقالت إحداهن لمراسل "العربي الجديد" إن ابنها مات، وأشارت إلى حقيبة ظهرها التي تحمله فيها، وبدا رضيعا لا يتجاوز تسعة أشهر من عمره.
وأضافت "أريده أن يحظى بقبر مثل الآخرين، لن أتركه خلفي وأخرج، لست حيوانا.. من تسبب لنا بهذا الدمار هو الحيوان".
المدينة العتيقة أثرٌ بعد عين
المدينة القديمة، التي يسميها الموصليون المدينة العتيقة صارت أثراً بعد عين، وبالكاد ترى مباني سليمة فيها.
يقول ضابط في الجيش العراقي فوجئ بوصولنا إلى هذه النقطة: "قصف الأميركيون المنطقة بقنابل كبيرة لإنهاء القتال بعد وصول العبادي، وتأجيل البيان الخاص بالتحرير لحين القضاء على جيوب داعش في هذه المنطقة". ويضيف "هذا القصف كانت كلفته حياة عشرات المدنيين إن لم نقل المئات في أقل من 24 ساعة".
معالم وآثار دينية يعود بعضها إلى ما قبل ميلاد السيد المسيح، وأخرى إلى صدر الإسلام والحقبتين الأموية والعباسية، وآخرها العثمانية كلها سوّيت بالأرض.
رأينا على الأرض مخطوطه قديمة ممزقة، لم يعرها الجنود اهتماماً، بعض ما كتب فيها "هذا أمر الوالي حفظه الله ورعاه الرعية سواسية في رد المظالم المسلم والمسيحي واليهودي ولا شفاعة لدين أحدهم في حكم القضاء".
أحد الجنود أشار عندما رآها "إنها من هناك"، ودلّ على منزل قديم، عرفنا في ما بعد أن "داعش" نقل محتويات مكتبة من مكتبات الموصل، وحفظها في ذلك المنزل الذي دمر جزء منه، ونهب القسم الآخر.
منطقة النبي جرجس... دمار هائل وجثث
كاميرا "العربي الجديد" رصدت خروج آخر العائلات الناجية من جحيم المعارك والقصف الذي تعرضت له مناطق الميدان والقليعات والنبي جرجس في المدينة القديمة.
والوصول إلى عمق المدينة القديمة محفوف بالمخاطر والصعوبات، إذ كان علينا تسلق ركام المنازل والعبور من فتحات صغيرة بين جدران المنازل المتراصفة في الأزقة الضيقة.
أكثر من نصف منازل منطقة النبي جرجس المجاورة لبقايا منارة الحدباء التاريخية دُمّر بالكامل، وكانت تنبعث من بين الركام رائحة الجثث المتفسخة التي ما تزال مدفونة تحت الأنقاض. في حين جمع عناصر القوات الأمنية بعض الجثث على جوانب الطريق وغطوها، ومنعوا الصحافيين من تصويرها لاعتقادهم أنها لمدنيين قضوا خلال محاولتهم الهرب من مناطق الاشتباكات والقصف.
ويقول النقيب هادي عبد المحسن، من قوات مكافحة الإرهاب لـ"العربي الجديد": "قوات التحالف الدولي شنت غارات مكثفة بصواريخ شديدة الانفجار، بإمكانها تدمير الأنفاق العميقة والسراديب التي كان يتخذها عناصر تنظيم "داعش" مخابئ لهم وسط منازل المدينة القديمة في الموصل".
وأضاف أن "القوات الأمنية ما زالت تجري عمليات بحث دقيق، لاعتقال أو قتل عناصر داعش الذين يعتقد أنهم ما زالوا مختبئين في السراديب التي غطتها أطنان من ركام المنازل المستهدفة".
ورغم استمرار الاشتباكات العنيفة، انشغل عناصر في قوات مكافحة الإرهاب بالبحث عن العائلات التي كانت ما تزال محاصرة في منازلها وسط الموصل القديمة، لإخلائها خارج مناطق القتال.
تفتيش النساء والرجال خوفاً من انتحاريين
ورصدت كاميرا "العربي الجديد" خروج عشرات الأشخاص المحاصرين في منطقة الميدان والقليعات، والطلب من الرجال خلع ملابسهم للتأكد من عدم وجود انتحاريين من "داعش" متخفين بين جموع النازحين.
وكان يبدو على العائلات الناجية آثار الإعياء الشديد والعطش. وأكد أحد النازحين لـ"العربي الجديد" أنهم مكثوا في قبو المنزل أسبوعاً كاملاً، وما لديهم من طعام وشراب نفد منذ أربعة أيام، وإن عناصر تنظيم "داعش" منعوهم من مغادرة المنطقة، وهددوا بقتل من يحاول المغادرة.
وأوضح الرائد بسام الطائي من قوات مكافحة الإرهاب لـ"العربي الجديد" أن "أكثر من 17 عملية انتحارية تعرضت لها قواتنا من متسللين بين العائلات الهاربة من مناطق المدينة القديمة"، مؤكداً أن "من بين الانتحاريين نساء وفتيات لا تتجاوز أعمارهن خمسة عشر عاما، لذلك نحن حذرون جدا عند استقبال العائلات الهاربة".
وأضاف الطائي أن "قوات مكافحة الإرهاب تمكنت من اعتقال العشرات من عناصر تنظيم داعش لدى محاولتهم الهرب بصفة نازحين مع عائلاتهم"، مشيراً إلى أن "أغلب العائلات التي كانت محاصرة في آخر أجزاء المدينة القديمة قبل نهاية العمليات العسكرية هم من عائلات عناصر داعش".
وعن مصير النساء والأطفال الذين اعتقل ذووهم بتهمة الانتماء لتنظيم "داعش"، أفاد الطائي أن "جميع عائلات عناصر تنظيم داعش نقلوا إلى مراكز احتجاز خاصة للتحقيق معهم، والحصول منهم على معلومات".
وأعلن رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، عن نهاية العمليات العسكرية في الموصل والقضاء على وجود تنظيم "الدولة الإسلامية" في المدينة، بعد مضي أكثر من ثمانية أشهر على استمرارها، والتي نتج عنها سقوط آلاف الضحايا من المدنيين، ونزوح أكثر من مليون شخص من سكان المدينة وضواحيها.