إذا كانت الجامعة الأميركية في بيروت من أولى الجامعات الحديثة في المنطقة العربية إذ يتخطّى عمرها اليوم 150 عاماً، فإنّ الجامعات الأميركية المنتشرة في طول المنطقة وعرضها باتت راهناً فوق إمكانية الحصر، علماً أنّ نشأة الجامعات في العالم العربي قديماً ارتبطت بالدراسات الإسلامية سنية وشيعية أساساً وفي الأصل.
وظهور الجامعة الأميركية ترافق مع هجمة تبشيرية مسيحية كاثوليكية ( فرنسية وألمانية وإيطالية وفاتيكانية ونمساوية) وبروتستانتية (أميركية وبريطانية) وأرثوذكسية (روسية من دون شريك) على المنطقة، بعد ضعف السلطنة العثمانية وهزالها إلى الحدّ الذي سُميت معه كما هو معروف بـ "رجل أوروبا المريض". كان كلّ طرف سواء عمل تحت اسم جمعية تبشيرية أو بعثة كهنوتية مرسلة وممّولة من ملك أو إمبراطور يحاول أن يقتطع له "حصة" من ناس المنطقة، والبديهي أن تتوجه نحو أبناء الطائفة في وقت لم تكن قد تبلورت فيه بعد الهويات الوطنية أو القومية.
اليوم، تبدو الصورة مشابهة بعض الشيء، فالمنطقة ربّما تعيش مرحلة أقسى من تلك التي أشرنا إليها والتي مهّدت للاستعمار المباشر قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها. لكنّ البعثات حينذاك كانت متنوّعة مع رجحان فرنسي. اليوم، تختلف الصورة، إذ لدينا هيمنة أميركية طاغية على صعيد التعليم العالي، بخلاف ما بدأته تلك البعثات سابقاً من شروع في تأسيس مدارس للبنات أولاً وللصبيان ثانياً، ثمّ إنشاء ثانويات وبعدها كليات وصولاً إلى الجامعة. لكنّ مصدر الاختلاف الأهم بين هذه الموجة والموجات السابقة، هو أنّ الأولى - خصوصاً البعثات التبشيرية البروتستانتية - تعاطت بشروط المنطقة ولغتها، في حين كان كبار مبشريها مستشرقين ويجيدون العربية ويدرِّسون ويتعاطون بها. وقد ظلت الجامعة الأميركية تدرِّس الطب والتشريح والفيزياء والكيمياء والرياضيات وغيرها لعقود مديدة باللغة العربية، قبل أن تتحوّل إلى الإنكليزية. واليوم، تذهب المنطقة نحو الأمركة بشروط الأمركة مجرّدة من الحدّ الأدنى من شخصيتها القومية والحضارية واللغوية.
لكنّ بيت القصيد في مكان آخر. ففي غضون العقود الماضية نشأت مئات الجامعات الخاصة في المنطقة العربية وكان عدد كبير منها مجرّد فروع لجامعات أميركية عريقة اعتمدت مناهجها من دون زيادة ولا نقصان بالإضافة إلى نظمها الإدارية بالكامل. لا يتصورنّ أحد أنّ تلك الجامعات المتطوّرة تقدّم أسماءها وخدماتها الأكاديمية مجاناً، بل هي بخلاف ذلك تتقاضى مليارات الدولارات ثمناً لها. وهذه المبالغ غالباً ما تدفعها الدول المضيفة من جهة والطلاب من جهة أخرى. وبذلك تتوزّع المبالغ بين فريقَين هما: الدول (كما في معظم دول الخليج العربي) والمتموّلون الذين قرروا اعتماد أسماء تلك الجامعات ومناهجها باعتبارها ضمانة جذب للطلاب الى صفوفهم الدراسية. أمّا الأهل الذين يفضّلون أن يدرس أبناؤهم تحت ناظريهم وبالقرب منهم بدلاً من تحمّل تكاليف السفر والإقامة والأقساط، فهم يكتشفون في معظم الحالات أنّ كلفة الدراسة في الخارج هي أقل منها في "جامعاتنا" الأميركية.
(أستاذ جامعي)
اقــرأ أيضاً
وظهور الجامعة الأميركية ترافق مع هجمة تبشيرية مسيحية كاثوليكية ( فرنسية وألمانية وإيطالية وفاتيكانية ونمساوية) وبروتستانتية (أميركية وبريطانية) وأرثوذكسية (روسية من دون شريك) على المنطقة، بعد ضعف السلطنة العثمانية وهزالها إلى الحدّ الذي سُميت معه كما هو معروف بـ "رجل أوروبا المريض". كان كلّ طرف سواء عمل تحت اسم جمعية تبشيرية أو بعثة كهنوتية مرسلة وممّولة من ملك أو إمبراطور يحاول أن يقتطع له "حصة" من ناس المنطقة، والبديهي أن تتوجه نحو أبناء الطائفة في وقت لم تكن قد تبلورت فيه بعد الهويات الوطنية أو القومية.
اليوم، تبدو الصورة مشابهة بعض الشيء، فالمنطقة ربّما تعيش مرحلة أقسى من تلك التي أشرنا إليها والتي مهّدت للاستعمار المباشر قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها. لكنّ البعثات حينذاك كانت متنوّعة مع رجحان فرنسي. اليوم، تختلف الصورة، إذ لدينا هيمنة أميركية طاغية على صعيد التعليم العالي، بخلاف ما بدأته تلك البعثات سابقاً من شروع في تأسيس مدارس للبنات أولاً وللصبيان ثانياً، ثمّ إنشاء ثانويات وبعدها كليات وصولاً إلى الجامعة. لكنّ مصدر الاختلاف الأهم بين هذه الموجة والموجات السابقة، هو أنّ الأولى - خصوصاً البعثات التبشيرية البروتستانتية - تعاطت بشروط المنطقة ولغتها، في حين كان كبار مبشريها مستشرقين ويجيدون العربية ويدرِّسون ويتعاطون بها. وقد ظلت الجامعة الأميركية تدرِّس الطب والتشريح والفيزياء والكيمياء والرياضيات وغيرها لعقود مديدة باللغة العربية، قبل أن تتحوّل إلى الإنكليزية. واليوم، تذهب المنطقة نحو الأمركة بشروط الأمركة مجرّدة من الحدّ الأدنى من شخصيتها القومية والحضارية واللغوية.
لكنّ بيت القصيد في مكان آخر. ففي غضون العقود الماضية نشأت مئات الجامعات الخاصة في المنطقة العربية وكان عدد كبير منها مجرّد فروع لجامعات أميركية عريقة اعتمدت مناهجها من دون زيادة ولا نقصان بالإضافة إلى نظمها الإدارية بالكامل. لا يتصورنّ أحد أنّ تلك الجامعات المتطوّرة تقدّم أسماءها وخدماتها الأكاديمية مجاناً، بل هي بخلاف ذلك تتقاضى مليارات الدولارات ثمناً لها. وهذه المبالغ غالباً ما تدفعها الدول المضيفة من جهة والطلاب من جهة أخرى. وبذلك تتوزّع المبالغ بين فريقَين هما: الدول (كما في معظم دول الخليج العربي) والمتموّلون الذين قرروا اعتماد أسماء تلك الجامعات ومناهجها باعتبارها ضمانة جذب للطلاب الى صفوفهم الدراسية. أمّا الأهل الذين يفضّلون أن يدرس أبناؤهم تحت ناظريهم وبالقرب منهم بدلاً من تحمّل تكاليف السفر والإقامة والأقساط، فهم يكتشفون في معظم الحالات أنّ كلفة الدراسة في الخارج هي أقل منها في "جامعاتنا" الأميركية.
(أستاذ جامعي)