لا يوفّر الاحتلال الإسرائيلي أي نوع من أنواع الحصار إلا ويفرضه على الفلسطينيين. ويأتي الحصار الصحي ليضيّق الخناق على مرضى السرطان في الضفة الغربية وغزة، فالاحتلال يخاف من أجهزة العلاج الإشعاعي.
في رحلتها العلاجيّة الدوريّة، تترك نرمان رزق الله أبو ريدة، البالغة من العمر 13 عاماً منزلها في نابلس، شمالي الضفة الغربية المحتلة، عند الخامسة فجراً ولا تعود إليه قبل الرابعة عصراً. علاج السرطان الذي تخضع إليه لا يتوفّر إلا في مدينة القدس المحتلة التي يفصلها عن بقيّة مدن الضفة الغربية جدار شيّده الاحتلال الإسرائيلي، بالإضافة إلى حواجز عسكرية لا يمكن عبورها إلا بتصاريح رسمية يصدرها الاحتلال وبشروط معقّدة.
ونرمان التي تعاني من سرطان في البلعوم وتخضع للعلاج، منذ يوليو/تموز 2017، هي في الصف الثامن الأساسي، وقد توقّفت عن الدراسة، بحسب ما تخبر "العربي الجديد"، من أجل "الحصول على العلاج الإشعاعي في مستشفى المطلع في القدس. فالعلاج يتطلب وقتاً طويلاً، ومن الصعب جمعه مع الدراسة. والرحلة من نابلس إلى القدس تتطلّب ساعتَين ونصف الساعة، وطريق العودة يتطلّب الوقت نفسه". تجدر الإشارة إلى أنّ مستشفى المطلع يوفّر حافلة لقاصدي العلاج لديه تنقلهم في الصباح وفي المساء، لكنّ والدة نرمان التي ترافقها لا تستطيع انتظار انتهاء جلسات جميع المرضى، فتضطر إلى العودة مع ابنتها إلى نابلس على نفقتهما الخاصة، الأمر الذي يكلّف نحو 35 دولاراً لكلّ رحلة علاجية.
تبدو حال نرمان أفضل من حال محمد جودة، البالغ من العمر سبعة أعوام، والذي شخّصت إصابته بسرطان في الحوض، في ديسمبر/كانون الأول من عام 2016. هو من غزة، وبعدما خضع إلى سبع جلسات من العلاج الكيميائي، بدأ علاجه الإشعاعي في مستشفى المطلع كذلك، وقد حصل حتى اليوم على 11 جلسة من ضمن 25 جلسة مطلوبة. لكنّ الاحتلال لم يمنح والدته ولا والده التصاريح اللازمة لمرافقته إلى القدس، بالتالي يرافقه جدّه وجدته، نظراً إلى تقدّمهما في السنّ. يُذكر أنّه منذ وصوله إلى القدس لم يعد محمد إلى غزة، ويوفّر له المستشفى المنامة. فعودته إلى غزة بين جلسة وأخرى قد تعني حرمانه من العودة إلى القدس لمتابعة العلاج، في حال امتناع الاحتلال عن منحه تصريحاً جديداً، مثلما حدث مع كثيرين من قبله. وكانت رحلة محمد وجدَّيه قد استغرقت ستّ ساعات للوصول إلى القدس، من خلال معبر بيت حانون شمالي القطاع، لقاء نحو 45 دولاراً. تجدر الإشارة إلى أن قوات الاحتلال منعتهم من إدخال أيّ شيء، باستثناء ثيابهم. ويخبر محمد "العربي الجديد" أنّ "كلّ شيء ممنوع، الأكل وفرشاة الأسنان وشامبو الشعر".
محمد جودة المصاب بسرطان في حوضه (العربي الجديد) |
في مستشفى المطلع نفسه، يتلقّى علي محمود حنون، البالغ من العمر 22 عاماً، وهو من قلقيلية شمالي الضفة الغربية، علاجه الإشعاعي. وهو كان قد اكتشف، قبل عامَين ونصف العام، إصابته بسرطان الغدد الليمفاوية، ليخضع إلى ثماني جلسات من العلاج الكيميائي في أحد مستشفيات نابلس، قبل أن يوصَف له العلاج الإشعاعي. يقول محمود لـ"العربي الجديد" إنّ "الاحتلال منح والدتي ووالدي تصاريح لمرافقتي خلال العلاج، لكنّني رفضت حضورهما. الطريق الذي أقطعه خلال أيام العلاج طويل ومتعب، فأحتاج إلى ثلاث ساعات تقريباً ذهاباً ومثلها إياباً، ما عدا عبور حواجز الاحتلال وما يرافقه من إجراءات مشددة". وينطلق محمود من قلقيلية إلى نابلس يومياً عند الساعة السادسة صباحاً، ليعود مساءً بواسطة الحافلة التي يوفّرها المستشفى. ويوضح أنّ "جلسة العلاج الإشعاعي تمتدّ من ستّ دقائق إلى ثمان فقط، لكنّني أنتظر جميع المرضى حتى ينهوا جلساتهم. لذلك لا أصل إلى منزلي قبل الساعة الثامنة ليلاً". ويلفت محمود إلى أنّه في إحدى المرّات لم يصل إلى منزل حتى الساعة الثانية عشرة من منتصف الليل.
مستشفى واحد
مستشفى المطلع هو المستشفى الفلسطيني الوحيد الذي يقدّم العلاج الإشعاعي إلى جانب العلاج الكيميائي، لذلك فإنّ السلطة الفلسطينية تحوّل كل المرضى الذين يحتاجون إلى هذا النوع من العلاج إليه. يُذكر أنّ المستشفى توقّف عن تقديم الخدمات الطبية العامة ليصير متخصصاً في الأمراض السرطانية.
يقول المدير التنفيذي العام لمستشفى المطلع، وليد نمور، لـ"العربي الجديد"، إنّ "اتفاقية أوسلو منعت إدخال جهاز العلاج الإشعاعي إلى المستشفى مذ بدأت محاولات تخصيصه للأمراض السرطانية وتطويره في هذا المجال في عام 2000، لكنّ جهوداً بذلها وزير الخارجية الألماني (يوشكا فيشر) ونظيره الأميركي (كولن باول) أسفرت، في عام 2004، عن إدخال أوّل جهاز من هذا النوع وبدء العمل به. وراح يغطّي علاجات جميع المرضى، بمن فيهم مرضى الضفة الغربية وقطاع غزة. وفي عام 2011، استطاع المستشفى شراء جهاز آخر بتمويل من الحكومة الأميركية". ويشير نمور إلى أنّ "منظمة الصحة العالمية تقول بضرورة توفّر جهاز علاج إشعاعي واحد لكلّ نصف مليون نسمة، الأمر الذي يعني أنّ المستشفى في حاجة إلى 10 أجهزة، لا يتوفّر منها سوى واحد، إذ إنّ الأوّل انتهى عمره الذي يُقدّر بنحو 10 أعوام".
محمود حنون المصاب بسرطان الغدد اللمفاوية (العربي الجديد) |
ويشرح نمور أنّ "جلسة العلاج الإشعاعي تحتاج 15 دقيقة، ويشمل ذلك التحضير قبل الدخول. ويستدعي الأمر تخدير الأطفال، خوفاً من تحرّكهم أثناء الجلسة، وبالتالي توجّه الأشعة إلى مكان آخر غير الورم. وهو ما يلحق ضرراً بالطفل المريض". يضيف أنّ "عدد جلسات العلاج الإشعاعي التي يحتاجها المريض يختلف كلّ بحسب حالته وما يقرّره الأطباء. فبعضهم قد ينهي علاجه بعد جلستَين، وآخرون يحتاجون إلى 30 جلسة. كذلك ثمّة مرضى يحتاجون فقط إلى العلاج الإشعاعي من دون الكيميائي".
ويشير نمور إلى أن "الضغط الكبير على المستشفى، إذ إنّه الوحيد الذي يوفّر هذا العلاج، يدفعنا إلى تقديم جلسات من الساعة السادسة صباحاً حتى منتصف الليل بوتيرة يومية. ومن شأن ذلك إرهاق الجهاز". لكنّه يتعهّد بالعمل على زيادة عدد الأجهزة وتحسين نوعية العلاج قريباً. يُذكر أنّ 250 مريضاً من بين ألف مريض يتلقون العلاج الإشعاعي في المطلع، تحوّلهم وزارة الصحة الفلسطينية شهرياً، ويحتاجون إلى سبعة آلاف جلسة إشعاعية شهرياً.
وتربط إسرائيل منح التصاريح الطبية بأيّ حدث أمني قد يقع. فعمليات الطعن والدهس وإطلاق النار وكذلك وجود منع أمني مخابراتي على المريض، كلّها أسباب تؤدّي إلى حرمان مرضى السرطان من التصاريح اللازمة لدخول القدس. ويتضرّر الفلسطينيون في قطاع غزة من ذلك بطريقة أكبر من الفلسطينيين في الضفة الغربية، إذ تكون التشديدات عليهم أكبر، وهو الأمر الذي جعل إدارة المطلع تستأجر فنادق في القدس لتوفير إقامة لهم طوال فترة العلاج لتجنّب منع عودتهم.
فرن للطاقة النووية
أمام المتاعب التي يعانيها مرضى السرطان، والوقت الطويل الذي يحتاجونه من أجل الوصول إلى المستشفى ومغادرته إلى بيوتهم، وكذلك التهديدات المتواصلة بحرمانهم فجأة من التصاريح اللازمة للعلاج، فإنّ سؤالاً كبيراً يُطرَح حول أسباب عدم إدخال هذا الجهاز إلى الضفة الغربية لتفادي كلّ هذا العناء بالنسبة إلى المرضى وذويهم. فيجيب نمور قائلاً إنّ "الجهاز الإشعاعي يحوي فرناً صغيراً لتحضير الطاقة النووية، وهذا هو السبب الذي يتحجج به الاحتلال الإسرائيلي لمنع إدخال الجهاز إلى الضفة، وتعطيل إدخاله حتى إلى مستشفى المطلع الموجود داخل منطقة خاضعة كلياً للاحتلال مدنياً وعسكرياً". ويشكك نمور في ذرائع الاحتلال، ويرى أنّها "غير عملية، خصوصاً أنّ الفرن صغير وموجود لأسباب علمية".
الدكتور وليد نمور (العربي الجديد) |
في السياق، تفيد مصادر مطّلعة "العربي الجديد" بأنّ "وزارة الصحة الفلسطينية لم تطلب في الأساس إدخال الجهاز الإشعاعي إلى الضفة الغربية، وهي لم تهيئ أيّ موقع مناسب بالمواصفات اللازمة لوضع جهاز إشعاعي فيه، على الرغم من أنّ مثل هذه الأجهزة تصل إلى السلطة الفلسطينية، من خلال تمويل أجنبي أو عربي في العادة". تضيف المصادر نفسها أنّ "السلطة الفلسطينية ترغب في البدء بمحاولات إدخال الجهاز بعد ثلاثة أعوام أو أربعة تقريباً، وهي المدّة المتوقعة لإتمام بناء مستشفى خالد الحسن للسرطان المزمع إنشاؤه في الفترة المقبلة، من أجل وضع الجهاز فيه. وذلك على الرغم من أنّ هذه الأعوام سوف تضيف تكاليف باهظة أخرى تدفعها السلطة من خزينتها، إلى جانب الملايين التي دفعتها طوال أكثر من 10 أعوام مضت، وهي توجّه المصابين بالسرطان المحتاجين إلى علاج إشعاعي إلى مستشفى المطلع".
بين السلطة والمستشفى
خلال الأعوام الماضية، تكرّرت الأزمات الحادة بين إدارة مستشفى المطلع والسلطة الفلسطينية، نتيجة عدم التزام الأخيرة بدفع تكاليف التحويلات للمطلع، معللة ذلك في أحيان كثيرة بالأزمة المالية، وهو الأمر الذي دفع إدارة المستشفى، نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إلى التهديد بوقف استقبال المرضى الذين تحوّلهم السلطة، لتردّ السلطة باتهام إدارة المستشفى بالابتزاز وتزييف الحقائق.
يقول مدير الخدمات الطبية في وزارة الصحة الفلسطينية، أسامة النجار، لـ "العربي الجديد"، إنّ "السلطة طلبت إدخال الجهاز، لكنّ إسرائيل وضعت معوّقات أمام ذلك"، مقرّاً في الوقت ذاته بعدم توفّر مكان مناسب لوضع الجهاز فيه. يضيف: "نحن نريد إدخال الجهاز عند الانتهاء من تشييد مستشفى خالد الحسن بعد ثلاثة أعوام أو أربعة وليس اليوم". ويشير النجار إلى أنّ "المادة المشعّة المستخدمة في هذا النوع من العلاج تدوم لساعات، الأمر الذي يتطلّب مركز إنتاج أشعة قريبا من المنطقة من أجل توفير المادة بأقل قدر من الخسائر وبكفاءة أعلى. وهذا غير ممكن حتى اللحظة، وإسرائيل لا تسمح به". ويوضح أنّ "العمل جارٍ من أجل توفير مكان مناسب في مستشفى خالد الحسن للسرطان، الذي يبدأ تشييده قريباً"، مشيراً إلى أنّه "لا بدّ من أن يوضع الجهاز في طبقات تحت الأرض، ومحاطاً بإجراءات خاصة، لأنّ كميّة الإشعاعات الصادرة عنه قد تتسبّب في السرطان".
ويلفت النجار إلى أنّ "حصول مريض السرطان على العلاج في القدس والضفة الغربية في الوقت نفسه، يجعله مشتتاً وملفه مرتبكا"، لكنّه يؤكد أنّ "السلطة الفلسطينية ترى في مستشفى المطلع مؤسسة وطنية في القدس واجب دعمها. لذلك، فإنّ السلطة لا ترى مشكلة في مواصلة تحويل المرضى إليه، خصوصاً أنّ إسرائيل تمنع فلسطينيي القدس من العلاج في هذا المستشفى". ويكمل النجار أنّ "وزارة الصحة ابتعثت عدداً من الاختصاصيين للدراسة في الخارج، وتحديداً في مجال الأشعة العلاجية والأشعة التداخلية، في مركز الحسين للسرطان في الأردن وفي بعض الدول الأوروبية، بهدف تهيئتهم للعمل في مستشفى خالد للسرطان".