وصلت تصرخ وتستغيث، مستجيرةً بجدّي لأبي من ظلم زوجها. لم أعد أذكر جيداً سبب شكواها، فلم أكن أتجاوز السابعة من عمري يومها. لكنّ صراخها ولطمها، وشعرها المنفوش المتفلت من حجاب رأسها الأشيب، كلّها ملامح أدخلت إلى قلبي الخوف، وربما كانت سبباً في بقاء المشهد راسخاً في مخيلتي حتى الساعة.
كان يوماً صيفياً هادئاً هدوء قريتنا وقت الظهيرة. فاضطرب البيت عندما حلّت علينا المرأة المسنة المستغيثة كالغارة، وكسرت انسياب لحظاتنا. التففنا حولها، كباراً وصغاراً، وأطلّ الجيران من نوافذهم للاستخبار، وصار جدي يخاطبها بصوت مرتفع حتى خفضت صوتها.
المشهد لم يكتمل عند هذا الحدّ، فبعد وقت قصير، وصل ابنها الشاب وطلب منها بانفعال شديد العودة معه إلى البيت. رفضت واحتدم الجدال بينهما، فما كان منه إلا أن أمسكها من ذراعها وشدها باتجاه بوابة البيت. جلست أرضاً لكي تتجنب دفعاته، لكنه واصل جرّها وصار يسحبها على طول الزاروب المؤدي إلى الزقاق. قاومته للتخلص من قبضتيه القاسيتين، فسارع إلى إمساكها من شعرها وواصل سحلها.
لم تشغلني في ذلك الوقت أسباب ما حصل، والظروف التي شوهت الصلات بين أفراد تلك الأسرة، وإنما فكرت كثيراً بساقَي تلك الأم وما أصابهما من جروح، وبآلام رأسها المشدود. إنها انشغالات الطفولة التي تقف غالباً عند حدود ما تراه العين.
تلك الصورة مثال لما نراه خلال سنين حياتنا عن سوء معاملة كبار السن، قساوة بعضها يصدمنا، وبعضها الآخر المستتر لا ينجح في إخفاء إهمال وتخلٍ عن أب أو أمّ أو قريب.
أن تُظهر دراسة لمنظمة الصحة العالمية أن 90 في المائة من إساءة المعاملة لكبار السن يرتكبها أفراد الأسرة، ليس تفصيلاً عابراً ولا صدفة ولا واقعاً يمكن القبول به تحت ذريعة سوء الأحوال الاقتصادية والضغوط على اختلافها.
مسنّون هائمون في الشوارع ينامون على الأرصفة، ويبحثون في القمامة عن شيء يؤكل. كبار منسيون في دور الرعاية يتلقون الإساءات والتعنيف والإهمال. آباء مهملون في بيوتهم متروكين مع اكتئابهم ووحدتهم. ذنبهم أنهم كبروا وصاروا ذلك الضيف الثقيل الذي حان الوقت لكي يغادر إلى عالم الآخرة.
اقــرأ أيضاً
رعاية كبار السن ثقافة وسلوك ينتقلان من الكبار إلى الصغار. فهل نربي أطفالنا على أن إهمال الكبير خط أحمر لا يُسمح بتجاوزه، وأن الأجداد بحر من التجارب والقصص والتاريخ، ودفاتر يوميات غنية يستفاد منها حتى لو أخفق أصحابها في الحياة. وإن كبر السنّ لا يقلل من قدر الإنسان وحاجته للدعم المعنوي والعاطفي قبل المادي؟
لا بد أن يدرك أبناؤنا أن الحطّ من قدر وكرامة كبارهم هو المصير الذي ينتظرهم في المستقبل، وأن رعاية الكبار فرض واجب وليست خياراً.
كان يوماً صيفياً هادئاً هدوء قريتنا وقت الظهيرة. فاضطرب البيت عندما حلّت علينا المرأة المسنة المستغيثة كالغارة، وكسرت انسياب لحظاتنا. التففنا حولها، كباراً وصغاراً، وأطلّ الجيران من نوافذهم للاستخبار، وصار جدي يخاطبها بصوت مرتفع حتى خفضت صوتها.
المشهد لم يكتمل عند هذا الحدّ، فبعد وقت قصير، وصل ابنها الشاب وطلب منها بانفعال شديد العودة معه إلى البيت. رفضت واحتدم الجدال بينهما، فما كان منه إلا أن أمسكها من ذراعها وشدها باتجاه بوابة البيت. جلست أرضاً لكي تتجنب دفعاته، لكنه واصل جرّها وصار يسحبها على طول الزاروب المؤدي إلى الزقاق. قاومته للتخلص من قبضتيه القاسيتين، فسارع إلى إمساكها من شعرها وواصل سحلها.
لم تشغلني في ذلك الوقت أسباب ما حصل، والظروف التي شوهت الصلات بين أفراد تلك الأسرة، وإنما فكرت كثيراً بساقَي تلك الأم وما أصابهما من جروح، وبآلام رأسها المشدود. إنها انشغالات الطفولة التي تقف غالباً عند حدود ما تراه العين.
تلك الصورة مثال لما نراه خلال سنين حياتنا عن سوء معاملة كبار السن، قساوة بعضها يصدمنا، وبعضها الآخر المستتر لا ينجح في إخفاء إهمال وتخلٍ عن أب أو أمّ أو قريب.
أن تُظهر دراسة لمنظمة الصحة العالمية أن 90 في المائة من إساءة المعاملة لكبار السن يرتكبها أفراد الأسرة، ليس تفصيلاً عابراً ولا صدفة ولا واقعاً يمكن القبول به تحت ذريعة سوء الأحوال الاقتصادية والضغوط على اختلافها.
مسنّون هائمون في الشوارع ينامون على الأرصفة، ويبحثون في القمامة عن شيء يؤكل. كبار منسيون في دور الرعاية يتلقون الإساءات والتعنيف والإهمال. آباء مهملون في بيوتهم متروكين مع اكتئابهم ووحدتهم. ذنبهم أنهم كبروا وصاروا ذلك الضيف الثقيل الذي حان الوقت لكي يغادر إلى عالم الآخرة.
رعاية كبار السن ثقافة وسلوك ينتقلان من الكبار إلى الصغار. فهل نربي أطفالنا على أن إهمال الكبير خط أحمر لا يُسمح بتجاوزه، وأن الأجداد بحر من التجارب والقصص والتاريخ، ودفاتر يوميات غنية يستفاد منها حتى لو أخفق أصحابها في الحياة. وإن كبر السنّ لا يقلل من قدر الإنسان وحاجته للدعم المعنوي والعاطفي قبل المادي؟
لا بد أن يدرك أبناؤنا أن الحطّ من قدر وكرامة كبارهم هو المصير الذي ينتظرهم في المستقبل، وأن رعاية الكبار فرض واجب وليست خياراً.