وصل الربيع العربي بعد الثورة المضادة والحكم العسكري المنقلب على حق الناس في الاختيار والعيش الكريم إلى مرحلة صعبة ومحيرة ومؤلمة، صار التجديد الثوري فيها أوجب الواجبات، لأن بديل الانهزام أمام إرهاب السلطة المجرمة والثورة المضادة ليس خياراً مطروحاً.
ناضلت ثورة الحرية ضد الاستبداد والحكم العسكري في مصر طوال عشر سنوات؛ هي العمر الإجمالي للثورة منذ حراك 2005 الذي أشعل الحركة الاحتجاجية الطويلة ضد نظام مبارك في عقده الأخير، ووصلت لتطورها المنطقي في 25 يناير/كانون الثاني 2011، حين نجحت في إقناع قطاع شبابي لا بأس به بفكرة التغيير وإمكان التغيير ففتحت طاقة الأمل، ودشنت مسارا نضاليا أعمق وأوضح مع الاستبداد العسكري الذي يحكم مصر منذ ستة عقود.
ومثلت الثورة العربية في أحد أوجهها المتعددة حالة وصل نادرة بين تراث أصيل وحداثة واعية، إذ إن جوهر مطالبها هو (الكرامة الإنسانية) بما يمثل قيمة ومعنى إسلاميا أصيلا إذ اختص الله النوع الإنساني بالتكريم والأمانة (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) ووهبه التمييز والاختيار من جملة نعم أنعمها عليه، وفي الوقت ذاته اعتبرت الكرامة الإنسانية أساس حقوق الإنسان ومنبع القانون الحديث، والمبدأ الرئيس الذي تفهم من خلاله قيم الحرية والعدالة والمساواة بصيغها الحديثة، وهو اتصال وتجديد حققته الثورة العربية بصراعها مع الاستبداد، والحكم العسكري الجبري الذي يمثل ذروة التخلف والرجعية عن الحداثة مثلما يمثل الجاهلية والانحطاط عن تراث المسلمين.
وإذ تحتاج الثورة وحراكها المستمر لتجديد وتطوير، تمثل فكرة تحالف كل المظلومين ضد الظالم الفاشل المستبد صيغة مناسبة لتطوير الحراك الثوري، ولتفجير كل المظالم في وجه السلطة الظالمة التي تقتل وتسجن وتنهب وتهجر الناس في سيناء، وتقضي على أحلامنا بلا حساب، وتحتاج هذه الصيغة للوعي بخرائط الظلم ومساحات المظالم في مصر وحملها كافة بصدق وأمانة ومسؤولية وبلا تفرقة ولا استثناء، وإدراك حقيقة أن مظالمنا الخاصة ليست كل شيء ما لم تكن ضمن مظالم عموم الناس في مصر (ماذا عن المسجونين الجنائيين غير السياسيين مثلاً، وماذا عن المحافظات المهمشة، وماذا عن ضحايا الفساد، وماذا عن بلطجة الداخلية ضد عموم الناس، وليس ضدنا فقط، وماذا عن المعدمين والمحرومين من الصحة والتعليم في المناطق الشعبية؟ ......)، كان الناس ينتظرون منا حمل مظالمهم الخاصة أيضاً، وليس مطالب الثورة فقط، وعموم الناس في مصر يتعرضون أيضاً للقتل والسرقة والاعتقال من السلطة الظالمة التي تشيع الظلم وتوزعه على الجميع.
توازياً مع ذلك يجب أن تستمر الصيغ القديمة حتى تتطور الصيغة المأمولة الحاسمة، وهي استمرار عنوان ثورة يناير وعنوان الدفاع عن حق الناس في الاختيار، واستمرار العنوان الإسلامي (ضد تجريم الانتماء الإسلامي حصراً وأرهبته واعتباره طائفية بل الطائفية بالضبط هي تجريم الانتماء)، والحراك الحقوقي وحقوق المعتقلين والشهداء، وحتى حراك المطالب الجزئية مثل إلغاء قانون التظاهر، وغيرها.. كحراكات جزئية رمزية نوعية حتى رغم كونها غير قادرة على كسر الحكم العسكري بدون تطويرها وتوسيعها، والشارع يتسع لأكثر من حراك وأكثر من عنوان وبوابة ولافتة، ويقبل تعدد المسارات وتوازيها وكل حراك ثوري جاد هو خصم من الحكم العسكري، والتنسيق والتشبيك مهم لكن التكامل يتحقق ولو بالحد الأدنى من التواصل.
وظيفتنا أن نبقي الجذوة الثورية الحالية مشتعلة، وهذا مهم لكسب الوعي لكنه لا يسمح ولا يكفي لإسقاط النظام، ولا يملك أدوات الحسم والقوة للصدام مع الحكم العسكري وإرهاب الدولة، والحل هو أن تنفجر كل المظالم في وجه السلطة الظالمة بدون أن تقدر على تصديرها، ولا تأجيلها ولا التفرقة بينها والناس تعرف كيف تواجه عنف الدولة وتمتلك حلولا أكثر إبداعاً.. نحن بصدد حالة جديدة تقدر ما حققته الثورة والشرعية وتجربة الأعوام الأربعة الماضية التي فتحت الباب، وأضاءت الطريق وثمرتها هي الوعي والمعرفة بطبيعة وحقيقة الصراع، واستمرار جذوة وشعلة ثورية غير حاسمة يمكن أن تكون نواة للحراك الأوسع الذي لم يأتِ بعد.. يمكن أن نعود مرة أخرى عبر بوابة المظالم التي نشترك فيها مع عموم الناس، وعبر حمل معاناتهم وآلامهم بصدق وأمانة وتحمل للمسؤولية الثقيلة.
الوعي بالتنوع
نحن ما زلنا نراهن على وعي الناس، وعلى بقية الخير فيهم ونحسن الظن بعمومهم الذين لم يفوضوا القاتل، وأعطوا الثورة أصواتهم وآمالهم، وأملوا أن تعبر عن آلامهم وهمومهم الخاصة أيضاً، وليس الهم الوطني والرسالي العام فقط، ولأن الحراك المقاوم للانقلاب يعي جيداً أنه غير قادر على الحسم الثوري بشكله الحالي، بل إنه جذوة الثورة وهو موجّه بالأساس لإقناع الناس بعدالة القضية التي يحملها (قضية الحرية ضد الاستبداد والحكم العسكري، والعدل للظالمين والمظلومين).
نحب أن يعرف أهلنا المصريون.. أننا حين قمنا بالثورة وقاومنا الثورة المضادة عليها.. وحين وقفنا في وجه نظام مبارك والحكم العسكري الانقلابي.. كنا نحاول أن نبحث لأهلنا قبل أنفسنا عن حياة حرة كريمة وعدالة تليق بالإنسان المظلوم في بلدنا المقهور، ولم يكن لنا أي مغانم بل مغارم خالصة نعرفها جيداً.. كنا نحاول أن نجنب أهلنا وبلدنا كل الفجور والشرور التي لازمت حكم العسكر، وكان يمكن أن نؤثر السلامة الشخصية لو شئنا أو نصل لصيغة تحفظ وجودنا آمناً لو أردنا.. ولم يعد أمامنا بعد أن صارت أرواح الشهداء شاهدةً علينا وتضحيات المصابين والمعتقلين والمطاردين والمهجرين والمظلومين طيلة أربع سنوات، إلا أن نتم مسار ثورة طويلة شاقة ومكلفة لا يكافئ أثمانها الباهظة المدفوعة سلفاً إلا نصرها الآتي..
وللأسف رغم أن كل أصدقاء الحرية وأعداء الاستبداد، سواء منهم من ناضل من داخل المنظومة أو من خارجها، مثلوا الأمل الممكن لعموم الناس لينالوا حقهم في العيش الكريم وحقهم في الاختيار الحر، لكننا قصرنا في كسب الوعي تقصيرنا في البدائل والأدوات وأتى الانقلاب العسكري ليرتفع بالوعي الثوري لذروته الممكنة، ويكشف معظم أشكال الاندساس في الثورة والتآمر عليها، ويفضح الكاذبين الذين أجرموا في حق الثورة إجرامهم في حق أنفسهم، ولأن قطاعاً من المصريين لم يدرك أن حصوله على لقمة العيش الكريمة بكرامة لا يكون إلا في نظام من العدل والحرية يعم الجميع ولا يستثني أحداً، وللأسف، ونحن لم نرد ذلك ولم نقبله، فإن قطاعاً من المصريين قبل التضحية بالحرية التي جاءت بها 25 يناير ليضمن قوته ومعيشته المستورة، وقبل بعضهم التضحية بفرصة العدالة الممكنة التي جاءت بها انفراجة رحيل مبارك مقابل تسيير حياته، لكن الحكم العسكري الفاشل قضى بنفسه على أوهام العيش دون عدل وحرية، وأنهى تماماً فكرة العيش المستور تحت حكم قمعي مرة واحدة وإلى الأبد!
*مصر